ولا نعتقد أن نكبة ابن رشد كانت شذوذا من هذه القاعدة في بعض أسبابها على الأقل إن لم نقل في جميعها، وقد مر بنا أن المنصور أنكر منه مخاطبته إياه بغير كلفة، وأنه ذكره في كتاب الحيوان باسم ملك البربر، وأنه كان وثيق الصلة بأخيه الذي كان يخشى من منافسته إياه، وبعض هذه البواعث كاف لاستهداف الفيلسوف لغضب المنصور، ولكن المعروف عن أمراء الموحدين أنهم كانوا يتحرجون من إيقاع العقاب بالناس لأمثال هذه الأسباب، فمن الراجح أنه تعلل لعقاب ابن رشد بعلة ترضي ضميره وترضي جمهرة الشعب بالذريعة المقبولة في أمثال هذه الأحوال.
فمن هذه الذرائع «أن قوما ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفارة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة ... فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد - رحمه الله - قال له بعد أن نبذ إليه الأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر ... فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط، وأمر الحاضرين بلعنه ...»
9
ونحن نعلم اليوم بعد دراسة أساطير اليونان أنهم كانوا يسمون الزهرة ربة الحب، وأنهم أخذوا هذا من البابليين، وأن كلمة فينوس - أي الزهرة - مأخوذة من كلمة «بنوت»، أي «بنت»، وكانت فاؤها تكتب باء في بعض الكتب اليونانية القديمة، وأن هذا كله لا يتعدى المجاز، كما يقول القائل منهم رب البحر وربة الغاب وربة الغناء وأشباه هذه الأسطورات، ولا يبعد أن الأسطورة قد رويت في كتب ابن رشد كما نقلها عن اليونان على هذا المثال ... أما أن يكون ابن رشد معتقدا ربوبية الزهرة ربة الحب أو ربة غيره فذلك بعيد، جد بعيد.
وقيل في أسباب النكبة إن حساد ابن رشد دسوا عليه أناسا من تلاميذه يستملونه شرح الكتب الفلسفية، فشرحها لهم ونقلوها عنه كأنها من رأيه وكلامه، وأشهدوا عليها مائة شاهد ثم رفعوها إلى الخليفة، وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته، فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية اليشانة (لوسينا) بجوار قرطبة ولا يبرحها.
فإذا صح حدوث هذا في إبان اشتغال الخليفة بحرب الإفرنج وتوجسه من أهبة الخارجين عليه في الخفاء، فالأرجح أنه هو ذريعة النكبة؛ لأن الغضب الديني يحتدم في إبان العداوات الدينية، فلا يتحرج الخليفة من إرضاء الناس وإرضاء ضميره وإرضاء هواه في مثل هذه الحال، وقد نكبت مع ابن رشد طائفة من القضاة والفقهاء وذوي المناصب، لا يبعد أن يكون الخليفة قد ظن بهم الظنون وشك في ممالأتهم لمنافسيه ومناظريه، ولم يتسع له الوقت لاستقصاء مظان التهمة، ولا كان في وسعه أن يسكت عن قضية الثائرين باسم الغيرة على الدين، فلحقت به النكبة من هذا الطريق.
وجاء في ترجمة الأنصاري له: «حدثني الشيخ أبو الحسن الرعيني - رحمه الله - قراءة عليه ومناولة من يده، ونقلته من خطه قال: وكان قد اتصل - يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير - بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده فاستكتبه واستقضاه. وحدثني - رحمه الله - وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة - فقال: إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذاك حين شاع في المشرق والأندلس على السنة المنجمة أن ريحا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيا لهذه الريح، ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد واستدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد - وهو القاضي بقرطبة يومئذ - وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب. قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير - وكنت حاضرا - فقلت في أثناء المفاوضة: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال: فانبرى إلي ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا؛ فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...»
وقصة عبد الكبير هذه لم يرد لها ذكر في سياق الاتهام والمحاكمة، وقد كان الاستناد إليها أولى من تصيد التهم واختلاس الأوراق والبحث فيها عن المعاني المتشابهة؛ لأن الكلمة قد بدرت من ابن رشد - إذا صحت قصة عبد الكبير - على مسمع من «حاضرين» كثيرين.
ومن الغريب حقا أن تبدر تلك الكلمة من ابن رشد مع التزامه لشعائر الدين قبل النكبة وبعدها، وقد كان صاحب القصة يراه - كما قال - يخرج إلى الصلاة وعلى قدميه أثر الماء، وقد اعترف كاتب المنشور الذي أذاع حرمان ابن رشد بهذا الحرص على التزام الشعائر، فقال: «إنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم ...» وقد ثابر على حضور الصلاة في المسجد بعد النكبة ، وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال، فقال: «إن أعظم ما طرأ عليه في النكبة أنه دخل وولده عبد الله مسجدا بقرطبة - وقد كانت صلاة العصر - فثار لهما بعض سفلة العامة فأخرجوهما ...» وكان يقول في درس الطب: «من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله.»
فصدور الكلمة التي نقلها عبد الكبير عن ابن رشد غريب غاية الغرابة من رجل يظهر ذلك الورع ويلتزم الشريعة ذلك الالتزام، ولو كان يفعل ذلك من باب الرياء والمداراة، فإن متعمد الرياء أحرص على بدواته
অজানা পৃষ্ঠা