إنه وهو في القضاء كتب الجزء الأكبر من كتبه التي خلدت اسمه وجعلته علما من الأعلام، كما أنه عني بتسجيل بعض تواريخ ما كتب بضروب مختلفة من التسجيل.
ففي آخر شرحه لكتاب الحيوان يذكر أنه انتهى منه في شهر صفر سنة 565ه في مدينة إشبيلية وهو قاض بها، بعد أن انتقل إليها من قرطبة. وفي آخر شرحه الوسيط لكتاب «الطبيعة» يبين أنه أتمه هذا العام بإشبيلية أيضا بعيدا عن كتبه ومستنداته العلمية، وفي شروحه لكتاب «الآثار العلوية
Les Méteorolagiques » ذكر لنا أنه لم يشهد الزلزال العظيم الذي حصل بقرطبة سنة 566ه؛ لأنه كان بإشبيلية في ذلك الوقت، وإن كان قد عاد إلى قرطبة بعد ذلك بقليل.
ونرى إحساسه القوي برسالته، وبأن حياته قد لا تتسع لها، مع رغبته في القيام بها بقدر وسعه، يتجلى واضحا في أنه في آخر الكتاب الأول لمختصر «المجسطي» يذكر أنه أوجب على نفسه أن يقصر جهده على القضايا التي لا غنى عنها، كما يرى نفسه شبيها برجل اندلعت النار في داره فجأة؛ فهو لا يجد من الوقت إلا ما يتسع لإنقاذ أعز الأشياء عنده، وآثرها لديه، وأشدها ضرورة للحياة.
وأخيرا، نحس هذا الإحساس أقوى مما أحسسناه من قبل، إذا عرفنا أنه أتم شروحه المتوسطة على الخطابة والبلاغة وعلى ما بعد الطبيعة سنة 570ه، وهو مضنى الجسم منهوك من التعب، ومن مرض خطير ألح عليه في ذلك الحين، وأنه أسرع بكتابة السطور الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة وهو مريض هذا المرض الشديد؛ خشية أن يترك هذا العمل غير تام، وفي مرجوه - إذا مد الله في عمره - أن يكتب على هذا الكتاب وغيره من كتب المعلم الأول شروحا أطول وأوفى. وكان من حسن حظ العلم والفلسفة أن أناله الله ما رجاه، وقد أعانه عليه أنه بعد أن تقدمت سنه اعتزل أعماله الرسمية ليتوفر على إتمام تلك الأعمال الفلسفية الكبيرة.
فيما ذكرنا، بل في بعضه، دلالة أو دلالات على أن ابن طفيل بتوجهه لابن رشد برغبة الخليفة في شرح أرسطوطاليس وتقريبه للأفهام صادف نفسا راغبة، وفكرا نافذا، وشعورا بالرسالة مرهفا، وإرادة قوية مسعفة؛ ولذلك كله تم لهم جميعا ما رجوه من شرح المعلم الأول، كما تم لفيلسوف قرطبة ما عمل له دهرا طويلا من عمره؛ وهو التوفيق بين الدين والفلسفة، والانتصاف لهذه بعد ما كاله لها الغزالي من ضربات.
هذه الرسالة ما هي؟
لا يكفي لتعرف منزلة علم من أعلام الفلسفة أو الفقه أو الأدب أو الفن مثلا، أن نزن ما برع فيه من هذا اللون أو غيره من ألوان المعرفة، بل لا بد مع هذا من التساؤل عن البواعث التي وجهته التوجيه الذي اختص به في دراسته، والهدف أو الرسالة التي ملكت عليه أمره، وعمل لها طول حياته، والتي تعتبر إلى حد كبير مفتاحا لفهم نزعاته واتجاهاته.
فإذا كان الأمر كذلك، فما البواعث أو العوامل التي دفعت فيلسوف قرطبة إلى الفلسفة وبحث صلاتها بالشريعة؟ وما الرسالة التي ملكت عليه أمره، واتخذ الوسيلة وسيلة لها، وعمل جاهدا على الوصول إليها؟
هذه الرسالة على ما نعتقد كانت الانتصاف للفلسفة، ورد اعتبارها لها، وإحياءها بعد ما لقيت من الغزالي، والتوفيق بينها وبين الدين أو الشريعة. وتلك الرسالة أسمى الرسالات التي يندب لها نفسه فيلسوف متدين، وهي مع هذا رسالة جعلتها أمرا لازما الظروف التي اجتازها التفكير الإسلامي قبل ابن رشد، وكان يجتازها في عصره أيضا.
অজানা পৃষ্ঠা