(148) وأما إن نقلت الملة من أمة كانت لها تلك الملة إلى أمة لم تكن لها ملة، أو أخذت كانت لأمة فأصلحت فزيد فيها أو أنقص منها أو غيرت آخر فجعلت لأمة أخرى فأدبوا بها وعلموها ودبروا بها، أمكن أن تحدث الملة فيهم قبل أن تحصل الفلسفة وقبل أن يحصل الجدل والسوفسطائية، والفلسفة التي لم تحدث فيهم عن قرائحهم ولكن نقلت إليهم عن قوم آخرين كانت هذه فيهم قبل ذلك، أمكن أن تحدث فيهم بعد الملة المنقولة إليهم.
(149) فإذاكانت الملة تابعة لفلسفة كاملة وكانت الأمور النظرية التي فيها غير موضوعة فيها كما هي في الفلسفة بتلك الألفاظ التي يعبر بها عنها بل إنما كانت قد أخذت مثالاتها مكانها إما في كلها أو في أكثرها، ونقلت تلك الملة إلى أمة أخرى منغير أن يعرفوا أنها تابعة لفلسفة ولا أن ما فيها مثالات لأمور نظرية صحت في الفلسفة ببراهين يقينية بل سكت عن ذلك حتى ظنت تلك الأمة أن المثالات التي تشتمل عليها تلك الملة هي الحق وأنها هي الأمور النظرية أنفسها، ثم نقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة التي هذه الملة تابعة لها في الجودة، لم يؤمن أن تضاد تلك الملة الفلسفة ويعاندها أهلها ويطرحونها، ويعاند أهل الفلسفة تلك الملة ما لم يعلموا أن تلك الملة مثالات لما في الفلسفة. ومتى علموا أنها مثالات لما فيها لم يعاندوها هم ولكن أهل الملة يعاندون أهل تلك الفلسفة. ولا تكون للفلسفة ولا لأهلها رئاسة على تلك الملة ولا على أهلها بل تكون مطرحة وأهلها مطرحة، ولا يلحق الملة كثير نصرة من الفلسفة، ولا يؤمن أن تلحق الفلسفة وأهلها مضرة عظيمة من تلك الملة وأهلها. فلذلك ربما اضطر أهل الفلسفة عند ذلك إلى معاندة أهل الملة طلبا لسلامة أهل الفلسفة. ويتحرون أن لا يعاندواالملة نفسها بل إنما يعاندونهم في ظنهم أن الملة مضادةللفلسفة ويجتهدون في أن يزيلوا عنهم هذا الظن بأن يلتمسوا تفهيمهم أن التي في ملتهم هي مثالات.
(150) وإذا كانت الملة تابعة لفلسفة هي فلسفة فاسدة ثم نقلت إليهم بعد ذلك الفلسفة الصحيحة البرهانية، كانت الفلسفة معاندة لتلك الملة من كل الجهات وكانت الملة معاندة بالكلية للفلسفة. فكل واحدة منهما تروم إبطال الأخرى، فأيتهما غلبت وتمكنت في النفوس أبطلت الأخرى أو أيتهما قهرت تلك الأمة أبطلت عنها الأخرى.
(151) وإذا نقل الجدل أو السوفسطائية إلى أمة لها ملة مستقرة ممكنة فيهم فإن كل واحد منهما ضار لتلك الملة ويهونها في نفوس المعتقدين لها، إذ كانت قوة كل واحدة منهما فعلها إثبات الشيء أو إبطال الشيء أو إبطال ذلك الشيء بعينه. فلذلك صار استعمال الطرق الجدلية والسوفسطائية في الآراء التي تمكنت في النفوس عن الملة يزيل تمكنها ويوقع فيها شكوكاويجعلها بمنزلة مالم يصح بعد وينتظر صحتها، أو يتحير فيها حتى يظن أنها لا تصح هي ولا ضدها. ولذلك صار حال واضعي النواميس ينهون عن الجدل والسوفسطائية ويمنعون منهما أشد المنع. وكذلك الملوك الذين رتبوا لحفظ الملة - أي ملة كانت - فإنهم يشددون في منع أهلها ذينك ويحذرونهم إياهما أشد تحذير.
(152) فأما الفلسفة فإن قوما منهم حنوا عليها. وقوم أطلقوا فيها. وقوم منهم سكتوا عنها. وقوم منهم نهوا عنها، إما لأن تلك الأمة ليس سبيلها أن تعلم صريح الحق ولا الأمور النظرية كما هي بل يكون سبيلها بحسب فطر أهلها أو بحسب الغرض فيها أو منها أن لا تطلع على الحق نفسه بل إنما تؤدب بمثالات الحق فقط أو كانت الأمة أمة سبيلها أن تؤدب بالأفعال والأعمال والأشياء العملية فقط لا بالأمور النظرية أوبالشيء اليسير منها فقط، وإما لأن الملة التي أتى بها كانت فاسدة جاهلية لم يلتمس بها السعادة لهم بل يلتمس واضعها سعادة ذاته وأراد أن يستعملها فيما يسعد هو به فقط دونهم فخشى أن تقف الأمة على فسادها وفساد ما التمس تمكينه في نفوسهم متى أطلق لهم النظر في الفلسفة.
(153) وظاهر في كل ملة كانت معاندة للفلسفة فإن صناعة الكلام فيها تكون معاندة للفلسفة، وأهلها يكونون معاندين لأهلها، على مقدار معاندة تلك الملة للفلسفة.
الفصل الخامس والعشرون:
পৃষ্ঠা ৪৫