ألا إن للمثقفين همومهم، أفيتركونها ليعالجوا مسائل في ميدان السياسة، فيهدرون فطرتهم الموهوبة في غير ما أراد لها واهبها أن تنمو وتثمر؟
زكي نجيب محمود
أزمة المثقف العربي
1
إنني إذ أصدر حديثي عن المثقف العربي المعاصر، والأزمة التي يجتازها، بتعريف يبين لنا من هو هذا المثقف المقصود، كما يبين الأزمة المشار إليها، متى تكون وكيف، أوثر أن أختار من التعريفات الكثيرة لهاتين اللفظتين، ما هو أنفع لحديثنا هذا، وما هو في الوقت نفسه أيسر قبولا.
فالمثقف الذي أردته، إنما هو إنسان بضاعته أفكار، سواء أكانت تلك الأفكار من إبداعه هو، أم كانت منقولة عن سواه، ولكنه آمن بها إيمانا أقنعه بأن يحياها، ثم لا يقتصر على أن يحياها هو بشخصه، بل يريد أن يقنع بها الآخرين ليحيوها معه، والأرجح أن تكون هذه الأفكار من الصنف الذي يغير الناس نحو ما يظن أنه الأفضل، على تفاوت في ذلك بين فكرة وفكرة؛ إذ إنه من الأفكار ما من شأنه أن يغير وجه الحياة على نطاق واسع، ومنها ما ينحصر في جانب ضيق من جوانب تلك الحياة.
المثقف الذي أريده بهذا الحديث، هو من طراز ديمقريطس الذي قال إنه يفضل لنفسه أن يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة، على أن يظفر بملك فارس؛ المثقف الذي أريده هنا هو من طراز الجاحظ الذي كان بطريقة تفكيره وتعبيره، نقطة تحول للثقافة العربية كلها من وجدان الشاعر إلى عقل الناثر؛ المثقف الذي أريده هنا هو الذي تمثل في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، كما تمثل في جماعة إخوان الصفا عندنا إبان القرن العاشر؛ وهو الذي تمثل في الجمعية الفابية التي عملت بفكرها في الحياة الإنجليزية منذ أوائل هذا القرن حتى غيرت مجرى تلك الحياة تغييرا عميق الأثر، أو هو الذي تمثل في الحركة الفكرية العارمة التي أشعلت جذوة النهضة عندنا خلال العشرينيات من هذا القرن، والتي ما نزال نعيش اليوم على ضيائها.
كل هؤلاء قد تجسد فيهم المعنى الذي أشرت إليه في تعريف المثقف، وهو أن يكون رجلا بضاعته أفكار يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل.
وأما الأزمة التي نزعم بهذا الحديث أن المثقف العربي يعانيها، فهي - ككل أزمة في أي مجال آخر - أن يكون الهدف محددا واضحا، لكن الطريق إليه مسدود؛ وبذلك لا تختلف أزمة المثقف في صورتها عن أزمة المحب، الذي يعرف ما يريده، لكن وسائل الوصول إلى ما يريده ممتنعة عليه؛ فكذلك المثقف المأزوم: هو إنسان حمل في رأسه أفكارا، واعتقد بأنها أفكار لا بد من بثها لتطوير الحياة وأشكالها، لكنه حين هم بنشرها، صدمته العوائق التي تحول دون ذلك النشر؛ وقد تكون تلك العوائق من صنع الآخرين آنا، ولكنها كذلك قد تكون - آنا آخر - حيرة في نفسه هو، وذلك إذا ما تعددت أمامه سبل الوصول، فلا يدري ماذا يختار منها وماذا يدع.
وعلى ضوء ما قلناه، يصبح موضوعنا هو محاولة الإجابة عن سؤالين هما؛ أولا: ما هي الأفكار التي يريد المثقف العربي أن ينشرها في الناس لو أتيحت له السبل؟ وثانيا: ما هي المعوقات التي قد تحول دون ذلك النشر فتحدث عنده الأزمة؟
অজানা পৃষ্ঠা