2
إنني لا أرى - بين المعضلات التي تتحدى المثقف العربي في زماننا - ما هو أشد تعقيدا وأعسر حلا، من محاولته أن يجمع طرفين، يكادان يكونان متضادين، في صيغة حياتية واحدة، ألا وهما المحافظة على هويته التاريخية من جهة، والحرص - في الوقت نفسه - على أن يعاصر دنياه التي تعج من حوله بمخابير المعامل وعجلات المصانع؛ إن المثقف العربي على وعي كامل بما يريده في هذا المجال، وهو الجمع بين هذين الطرفين جمعا لا يداخله القلق، لكنه حتى هذه الساعة لا يدري كيف؟ ونظرة عجلى إلى جماعة المتعلمين في الوطن العربي، كافية لبيان مدى اختلافنا البعيد في تصور الحياة التي نريد أن نحياها؛ فهؤلاء المتعلمون يقعون في مجموعات ثلاث: إحداها تريد تحقيق الهدف بأن تجعل ثقافتنا الموروثة هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها قبلناه، وما تعارض معها رفضناه؛ والثانية تريد تحقيق الهدف ذاته بأن تجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها من تراثنا أبقيناه، وما خالفها من ذلك التراث أهملناه، وأما المجموعة الثالثة فهي وحدها التي تتصدى بحق للمشكلة التي تتحدانا؛ لأنها أرادت أن تحقق الهدف نفسه، ولكن بالبحث عن صيغة جديدة تضم الطرفين معا.
إن المجموعتين الأوليين قد استسهلتا الصعب ففاتهم لب المشكلة؛ لأن المجموعة الأولى إذ تنادي بأن يكون التراث وحده هو المعيار لما نقبله وما نرفضه، لم تفعل في الحقيقة سوى أن غضت النظر عن عصرنا وحضارته، فعادت القهقرى على خط الزمن لتعيش في الماضي؛ وذلك أمر سهل التحقيق، بل ربما حقق لصاحبه السعادة وراحة البال، فماذا يكون أيسر وأبعث على السعادة والسكينة من أن توصد بابك دون الصعاب فلا تأبه لها ولا تحاول حلها؟ واختصارا فإن أفراد المجموعة الأولى إنما يزيدون بعددهم عدد الأسلاف، ولا يضيفون إلى المعاصرين نفسا واحدة.
وأما المجموعة الثانية التي تريد عبور المكان لتصبح محسوبة على الغرب، فهي إنما تحاول الخروج من جلودها إذا كان ذلك ممكن الحدوث، إنهم - بكلمة واحدة - يريدون أن ينقصوا من تعداد الأمة العربية بضعة ملايين، ليضيفوها إلى تعداد أوروبا وأمريكا، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لا، ليس ثمة من صعوبة في تحقيق ما تريده لنا هاتان المجموعتان لأنهما معا إنما تريدان أن تقطعا العقدة بحد السيف، بدل أن يحلوها؛ فالمجموعة الأولى تلوذ من حاضر الدنيا بركن من أركان التاريخ الذي انقضت عهوده، والمجموعة الثانية تفر من الحاضر العربي إلى جبل من جبال أوروبا أو أمريكا لتعتصم به.
وأما الصعوبة الحقيقية فهي ما تحاوله المجموعة الثالثة التي تحرص على عروبتها حرصها على عصرها؛ فلئن كانت المجموعة الأولى تجعل من نفسها عربا لا يعيشون في عصرهم، وكانت المجموعة الثانية تجعل من نفسها معاصرة غير عربية، فإن المجموعة الثالثة تبتغي العروبة والمعاصرة معا، ثم تسأل كيف السبيل إلى هذا الهدف.
إن هذه المشكلة الحضارية هي كبرى المشكلات التي تتحدى المثقف العربي؛ بل إنها لا تقتصر على المثقف العربي وحده، وإنما تجاوزه لتجمع معه جماعة المثقفين في سائر البلاد ذوات الحضارات القديمة كالهند وباكستان والصين وغيرها؛ إنها ليست مشكلة بالنسبة للأقطار التي لم تكن لها حضارة عريقة فيما مضى، وكذلك ليست هي بالمشكلة بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا؛ فالبلاد غير ذوات الحضارة العريقة لا تجد نفسها أمام طرفين لتحاول التوفيق بينهما، وكذلك بلاد الغرب تجد نفسها أمام حضارة واحدة هي حضارتها العصرية هذه؛ وأما نحن وأمثالنا فلنا تاريخ حضاري طويل عريض غزير، فيه اللغة وفيه التشريع وفيه الأدب وفيه الفن وفيه علوم وفيه مواقف وبطولات؛ ومن هذه الحصيلة الغنية ما يتسق مع حضارة عصرنا، ومنها ما لا يتسق، فينشأ لدينا السؤال: ماذا نحن صانعون لدمج الرافدين في تيار حيوي واحد؟
ليست مهمتي هنا والآن أن أجيب عن هذا السؤال؛ فكل ما يعنيني هو أن أصور أزمة يكابدها اليوم المثقف العربي.
3
ومن هذه الأزمة الكبرى، تفرعت أزمات تدور حول محور الصدام بين قديم استقرت ركائزه، وجديد يوحي به العصر وظروفه؛ ومن أهم الأزمات التي تعترضنا في هذا السبيل، أزمة تجتاح جانب الأخلاق؛ على أني أستخدم كلمة «الأخلاق» هنا بمعناها الواسع، الذي يشير إلى طرائق السلوك في ميادين التعامل البشري بصفة عامة، كما يشير إلى طرائق العيش كما يريدها الناس، والسؤال العريض الذي يطرح نفسه علينا في هذه الميادين السلوكية والحياتية، هو هذا: ماذا يكون الأساس العميق الذي نقيم عليه الأخلاق بمعناها الواسع الذي ذكرناه؟
অজানা পৃষ্ঠা