هنا ترك دعيبس النرييج من فيه لأول مرة منذ تشرفت بزيارته، فجذب ابنه إلى صدره وقبله قبلات سمعنا لها رنات موسيقية، ثم تناول من ابنه الدراهم فعدها ووضعها في جيبه، وأخرج من الجيب الثاني ربع ريال فأعطاه إياه حلوانا له، وأتبعه بربع ريال ثان، وأسر بأذنه أن ينزل إلى السوق ويشتري سيكارات في الحال. «إن العم ظن أنه أسر كلامه لابنه، ولكن صوته كان مسموعا لأبعد من عشرين ذراعا منه.»
وما تناول الغلام المال حتى طفق يعدو من أول خطوة خطاها جارفا درفة الباب بطريقه، وقد اهتزت جوانب المنزل لركضه. وعند ذلك ابتسم العم على خشبة النرييج، وقال لنا: «هذا ولد زهرة من الزهرات، وسيكون نعم الخلف، ذكي شاطر، ولا ما يعيبه سوى أنه طائش، لكنها طياشة كيسة، إلا أنها في ذمة أمه فإنها تدلله وتدلعه، ولا يخفى عنكم أن للسوريين عادة ذميمة، وهي تدليل الأبناء والقسوة على البنات في حين أنهن بأميركا أحسن منهم، وكل بنت في الحقيقة تسوى عشرين صبيا.»
قضينا السهرة كلها من السكرة حتى نهضنا للخروج، والعم دعيبس لم يدفأ لسانه في حجرة فمه؛ فطورا كان يأمر الأم بالمازة، وتارة يطلب الصحون من البنت، وأخرى يقول للغلام أن يرمي رماد السيكارات خارجا، ولما جلسنا للعشاء الذي حضر إلى أمامنا لم تجلس معنا الأم ولا البنت حتى ولا الغلام أيضا، بالرغم من أني ورفيقي أكثرنا الإلحاح على العم بأن يسمح لأهل البيت بتناول الطعام، ولكنه كان يعتذر عن قبوله بذلك، مدعيا أن الوقت لا يسمح، فعلى من ذكرنا واجبات في المطبخ بينا نكون نحن تناولنا الطعام، وفي حال عشائنا كانت أوامر العم تباعا لزوجته وابنته وابنه: «هاتوا البطاطا، خذوا صحون الشوربا، املئي يا بنت الكاسات ماء، صبي يا امرأة في صحن المستر. يا ولد، قدم الفجل لناحية ابن عمك.» إلى ما هنالك من الأوامر.
ولما حان وقت انصرافنا نهضنا أنا ونجيب، فودعنا العم، وطلبنا أن نودع المدام وابنتها، فنادى بهما حضرة العم، فجاءتا من المطبخ مظهرتين ذهولهما من سرعة ذهابنا، فأجبنا اللازم، وصافحناهما مودعين، وخرجنا بسلام.
ولما وصلنا إلى الشارع ضحك نجيب، وقد كنت أنتظر منه سخطا وغضبا لتساهلي بالبقاء عند بيت عمه، ثم قال لي: «أرأيت كيف يعيش عمي؟»
فأجبته: «نعم رأيت، ولكني لا أزال أبحث بفكري أين شاهدت عمك قبلا.»
فقال مقهقها: «أنت لم تره، ولكنك رأيت شبيها له في مرسيليا.»
فضحكت معه لهذه الفكاهة التي جاءت في محلها، ولكني أصررت على أني رأيته نفسه قبل اليوم، إلا أني نسيت أين، ثم سألته: «وبماذا يشتغل عمك؟» - يعطي قومندا (كان جوابه بتصنع ازدرائي على وجهه). - نعم، لاحظت ذلك، لاحظت كثرة أوامره لأهل البيت، ولكن من أين يعيش؟ - من أين يعيش؟ أأنت أعمى؟! ألم تر أن امرأته لا تعود إلى البيت إلا مساء فتأتيه بكنوز المال؟ وابنته الصبية تورم جيبه بالريالات، حتى الصغير يأتيه بستة عشر ريالا كل يوم وربما أكثر. - إذن، شغل عمك أن يبقى في البيت يسلي النارجيلة لئلا تشعر بوحشة. - بالتمام. زد على ذلك أن لعمي ذوقا حسنا بالتدريب العسكري، فلولا أوامره لاختل نظام العائلة. - مضبوط، أظن الآن أن عمك في سعة من دهره؟ - في سعة من دهره! بل هو من أغنياء السوريين الحقيقيين، الذين غناهم ذهب «حجر». - إذا كان عمك غنيا كما تقول، فلماذا يشغل امرأته وابنته وابنه الصغير؟ - لا تتوسع في الموضوع، ولا تزد علي بسؤالاتك، ولكي أكفيك مئونة ذلك أخبرك أنه كان لعمي موقف خطير ذات يوم على أثر كتابة إحدى الجرائد مقالة عن «بيع النساء وكسل أزواجهن»، فإنه لأول مرة في حياته تحرك دمه، وصار ينزل إلى السوق ويحمس الناس على أن يقصدوا إدارة تلك الجريدة ليقطعوا أنامل الذي كتب المقالة، ولقد كان يكيل الشتائم الغليظة للكاتب الذي تهجم على الأعراض.
عند هذا، قلت لرفيقي ضاحكا، راغبا في البحث معه من جهة أخرى بعدما رأيته يريد قفل الموضوع: «يجب أن تكون عائلة عمك سعيدة وعلى غاية ما يرام؛ فإنه هو راض وعائلته راضية، وليس ما يعكر صفوها فكر متبله من امرأة أو ابنة لحرية أو استقلال أو لحقوق فردية، أو غير ذلك.»
فقال: «نعم، كما ذكرت، ولكن حدث منذ سنوات شيء كدر خاطر عمي كدرا لا مزيد عليه، وهو أن امرأته مرضت، وأخذت إلى المستشفى، حيث ظلت شهرين تحت المعالجة والعمليات الجراحية، وقد أنفق عليها مبلغا من المال، وليتك شاهدت عمي في ذلك الزمان أنه كان جبلا من الهم.»
অজানা পৃষ্ঠা