فأجبته مجاملا: «إن كلامك يا حضرة العم في محله؛ فإنك أعرف مني على نحو ما يقال: أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة.»
ولم يكن حضرة العم ليتعب من التدخين؛ فقد ظل طول تلك المدة عاضا بأسنانه على خشبة النرييج، يقول عبارة ويردفها بسحبة طويلة من النارجيلة، فيخرج الدخان قسمين: واحدا من «باب المندب»، والآخر من «جبل فيزوف».
ثم صاح العم بامرأة العم: «يا كليمة، اهتمي بالعشاء للشباب.» وإذ سمعت هذا الأمر نهضت مذعورا، وبدأت أعتذر للعم ولامرأة العم ألا يتعبا سرهما؛ فإني مشغول ولولا أن نجيبا قال لي إن الزيارة لا تأخذ أكثر من ربع ساعة لما استطعت أن أجيء معه. ثم أن نجيبا بدوره أيضا بدأ يعتذر عن نفسه، متكلا على ضرورة ذهابه معي بدعوى أني مشغول، وأنه مضطر ألا يفارقني.
عندئذ صاح بنا العم صيحة قوية، وقال: «شغل ما شغل أنا لا أفهم هذا. قلت إنكم تتعشون عندنا وانتهت المسألة. الآن، كليمة تحضر لنا العشاء، وبعد قليل تحضر البنت فترتب لنا سفرة المشروب، وبعد ذلك نقضي السهرة وتذهبون، ولو أننا في البلاد (سوريا) لكنا جعلناكم تنامون عندنا، ولكن هذه البلاد ضيقة.»
قلت آنفا إني بهذه الزيارة لم أكن حصانا لغاية صديقي كما أعربت له وكما ظن هو، بل كنت بالحقيقة حصانا لاختباري؛ ولهذا التفت إلى صديقي، وقلت له إنه إذا كان يرغب في البقاء فأنا أؤجل شغلي من أجله، فاضطر المسكين أن يقبل بالبقاء حسب أمر عمه، ولا أعلم كم شتيمة صاغها لي في قلبه.
عدنا إلى الكراسي فجلسنا، ولم تمض خمس دقائق حتى وفدت ظبية البيت ففتحت الباب، وبعدما مدت رأسها وشاهدتنا سحبته ورجعت مسكرة الباب بعجلة كأنها خجلت من الموجودين أو بالحرى مني أنا؛ لأني كنت الغريب بين الجماعة. ويظهر أنها دخلت إلى المطبخ من الباب الثاني؛ لأن أباها صاح بها أن تأتي إليه من جهة المطبخ الذي له مدخل إلى البهو، وقد قال لها مشجعا ألا تخجل؛ فإنه ليس عندهم غريب، وما مضت لحظة حتى جاءت الأم من المطبخ ساحبة بيدها ابنتها التي اصطبغ خداها بالاحمرار، ولما صارت أمامنا قالت الأم: «هذه بنتنا مريم، خجولة تستحيي من خيالها، تعالي يا بنتي، ولا تستحيي فهذا ابن عمك مثل أخيك، وهذا صاحبه مثل أخيه.»
وكانت كلمات الأم قد أطارت حمرة الخجل من رأس مريم؛ ولهذا لما رأت نفسها أمام جمهورنا تشجعت، وصارت كبنات أميركا، فمدت ساعدها وصافحت كلا منا محيية، ولما وصلت إلى أبيها قبلت يده، أما هو فلم يقبلها، ولكنه استرضى عليها، وأكثر دعاءه لها. (كل هذا كان منه وخشبة النرييج لم تبرح معضوضة بين أسنانه كأنها خلقت كذلك، وكأنه هو ولد وبفيه نرييج.)
وقد لحظت أن مريم قد سحبت قبيل أن تقفل راجعة من قرب أبيها ضمة من الريالات، وبعياقة كلية أدخلتها إلى جيبه ثم تركتها مسددة خطواتها نحو المطبخ لتساعد أمها.
عندئذ سمعت العم دعيبس يقول لنا بابتسام: «هذه مريم الغالية، وهي بنت ولا كالبنات، الله يرضى عليها، مطيعة مجتهدة، تسوى عشرين صبيا.»
ولم يتم كلام العم عن ابنته حتى انفتح الباب بخشونة ، ودخل غلام بعجلة، فألقى عنه في منتصف الغرفة علبة معلقة بكتفه بقشاط، وتركها على الأرض غير مكترث بها، وتقدم في الحال نحو أبيه صائحا بملء صوته: «يا بابا، اشتريت الربطات من محل إلياس مرقص؛ لأن كامل سليمان طلب مني ريالا زيادة، وقد بعت اليوم بستة عشر ريالا، صرفت منها نصف ريال أجرة طريق وثمن أكل.»
অজানা পৃষ্ঠা