وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجوه حيله، واكتسى بجلود الحيوانات التي كان يشرحها، واحتذى بها، واتخذ الخيوط من الأشعار ولحا قصب الخطمية والخباري والقنب، وكل نبات ذي خيط.
وكان أصل اهتدائه إلى ذلك، أنه أخذ من الحلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة.
واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف فاتخذ مخزنًا وبيتًا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض، لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه.
واستألف جوانح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها، واتخذ من الصياصي البقر الوحشية شبه الاسنة، وركبها في القصب القوي، وفي عصي الزان وغيرها، واستعان في ذلك بالنار وبحروف الحجارة، حتى صارت شبه الرماح، واتخذ ترسه من جلود مضاعة: كل ذلك لما رأى من عدمه السلاح الطبيعي.
ولما رأى أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها، إلا أنها كانت عنه فتعجزه هربًا، فكر في وجه الحيلة في ذلك، فلم ير شيئًا أنجع له من أن يتالف بعض الحيوانات الشديدة العدو، ويحسن إليها بأعداد الغذاء الذي يصلح لها، حتى يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها.
وكان بتلك الجزيرة خيل البرية وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها.
وانما تفنن في هذه الأمور كلها ف وقت اشتغاله التشريح، وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان، وبماذا تختلف، وذلك في المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عامًا.
ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر، فتصفح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد: من الحيوانات على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد، والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أصوافًا كثيرة وأفعالًا مختلفة، وحركات متفقة ومضادة، وأنعم النظر في ذلك والتثبت، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجود انتشار لا يضبط.
كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جدًا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.
ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثان، فيرى أن أعضاءه، وان كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في الحكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، أن ذلك الاختلاف إنما هو بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني، الذي انتهى إليه نظره أولًا، وأن ذلك الروح واحد ذاته، وهو حقيقة الذات، وسائر الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحد عنده ذاته بهذا الطريق.
ثم أنه كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوانات، فيرى كل شخص منها واحدًا بهذا النوع من النظر.
ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفًا صنفًا، فكان يرى أشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضًا في الأعضاء الظاهرة والباطنة الادراكات والحركات والمنازع، ولا يرى بينها اختلافًا إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه.
وكان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئًا واحدًا، بمنزلة ماء واحد، أو شراب واحد، يفرق على أوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك.
فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى النوع بهذا النظر واحدًا، ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثيرة أعضاء الشخص الواحد، التي لم تكن كثرة في الحقيقة.
ثم كان يحضر أنواع الحيوانات كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس، وتغتذي، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت، وكان قد علم أن هذه الأفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق، ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني.
1 / 8