وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء بأن يلقيها فيها، فيراها مستولية عليه أما بسرعة واما ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه.
وكان من جملة ما القى فيها على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوانات البحرية - كان قد ألقاه البحر إلى ساحله - فلما أنضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه، فأكل منه شيئًا فاستطابه، فاعتاد بذلك أكل اللحم، فصرف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك.
وزادت محبته للنار، إذ تأتي له بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلك.
فلما اشتد شغفه بها لما رأى من أحسن آثارها وقوة اقتدارها، وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي أنشأته، كان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأكد ذلك في ظنه، ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته، وبرودته من بعد موته، وكل هذا دائم لا يختل، وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره، بازاء الموضع الذي كان قد شق عليه من الظبية، فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيوانًا حيًا وشق قلبه ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خاليًا عندما شق عليه في أمه الظبية، لرأه في الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه وتحقق هل هو من جوهر النار؟ وهل فيه شيء من الضوء والحرارة، آم لا؟ فعمد إلى بعد الوحوش واستوثق منه كتافًا وشقه على الصفة التي شق بها الظبية حتى وصل القلب.
فقصد أولًا إلى الجهة اليسرى منه وشقها، فرأى ذلك الفراغ مملوءًا بهواء بخاري، يشبه الضباب الابيض، فأدخل إصبعه فيه، فوجده من الحرارة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور.
فصح عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان، وأن في كل شخص من أشخاص الحيوانات مثل ذلك، ومتى انفصل عن الحيوان مات.
ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وكميتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض، وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى، ومن أين يستمد، وكيف لا تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء والاموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة، حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين، فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وان كان كثيرًا بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته فانه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه.
وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له، أو مؤدية عنه، وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد، كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام، ويصيد جميع صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم: إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما ينكي بها غيره.
وكذلك آلات الصيد تنقسم: إلى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البر، وكذلك الأشياء التي يشرح بها تنقسم: إلى ما يصلح للشق، والى ما يصلح للكسر، والى ما يصلح للثقب، والبدن الواحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصرف.
كذلك؛ ذلك الروح الحيواني واحد، وإذا عمل بالة العين كان فعله أبصارًا، وإذا عمل بآلة الآذن كان فعله سمعًا، وإذا عمل بآلة الآنف كان فعله شمًا، وإذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقًا، وإذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمسًا، وإذا عمل بالعضد كان فعله حركه، وإذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء.
ولكل واحد من هذه، أعضاء تخدمه.
ولا يتم لشيء من هذه فعل إلا بما يصل إليها من ذلك الروح، على الطريق التي تسمى عصبًا.
ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت، تعطل فعل ذلك العضو.
وهذه الأعصاب إنما تستمد الروح من بطون الدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح كثير، لانه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة: فآي عضو عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة الآلة المطرحة، التي يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها.
فان خرج هذا الروح بجملته عن الجسد، أو فني، أو تحلل بوجه من الوجوه، تعطل الجسد كله، وصار إلى حالة الموت، فانتهى به إلى هذا من منشئه، وذلك أحد وعشرون عامًا.
1 / 7