كان هذا الضغط الشديد مثارا لثورتي أحيانا. فربما كنت أهرب من فقيه المكتب ظهرا، أو من الذهاب إلى أبي عصرا، أو أدعي المرض وليس بي مرض، ولكن إذا اكتشف هذا كان جزاؤه الضرب الشديد، فتخمد ثورتي؛ ولقد جربت أمي حظها. فكانت تتدخل في الأمر حين يضربني، ولكنها رأت أنها إن تدخلت حين هذا الغضب الشديد والضرب الشديد، فقد يتحولان إليها.. فكان إذا حدث هذا فيما بعد اكتفت بالصراخ والعويل من بعيد.
استمررت في هذه المدرسة، وكنت متفوقا في اللغة العربية بفضل ما آخذه من الدروس على والدي، وفوق المتوسط في الحساب، وضعيفا في اللغة الفرنسية، لأن أبي لم يترك لي الزمن الكافي لمذاكرتها.
تعلمت من المدرسة دروسها، وتعلمت من التجارب أكثر من دروسها، فلعبي مع التلاميذ، ومبادلتي إياهم العواطف، ورؤيتي إياهم يتصرفون في الأمور تصرفا مختلفا حسب مزاجهم وعقليتهم، يغضبون أو يحلمون، ويثورون أو يهدءون، ويظلمون أو يعدلون - كل هذه كانت دروسا في الحياة أكبر من دروس العلم، بل المدرسون أنفسهم كانوا معرضا لطيفا، فيه الجمال والقبح، والرعونة والسكينة، وما شئت من ألوان الحياة - كان مدرس اللغة الفرنسية بطيء الحركة، ثقيل اللسان، معوجه، جاحظ العينين أحمرهما من أثر الحمار لا يكترث لدرسه، ولا لتلاميذه، سواء عنده ذاكروا أو لم يذاكروا، تقدموا أو لم يتقدموا. ومدرس الحساب كفء في مادته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في درسه، ولكنه غريب الأطوار، يهيج أحيانا ويشتد غضبه فيضرب، وقد يشتد ضربه فيكسر أو يجرح، ويكون في منتهى اللطف والظرف أحيانا، فيستغرق في الضحك لأتفه سبب، وقد يحدثنا عن دخائل بيته، وأسرار نفسه مما لم تجر العادة بذكره. ومدرس اللغة العربية من الصنف الذي نسميه «ابن بلد» يحول كل شيء إلى نكتة، ونكتة رائعة جميلة مؤدبة، لا يؤذي ولا يضرب، ولكنه ينتقم أحيانا من التلميذ بالسخرية والنكتة اللاذعة. ومدرس الدين رجل سوري يلبس لباس الشاميين، جبة وقباء، وطربوش تركي، معمم عمة سورية، طويل عريض بدين، ثقيل الروح، يستثقله المدرسون والطلبة على السواء. وبعض المدرسين يحرضوننا على معاكسته، فكنا نبذل جهدنا في حصته لاستخراج أفانين العبث به؛ ونفرح لدرسه لأنه مثار السخرية والضحك. ومدرس الخط رجل تركي، جميل الوجه، بهيج الطلعة، له لحية بيضاء، تستخرج من ناظرها الإكبار والإجلال، يلبس اللباس التركي الشرقي ويتكلم العربية بلهجة تركية، هادئ الطبع، بطيء الحركة خافت الصوت لا يضرب ولا يؤذي ولا يسب، وهو مع ذلك محترم، لا تسمع في حصته صوتا. وناظر المدرسة رجل طيب ولكنه لا يفقه شيئا من أساليب التربية، ضبط مرة تلميذا يسرق كراسا فأخذه وعلق في رقبته لوحة من الورق المقوى، كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لص» حتى إذا وقف الطلبة في طابور العصر أمسكه الناظر بيده، ومر به على التلاميذ ليؤدبه والحق أنه لم يؤدبه ولكن قتله، فلم أر هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظن أنه انقطع عن المدارس بتاتا.
وهكذا كانت المدرسة بتلاميذها ومدرسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر تكون أحيانا مأساة، وأحيانا ملهاة.
كنت في هذه السن متدينا شديد التدين. وكان بالمدرسة مسجد صغير أعد إعدادا حسنا، فكنت أصلي فيه الصلوات لأوقاتها. وكنت أقوم الليل وأتهجد وأحب الله وأخشاه. وتنحدر الدموع من عيني أحيانا في ابتهالاتي، وأسجد فأطيل السجود والدعاء، وأحفظ أدعية من الابتهالات والتوسلات. ومن شدة فكري في الله رأيته في منامي مرة، على شكل نور يغمر الغرفة ويخاطبني قائلا: اطلب ما أدلك به على قدرتي فطلبت أن يعمل من قطعة حديد سكينا، ومن قطعة خشب شباكا، ففعل. فآمنت بقدرته وحكيت المنام لأهلي، ففرحوا به فرحا عظيما، وزادوا في محبتي.
واستمررت في دراستي في المدرسة، فانتقلت من السنة الثانية إلى الثالث ومن الثالثة إلى الرابعة، وأبي لا يهدأ من التفكير أيتركني أكمل دراستي، أم يخرجني من المدرسة ويدخلني الأزهر، ويسألني فأجيبه: «أحب أن أبقى في المدرسة»، ويسأل من يعرفه من موظفي الحكومة فيوصونه ببقائي في المدرسة. ويسأل من يعرفه من مشايخ الأزهر فيوصونه بإدخالي الأزهر؛ ويتردد ويتردد ثم يستخير الله ويخرجني من المدرسة إلى الأزهر.
الفصل التاسع
ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريبا، يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ويكون منظري غريبا على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشا أو طاقية، ولذلك كانوا كثيرا ما يتضاحكون علي فأحس ضيقا أو خجلا أو أتلمس الحارات الخالية من الناس لأمر بها: والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في المدرسة، فقد كان يظن أني مسخت مسخا وتبديت بعد الحضارة، وكأن الذي يربط بيني وبينهم هو وحدة لبسي ولبسهم لا طفولتي وطفولتهم، ولا زمالتي وزمالتهم، فنفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، فانقبض صدري لأني فقدت أصدقائي القدامى ولم أستعض عنهم أصدقاء جددا، فكنت كالفرع قطع من شجرته أو الشاة عزلت عن قطيعها، أو الغريب في بلد غير بلده. وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس.
ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض.
هذا أبي يأخذني معه كل صباح يوم فأسير في شوارع لا عهد لي بها، وأمشي فأطيل المشي، لا كما كان العهد يوم كنت في المدرسة، إذ كانت بالقرب من بيتنا، وأخيرا أصل إلى بناء كبير، فيقول أبي هذا هو الأزهر، ولا أدري كيف كان وقع هذه الكلمة على نفسي، فالأزهر شيء غامض لا أعلم كنهه ولا نظامه ولا منهجه ولا مستقبله؛ أقدم عليه في هيبة وغموض، وأسمع عند الباب صوتا غريبا، دويا كدوي النحل يضرب السمع ولا تستوضح له لفظا، فتأخذني الرهبة مما أسمع، وأرى أبي يخلع نعليه عند الباب ويطويهما ويمسكهما بيده فأعمل مثل عمله، وأسير بجانبه قليلا في ممشى قصير، أدخل منه على إيوان كبير لا ترى العين آخره، فرش كله بالحصير وامتدت أعمدته صفوفا، كل عمود وضع بجانبه كرسي عال مجنح قد شد إلى العمود بسلسلة من حديد، وجلس على كل كرسي شيخ معمم كأبي، بيده ملازم صفراء من كتاب، وأمامه حلقة مفرغة أحيانا وغير مفرغة أحيانا، يلبس أكثرهم قباء أبيض أو جلبابا أبيض عليه عباءة سوداء، وأمامه أو بجانبه مركوبه، ويمسك بيده ملزمة من كتاب كما يمسك الشيخ، والشيخ يقرأ أو يفسر والطلبة ينصتون أو يجادلون وبين العمود والعمود بعض الطلبة يجتمعون فيأكلون أو يذاكرون.
অজানা পৃষ্ঠা