على كل حال، أحمد لأبي أن أخرجني من هذه الكتاتيب الكريهة، وأدخلني مدرسة ابتدائية هي مدرسة «أم عباس» أو كما تسمى رسميا «والدة عباس باشا الأول» أو كما تسمى اليوم مدرسة بنباقادن. كانت مدرسة نموذجية، بنيت على أفخم طراز وأجمله: أبهاء فسيحة فرشت أرضها بالمرمر وحليت سقوفها بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها أشهر الخطاطين بأحسن خط. وموهت بالذهب؛ فكان هذا الجمال الجديد عزاء لذلك القبح القديم.
ولبست بدلة بدل الجلباب، ولبست طربوشا بدل الطاقية وأحسست علوا في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة.
كانت المدرسة يصرف عليها من أوقاف رصدتها عليها والدة عباس الأول فتلاميذها بالمجان، ولها بعض التقاليد الخاصة بها فيجمع بعض التلاميذ مرتين في السنة، ويذهبون إلى قصر الوالدة لتوزع عليهم بدلتان، بدلة للشتاء وبدلة للصيف ثم يخرجون إلى الشارع بملابسهم الجديدة إعلانا لما تسدي الواقفة من خير ، وفي المواسم يذهبون إلى مدفن الواقفة، ويقرءون على روحها الفاتحة، وما تيسر من الدعوات ثم يوزع عليهم الفطير والحلوى.
وشهدت في هذه المدرسة ثلاثة تطورات للتعليم. ولعلها كانت هي تطورات التعليم في مصر. فقد كانت المدرسة لتعليم القرآن وشيء من الحساب واللغة العربية والتركية، ثم انكمش هذا النوع من التعليم فأصبح فصلا واحدا بعد أن كان يعم المدرسة كلها وسمي قسم الحفاظ وأنشئت بجانبه فصول على النمط الحديث، تعلم فيها الجغرافيا والتاريخ والحساب مع اللغة الفرنسية، وقد نمت هذه الفصول حتى اكتسحت قسم الحفاظ؛ وشهدت بالمدرسة قبل خروجي منها منظرا جديدا، فقد رأيتهم يجمعون الطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية لينشئوا بهم فصولا لتعليم اللغة الإنجليزية، ثم اكتسحت اللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية.
دخلت أولا قسم الحفاظ وبعد سنة تحولت إلى قسم اللغة الفرنسية في السنة الثانية.
وقد وضع لي أبي برنامجا مرهقا لا أدري كيف احتملته. كان يوقظني في الفجر فأصلي معه، ثم أقرأ جزءا من القرآن وأحفظ متنا من المتون الأزهرية كألفية ابن مالك في النحو، حتى إذا طلعت الشمس أفطرت ولبست ملابسي وذهبت إلى المدرسة أحضر دروسها إلى الظهر. وفي فسحة الظهر أتغدى في المدرسة على عجل وأذهب إلى كتاب بمسجد شيخون قريب من المدرسة. وقد اتفق أبي مع فقيه الكتاب أن يسمع مني جزءا من القرآن حتى إذا ما أتمته سمعت جرس المدرسة فذهبت إلى الفصل. ثم أحضر حصص المدرسة بعد الظهر، فإذا دق الجرس النهائي خرجت إلى البيت وخلعت ملابسي المدرسية ولبست جلبابا وذهبت إلى المسجد الذي أبي إمامه
1
فمكثت معه من قبيل المغرب حتى يصلي العشاء أستمع لدرسه الذي يلقيه في المسجد بين المغرب والعشاء، ثم أعود معه إلى البيت، وفي أثناء الطريق يحفظني بيتا من الشعر أو بيتين ثم يسألني إعرابه فأعربه، ويصحح لي خطئي، كل ذلك ونحن سائران في الطريق، ثم أتعشى وأنام.
وإذا كان علي واجب من المدرسة أتممته على عجل قبل أن أذهب إلى أبي في المسجد، وليس لي من الراحة إلا عصر يوم الخميس ويوم الجمعة. على أني كثيرا ما أحرم أيضا من صبح يوم الجمعة لعمل واجبي المدرسي، أو القراءة مع أبي.
وهو برنامج غريب متناقض الاتجاه. سببه أن أبي كان حائرا في مستقبلي، أيوجهني إلى الجهة الدينية فيعدني للأزهر، أو يوجهني الوجهة المدنية فيعلمني في المدرسة الابتدائية والثانوية. وكنت أدرك حيرته من كثرة استشارته لمن يتوسم فيه حسن الرأي. وهم لا ينقذونه من حيرته؛ فمنهم من يشير بهذا، ومنهم من يشير بذاك، فأمسك العصا من وسطها. فكان يعدني للأزهر بحفظ القرآن والمتون، ويعدني للمدارس المدنية بدراستي في المدرسة. وهذا أسوأ حل، ولكن جزاه الله خيرا على تعبه المضني في التفكير في مستقبلي. وغفر الله له ما أرهقني به في دراستي.
অজানা পৃষ্ঠা