ومع هذا الخوف الراعد الذي يتملك الشيخ عبد الودود على أمواله، نجد الشيخ في عامة حياته شجاعا يخوض الليل الأسود والطريق المقفر بلا صديق ولا رفيق ولا حارس، وإن يكن هذا الخوض في سبيل القرش الذي يكسبه من عقود الزواج والطلاق، إلا أنها - على أية حال - شجاعة تحمد له. وقد بدأ هذه الشجاعة منذ عين مأذونا، وقد قام برحلاته الأولى، وهو لا يكاد يقيم خطواته من فرائص ترتعد به وهلع يهز فؤاده هزا، ثم تعود الطرق المظلمة والليالي الحالكة، فأصبحت العادة شجاعة، وأصبح يقطع الطريق إلى أعمال البلدة وقراها المجاورة وحيدا بلا صديق ولا رفيق ولا حارس.
ولا يحسبن أحد أن هذه الأعمال قريبة من قرية السلام؛ فإنها قد تبعد عنها كثيرا، والطرق إليها وعرة لا تحيط بها إلا الحقول خلت من زارعيها بلا دور فيها ولا أناس، وقد لا تخلو من العفاريت التي خلقها الوهم في كثير من مناطق هذه الطرق.
ولكن الشيخ عبد الودود كان يقطع هذه المخاوف جميعها ليعقد زواجا أو يقرر طلاقا، وحول وسطه الأموال تكدست مئات ومئات، وفي هذه الليلة خرج الشيخ عبد الودود من قرية السلام بعد صلاة المغرب مباشرة، قاصدا إلى عزبة النمايلة الواقعة في نطاق دائرة السلام إدارة ومأذونية، وكان خروجه هذا بناء على دعوة وافته قبيل العصر تطلب إليه أن يذهب إليها ليطلق اثنين كان قد زوجهما منذ خمس سنوات، وكانت له فلسفته في الطلاق تلك التي رواها العمدة لزواره، ولكن العمدة نسي أن يذكر العيب الوحيد في الطلاق؛ ذلك أن الشيخ عبد الودود يخرج من الطلاق غالبا دون أن يتناول العشاء الذي يتاح له في الزواج دائما. ثم إن أجره في الطلاق معلوم لا يزيد مليما عما قدرته له الحكومة، والفلاحون أعلم الناس بما تقدره الحكومة في مثل هذه الأمور، أما في الزواج فقد كان الشيخ عبد الودود يطمع إلى جانب العشاء أن يأخذ ما يزيد على أجره المعلوم.
خرج الشيخ من قريته قاصدا إلى الرجل الذي سيصب في حافظته، ومن ثم في حزامه خمسة وعشرين قرشا ثمنا له على تطليق زوجته، وأخذ الشيخ يفكر في زهادة المبلغ الذي يتقاضاه إزاء هذا المعروف الكبير الذي سيؤديه لذلك الرجل؛ إنه سيخلصه من زوجته التي آذته ونكدت عيشته، ثم لا يصيب من بعد إلا هذه الصبابة الضئيلة من المال، ولم يكن الشيخ يعلم - ولا يعنيه أن يعلم - إن كانت المرأة هي التي آذت الرجل المطلق أو أن الرجل هو الذي آذاها، وإنما كل همه ذلك المبلغ الذي سيجري إلى جيبه.
وبلغ الشيخ منزل الطلاق وراح يقول للزوج: «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وراح يقول: «تمهل واصبر وفكر، وسأعود إليك غدا.» وهو في صميم نفسه يتمنى ألا يطيع الرجل نصائحه التي كان يلقيها إلقاء يجري به لسانه في موات، فلا تبلغ شفتيه حتى تصبح غمغمة غير مبينة يكاد السامعون - لولا سابق العلم بها - ألا يفهموا منها شيئا.
ويصر الرجل على الطلاق كما قدر الشيخ عبد الودود، ويأخذ الشيخ الخمسة والعشرين قرشا ويترك البيت بلا عشاء - كما قدر أيضا - ويأخذ سبيله إلى قرية السلام.
الليل أسود والطريق طويل مقفر، ولكن الشيخ عبد الودود يسير يفكر في هذا المبلغ الجديد الذي أضافه إلى ثروته، والذي لم يأخذ طريقه بعد إلى الحزام؛ فقد تعود ألا يضيف إلى الحزام دخله الجديد إلا في البيت، وراح الشيخ يحسب وما كان محتاجا لحساب، ولكنه يلتذ التفكير في المبلغ الذي يرتفع كل لحظة في حزامه. راح يحسب: لقد كان معه سبعمائة وخمسة وعشرون جنيها وخمسة وعشرون قرشا، والآن حين يصل إلى البيت، سيصبح بالحزام سبعمائة وخمسة عشر ... - قف. - صوت انبعث من الليل واضحا جليا، ولكن الشيخ لا يصدق أذنيه ويهم بالمسير بعد أن توقف هنيهة، ولكن الصوت يعود مرة أخرى! - أقول قف!
ويقف الشيخ؛ لأنه أصبح لا يستطيع المسير، وفي همهمة لا يفهمها هو يقول: من؟ - عفريت. - عفريت؟ - نعم. - بسم الله الرحمن الرحيم،
الله لا إله إلا هو ...
ويصل إلى قفا الشيخ حديد صلب بارد، ويزداد التصاق الحديد بقفا الشيخ فيحس عيني بندقية ملتصقة بشدة إلى قفاه كما يلتصق الحزام بجسمه، ويرتفع صوت الشيخ:
অজানা পৃষ্ঠা