ويقنع الأب نفسه بأن هذا هو ما قصدت إليه الابنة.
وتقول الأم: فخري طيب وابن حلال ولكنه فقير.
ويقول العمدة: وهذا هو ما قلناه.
وتقوم درية إلى غرفتها، وتفتح شباكها ذا السور الحديدي وتطل على الباحة والذكريات، والماضي الذي كان قريبا فأصبح بعيدا، والشجرة التي أظلت وصار ظلها لهيبا، والليل الذي كان نجوى فأصبح شقاء ...
لماذا يا أبي؟!
7
الشيخ عبد الودود، مأذون بلدة السلام، رجل طويل القامة عريض المنكبين، ليس بالسمين المفرط ولا هو بالهزيل الذي تأخذه العين، جامد الوجه، إن رأيته خيل إليك أن العاطفة لم تمر على وجهه في يوم من الأيام، يضحك إن ضحك بفمه، يوسعه حسبما يقتضي سبب الضحك، فإن اضطره الأمر إلى القهقهة خرجت من حلقه، ولكنه أبدا لا يضحك من قلبه، وإن حزن الشيخ عبد الودود فهو لا يحتاج إلى أي تعبير جديد يضفيه على سحنته؛ فهي عبوس لا تحتاج إلى علامات أخرى لتكون حزينة.
والشيخ عبد الودود رجل نقي السريرة، سريع إلى تصديق ما يسمعه، تسهل مخادعته، فإن ألقيت إليه مثلا أن إنجلترا قد احتلت لندن أسرع يقول لك: «سبحان الله! أهكذا؟ ومتى كان هذا؟» فإذا أنت لم تبتسم وظللت تروي عليه كيف أن إنجلترا خدعت لندن وأوهمتها أنها تساعدها، ثم احتلتها ولم تقبل أن تتركها أبدا، راح يحوقل ويستعيذ بالله من الشيطان، وإذا أنت قلت له إن الإنجليز قد تدخلوا في الأمر، وإنهم الآن يحاولون أن يعقدوا صلحا بين إنجلترا ولندن قال لك: «والله يشكر الإنجليز.» وهكذا تستطيع أن تصل به إلى تصديق أية خرافة تلقيها عليه، على شرط ألا تضحك وأنت تلقي هذه الخرافة. وهو يعلم في نفسه هذه الطيبة؛ ولذلك فهو حريص كل الحرص إن أنت حاولت أو حاول غيرك أن يتحدث معه في أمر ينتهي به أن يخرج بعض المال من حزامه، نعم حزامه وليس حافظته. إنك لا تحتاج إلى كثير ذكاء لتخدع الشيخ عبد الودود، فلترو عليه ما شاء خيالك من خرافات فسيصدقها، ولكنك - مهما يكن ذكاؤك - لن تستطيع أن تنال من الشيخ عبد الودود قرشا واحدا، وإن كان هذا القرش ذاهبا إلى أمر فيه خير للشيخ عبد الودود نفسه، فإن هذا الخير مهما يعظم أمره أقل شأنا وأهون خطرا من إخراج قرش كان قد استقر غير مفزع، وهدأ غير قلق في أموال الشيخ عبد الودود.
والشيخ عبد الودود - كما قد عرفت - يملك عشرة أفدنة يزرعها لحسابه الخاص، لا يؤجر منها قيراطا ولا يزارع في سهم منها أحدا، وإنما هو الذي يزرع، ويكتري لها العمال بعد أن ينزل بأجورهم إلى أقل حضيض يمكن أن تنزل إليه، والشيخ عبد الودود - كما تعرف - مأذون البلدة، وتلك مهنة ذات خطر وربح، والبلدة - كما لا تعرف - عدة بلدان، فإن للقرى عندنا ضواحي كثيرة تتبع البلدة الأصيلة في الحكم والمأذونية. وهكذا كان الشيخ عبد الودود ذا موارد ضخمة تنسكب عليه من الحب والكره، والعجيب أن هذه العواطف التي كانت سبب نعمته لا تعرف سبيلا إلى قلبه أبدا، فقد كان لا يعرف الحب لغير المال، ولا يعرف الكره لغير إخراج هذا المال. المهم أن الشيخ عبد الودود كان يستقبل هذه الأموال جميعها مع ما تخرجه الأرض من محصول، ثم يخرج لبيته ما يقيم الأود أو يكاد، ويحتفظ بباقي المبالغ جميعها حتى تتم ثمن فدان فيشتريه.
وقد آن لنا الآن أن نروي قصة الحزام الذي عرضنا له في أول هذا الحديث؛ فقد كان الشيخ عبد الودود يضع هذه الأموال في حزام خاص يربطه حول بطنه ويلصقه به ما أمكن، حتى يحسه دائما، وحتى يظل واثقا من بقائه حيث هو، وحتى لا تبتعد هذه الأموال عن جسمه، وهل كانت إلا جزءا من جسمه؟ وقد صار هذا الحزام مشهورا في القرية والقرى المجاورة، شهرة الشيخ نفسه. لقد كان الشيخ عبد الودود حريصا كل الحرص على إلصاق هذه الأموال بكيانه، لا يفصلها عنه إلا ذلك الجلد الذي صنع منه الحزام والذي لا يملك حيلة فيه، فلو كان مستطيعا أن يضع المال على نفسه بغير حائل من الحزام لفعل. وقد يرفع الشيخ عبد الودود الحزام عن نفسه مرة في الشهر أو مرتين حتى يستحم، ولكنه - إن فعل ذلك - فهو إنما يفعله والحزام منه بمرصد، فإنه إن سمح بأن يفارق الحزام جسمه فهو لا يسمح مطلقا بأن يفارق عينيه.
অজানা পৃষ্ঠা