لقد نجح فخري في الامتحان وهو اليوم عائد لينقل بشراه إلى ... إلى من؟
أيميل إلى درية فيحتال للقائها بكل سبيل ثم يلقي بين يديها نبأ انتصاره؟ أم يقصد من فوره إلى أبيه فيستنهضه إلى العمدة ليخطب درية؟ تكاد الحيرة تقلق الفرح الغامر الذي يتواثب في كيانه جميعا، ولكن قليلا ما تلبث هذه الحيرة؛ فقد انتصرت درية، وهل يمكن إلا أن تنتصر.
دوار العمدة صامت لا صوت به ولا حركة حوله، فالجميع لاجئون إلى سقف يدرأ القيظ عنهم، انفتل فخري إلى باحة الدوار وأجال نظره في مراح الصبا وملتقى الهوى، فما وجد غير تلك الشجرة التي أظلت الطفولة والشباب، والتي يطل عليها الشباك ذو المصراعين الخشبيين اللذين يقفلان على أعواد من الحديد الأسود.
يلجأ فخري إلى ملاذه القديم من ظل الشجرة، وينقر الشباك نقرات لا تكاد تنتظم ولا تكاد تبين، وتطل درية: من؟ فخري هل جئت؟ - نعم. - الدنيا نهار، وللناس عيون! - غبت عنك أياما كثيرة، وعندي أخبار لا تعبأ بالدنيا ولا بالنهار ولا بالناس ولا بالعيون. - خير؟ - نجحت في الامتحان وأصبحت في السنة الرابعة. - والنبي؟ مبروك، مبروك يا فخري. - مبروك لا تكفي. - وماذا تريد؟ - ألا تعرفين معنى نجاحي هذا؟ - معناه أنك أصبحت في السنة الرابعة. - ومعناه أن أبي سيجيئ إلى أبيك. - إلى أبي؟ - نعم. - ولماذا؟ - لماذا؟ ألا تعرفين؟ - أظنني أعرف. - فما لك لا تطيرين من الفرح؟! ما لك لا تكسرين هذا الحديد الذي يحول بيننا؟! أراك واقفة لا تزالين، درية ما لك مطرقة؟! - أخاف يا فخري! - مم؟ - إن أبي يحلم أحلاما كبيرة لا أريدها أن تتحقق، ولكن أخشى أن يرفض اليوم ما نهفو إليه وينقطع ما بيننا، وأفقد حتى الأمل الذي أحيا به. - أبوك يرفض طلب أبي! ألا تعرفين ما بينهما من صداقة؟ - أعرف ولكن أخشى. - فدعي الخشية الآن وافرحي معي. - أرجو أن أفرح. - فافرحي. - الله لنا يا فخري! - يا شيخة لقد أفسدت فرحتي بتفكيرك. - أنت محق يا فخري؛ فالتفكير - على أي لون له - يفسد الأفراح، ولكن لا عليك، اذهب أنت الآن إلى أبيك، ولندع الله أن يحقق آمالنا. - إن الله أرحم من أن يفرق بيننا. - قادر على كل شيء يا فخري. - طيب أشوفك في المساء إن شاء الله. - إن شاء الله.
ويمضي فخري إلى أبيه، وقد تطامنت فرحته بعض الشيء، يفكر في درية وفي صداقة أبيه لأبيها، وفي نجاحه، وفي مديح الناس له وفي المستقبل الذي ينتظره، وفي حبه لدرية وحبها له، فإذا أراد عقله أن يجمح به إلى قلة ماله رد عقله في عنف عن هذا التفكير السخيف، وما المال أمام الصداقة والمديح والمستقبل والحب؟
5
قام كمال من جلسته في بيت النمرود، وقد أحس أن الله أجاب سؤله وحقق رجاءه، ومن عليه أخيرا بما كان منتهى آماله؛ فقد عرف في هذه الليلة أين يحصل على سلاح، وهو يعرف منذ أمد بعيد كيف يستعمل هذا السلاح، ويعرف كل خطوة سيخطوها منذ أن يستعمله، وأراد كمال أن يحتفل بمستقبله الذي رسمه في ظل السلاح الجديد، وإن له لمراسم خاصة لاحتفالاته، تعود أن يقيم هذه المراسم كلما حصل على مبلغ كبير سكبه عليه فرح ثري، أو غفلة من صاحب مال مكنته أن يسرق هذا المال.
وكان احتفاله هذا مقصورا على نفسه، يشاركه فيه جزء آخر من الهمل يسعى في القرية ضالا بلا هدى ولا مأوى إلا الاستجداء والإلحاف في الاستجداء.
كانت «وطنية»، وذلك هو اسمها، هي صديقة كمال، نشأت من المجهول وتسير إلى المجهول، لا يعنيها من طريقها إلا أن تسير، ولا يعني أحدا من أمرها أن تسير أو لا تسير، فهي بنت المجهول، أبوها الليل الدامس وأمها شجرة على الطريق، عثرت بها قابلة القرية في ليلة حالكة السواد، ولولا أن وطنية كانت تصرخ ما أحست بها القابلة في ليلتها تلك ، ولولا أن القابلة كانت عائدة من ميلاد شرعي متعسر ما عاشت وطنية، وكانت البلاد في ذلك الحين واقعة تحت موجة من موجات الوطنية التي يثيرها الزعماء، فرأت القابلة أن تسمي اللقيطة وطنية. وأصبحت وطنية في القرية أكثر شهرة من الوطنية ذاتها؛ فإن القرية لا تجد في كل يوم حادثا مثل هذا يوسع لها مجالات الحديث والتخمين والاستنكار، والتعوذ بالله من الشيطان، واستغفار الله للجاني والجانية، وطلب الستر على العباد الصالحين وغير الصالحين، ولكن إجماع القرية كان منعقدا على أن وطنية من قرية أخرى؛ إذ لا يعقل أن تحمل فتاة من القرية دون أن ترى القرية حملها، وفتيات القرية غاديات رائحات على الملأ لا يتخفين.
وهكذا ظهرت وطنية في القرية من ثنايا قصة خزي وعار، وأكد الناس أنها غريبة من القرية، فأصبحت تجمع إلى ذل العار انكسار الغريب، وفي وسط هذه الأمواج المتزاحمة من الهوان شبت وطنية تضارع بقبح وجهها قبح مكانتها في القرية، وكأنما رفضت الطبيعة أن تهب لها شيئا تتعزى به؛ فهي عجفاء بلا قوام على الإطلاق، ينتهي جسمها من أعلى بكمية من الشعر الأسود القوي يتأبى على كل منديل يحاول أن يلم شعثه، تعقبه إلى أسفل جبهة ضيقة، فعينان صغيرتان تحيط بهما مرتفعات ضخمة، لا بد لك أن تنعم فيها النظر حتى تتبين خلالها أنف وطنية الأفطس، وما إن تتبينه حتى تقف حائرا كل الحيرة، باحثا عن المكان الذي يمكن أن يدخل منه الهواء أو يخرج إلى ومن جسم وطنية. ثم ما تلبث أن تفيق من هذه الحيرة حين يروعك فمها، فإنك حينئذ ستدرك أن هذا الفم لا يمكن أن يمنع الهواء داخلا أو خارجا، فهو من السعة بحيث يحتاج إلى قوة عنيفة لتمسك به مقفلا يذود الهواء او أي شيء أن يدخل أو يخرج منه، فإن استطعت أن تحول عينيك عن الفم وتنحدر بهما إلى أسفل الوجه، وجدت ذقنا يحاول جاهدا أن يخفي ما اتسع من الفم، فهو صغير جميل، يفضي إلى رقبة معتدلة، وإن كانت - من شدة هزل وطنية - تكاد تحسبها امتدادا لجسمها، أو تكاد تحسب جسمها امتدادا لتلك الرقبة.
অজানা পৃষ্ঠা