وقد كانت درية تلقاه وقد أحاطت باسمه عندها كل هذه الهالة التي أقامها حول نفسه، فتذكي حبها له بإكبار، وكان الشباب قد حال بين اجتماعهما منفردين بعلم من الآباء والأمهات، ولكن هذا الشباب نفسه مهد لهما اللقاء المختلس في ستار من الليل ووقار من العفة.
كانا يلتقيان في باحة الدوار نفسها هناك تحت شجرة أظلتهما وأظلت حبهما شابين، والليل هاجع والعيون مغمضة إلا أعينهما، والرقيب بمنأى إلا رقيبا أقامه في نفسيهما أمل في الغد والزواج، وماض من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.
كان حديثه يدور عن المدرسة ثم عن الكلية، وكان حديثها يدور عن أتراب الباحة من اللاعبين وما صارت إليه أمورهم، فكانت تجد في حديثه الدنيا التي لم تعرف عنها إلا ما تقرؤه فيخيل إليها أن صاحبها أحاط بكل شيء علما، وكان حديثها عنده أعمق من علم كل عالم عرفه أو لم يعرفه.
ثم ينتهي اللقاء بوعد على اللقاء، حتى إذا انتهت الإجازة انتهى اللقاء بوداع تشتبك فيه الأيدي وتتصافح القلوب وتتعانق الأرواح، يفصل بين الجسدين أمل في الغد والزواج، وماض من الطفولة والملعب يحمل لهما في طواياه أنقى الذكريات.
هكذا كان فخري يقضي أمسيات إجازاته، وهكذا استطاع فخري أن يطارد الزمن في تعليمه، فهو في الطليعة الأولى من الناجحين كل عام، حتى بلغ السنة الثالثة في كلية الحقوق وأدى الامتحان وعاد إلى القرية.
وعاد إلى الأمسيات الحالية في باحة العمدة، إلا أن الحديث من درية لم يعد طلقا كما كان، وإنما تمسكه عن الجريان غصة فيه مترددة بين الظهور والاستخفاء، يحيط بها حياء وخوف وإشفاق وهوى. ولم يكن عقله ليدرك هذه المعاني، ولم يكن عقله بمطيق أن يصل إلى منابت تلك الغصة، ولكن قلبه أحسها حين كان كلامها يصل إلى قلبه. كان يجد بالحديث حصى وهو يعرفه صافيا، ويجد به رواسب ألم وهو يعرفه نقيا طلقا مصطفق المجرى حلو الأرانين. - درية؟ - هه. - أنت تخفين شيئا. - نعم. - ولم تخفينه؟ - لا بد أن يختفي. - حتى عني؟ - عنك بالذات. - لعلني أدركه. - ما أظن. - بل إني أدركه. - لا عليك فلنعد إلى حديثنا. - ويل للزمان. - وما فعل الزمان؟ - سرقنا، سرق طفولتك وطفولتي، فما عدنا نحس الأيام وهي تمضي، غفلنا عن الأيام ولم تغفل، أشرفت بك على النضوج وأنا بعد لم أنل تلك الورقة التي تؤكد أنني استويت، وأصبحت لك أهلا. - لا أفهم ما تقصد إليه. - ومتى جاء الخاطب؟ - بل لم يخطبني أحد. - فهناك من يسعى إلى خطبتك. - ولا ذاك. - فما الذي تخافين؟ - خوف. - مم؟ - من الغد. - وما في الغد؟ - ما أخشاه. - وما يدعوك للخشية؟ - حديث أبي. - أبوك! ماذا يقول؟ - يقول ...؟ - نعم. - يقول ... يقول أريد يا درية أن أزوجك من ابن الحلال، وأريده وافر الغنى، وأريد لك بيتا، بل قصرا في القاهرة، ما رأيك يا درية؟ - وبماذا تجيبين؟ - بالصمت. - بالصمت؟! - وماذا يمكن أن أقول؟! - لا، أما أنت فلا تقولي شيئا، إنه أنا من سيقول ... - وماذا تقول؟ - غدا تعرفين.
ويقوم فخري من مجلسه والدموع تتواثب في عينيه، وتنثني درية إلى حجرتها حائرة لا تدري أأصابت أم أخطأت بحديثها.
ويصل فخري إلى منزله فيجد أباه ما زال صاحيا ويجد أمه وأخاه نائمين، فينتهز الفرصة السانحة ويجلس إلى أبيه لا ينطق، حتى يسأله الأب: ما لك يا فخري؟ - لي أمل عندك يا أبي. - فقله. - أريد أن أخطب. - وما له، ما أحب إلي أن أراك متزوجا سعيدا في بيتك، ولكن ألا تنتظر حتى تأخذ الشهادة الكبيرة؟ - ولكن من أريدها لن ينتظر عليها الخطاب حتى أنال الشهادة، وأنا أريد أن أخطب فقط ثم أتزوج عندما أتم تعلمي. - والله يا ابني لا أرى مانعا، ومن هذه الفتاة التي لا ينتظر خطابها؟ - درية بنت العمدة. - نعم من اخترت يا بني إنها فعلا لن تنتظر، الحبيبة بنت الحبيب، نعم الخيرة يا بني. - فمتى تخطبها يا أبي؟ - كما تشاء. - غدا؟ - غدا. - ولكن ...؟ - ماذا؟ - ألا يحسن أن تنتظر حتى تظهر النتيجة، وأنقل إلى السنة الرابعة؟ - وهل في نجاحك شك يا فخري؟ إنك من الأوائل دائما. - ولكن يا أبي عندما أكون في السنة الرابعة أكون قريبا من التخرج، وتكون مناسبة معقولة للخطبة، وأنت تخبر عم الشيخ زيدان بنجاحي. - والله يا ابني كلام معقول. - غدا سأسافر إن شاء الله ولن أعود حتى أعرف النتيجة، وأجيئك بخبر نجاحي إن شاء الله. - وهو كذلك يا ابني على بركة الله.
ويقوم فخري إلى فراشه فيراح إليه يكاد لا يستقر به من فرح غامر راح يتواثب في حنايا قلبه، يحاول أن ينام فتذود عنه النوم تلك السعادة العنيفة التي انتهت بها ليلته، فيدافع القلق عن عينيه بما جرى له في ليلته تلك، فلا يزيده ذلك إلا قلقا، فيقبل على هذا القلق يكاد يعانقه فرحا به هو أيضا، فما عاد يضيق بشيء حتى بتلك العيون المفتحة وخيوط الفجر توشك أن تنسج بردها من الصباح.
ويسافر فخري في أول وسيلة تصل به إلى القاهرة، وتمضي أيام ثم ما يلبث أن يعود إلى هذا الطريق المؤدي إلى قريته فيدوسه بأقدامه، ويكسر بذلك وعد الشمس الذي بذلته للطريق ألا يدوسه أحد في هذا الحر القائظ، ولكن ما لفخري ولهذا الوعد! إنه عائد إلى قريته يحمل في جنبيه أمل حياته ما مضى منها وما هو في مطوي الغيب خبيء.
অজানা পৃষ্ঠা