قال: «إن الذي تراه إلى يمينه هو أخوه عروة بن الزبير. أما الجالسان إلى يساره فولداه حمزة وحبيب، وترى على مقربة منهما شابا مطرقا هو الزبير ولده الثالث، وإن هذا الشاب لجدير بأن يكون ابن أمير المؤمنين.» ثم تهيأ للنهوض قائلا: «لا بد لي من مفارقتك الآن لأمر يدعو إلى ذلك، فإننا في مجلس ذي بال اليوم، وستسمع وترى فإن هؤلاء من قريش وهم رؤساء القبائل.» ثم سار حتى وقف على مقربة من عبد الله فأشار إليه عبد الله أن يقعد.
وبعد قليل، وقف أحد الجالسين وخاطب عبد الله قائلا: «يا أمير المؤمنين، إننا بحمد الله نؤمن بصدق دعوتك وأنك على الحق، وقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج.»
فلما سمع حسن ذلك الكلام تحقق ضعف القوم وأنهم صائرون إلى الفشل. ثم سمع ابن الزبير يقول: «ألم تبايعوني على أنفسكم وأموالكم؟»
فقال الرجل: «بلى ولكنا نرجو أن تقيلنا بيعتنا؛ إذ لا نرى فائدة من البقاء عليها.»
فقال عبد الله: «إنني عاهدت الله على ألا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان.»
فالتفت حسن إلى ابن صفوان فرآه قد وقف بغتة والحمية والغيرة تنبعثان من عينيه وقد ظهر التأثر في وجهه وقال: «أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت ولا أسلمك في مثل هذه الحالة.»
ولم يتم صفوان قوله حتى علت الأصوات وضج الناس، وانقسموا شيعا وأحزابا، وبدا أن أكثرهم لا يرون رأي ابن صفوان. فشق ذلك على حسن ودبت الحمية في عروقه فوقف وقال: «بورك فيك يا ابن صفوان، بورك في رجل بايع وثبت على بيعته، إن أمير المؤمنين كما تعلمون أولى الناس بهذا الأمر؛ وذلك لأن عثمان استخلفه على داره يوم مقتله فهو ولي عهده من ذلك اليوم. وإنكم لتعلمون أنه نعم الخليفة لا تغره بهارج الدنيا. ألا ترون عبد الملك بن مروان كيف يستعين على هذا الأمر بالمال والرجال؟ في حين يستعين أمير المؤمنين بالصوم والصلاة! تلك هي خلافة الراشدين رحمهم الله أجمعين. ألم تسمعوا ماذا فعل عبد الملك يوم جاءه الخبر بالبيعة بعد موت أبيه مروان؟ أنتم تعلمون أن عبد الملك كان من فقهاء المدينة، ولكثرة ما كان يظهره من التدين والتقوى سموه حمامة المسجد، فلما مات أبوه وبشر بالخلافة كان المصحف في يده فأطبقه وقال: «هذا فراق بيني وبينك!» فأين هذا من سجود أمير المؤمنين وصلاته وصيامه مما لا يخفى على أحد. هذا وإن لأمير المؤمنين بيعة في أعناقكم، وأنتم جماعة قريش أهل الحماسة والنخوة، فكيف تغادرون أمير المؤمنين في مثل هذه الحال؟ أما لكم أسوة بابن صفوان؟!»
وكان حسن يتكلم والعرق يتصبب من جبينه وقد امتقع لونه وأيقن أن القوم قد نكصوا على أعقابهم، ولكنه لم يستطع غير الانتصار لما رآه حقا، وكانت الأبصار شاخصة إليه؛ لأنه غريب لم يعرفه أحدهم. وكان عبد الله بن الزبير ينظر إليه ويعجب بغيرته. فلما فرغ من الكلام علت الضوضاء فوقف رجل آخر وقال: «لقد نطقت بالصواب، وإن البيعة في أعناقنا لا ننكرها، وما نحن خارجون من بين يديه إلا بأمره. ولكننا نرى القتال أصبح عبثا، ومعنا من الرجال عشرة آلاف، وقد جعنا جميعا وعطشنا وقلت مئونتنا وذخيرتنا. وهذه منجنيقات الحجاج ترمينا من فوق الكعبة لا يبالي حرمة هذا البيت. وقد نصب لنا الحجاج الآن راية الأمان فمن خرج إليها سلم. فما بالنا لا نختار الطريق الأسلم!» ثم التفت الرجل إلى عبد الله بن الزبير وقال: «اكتب إلى عبد الملك بن مروان لترى رأيه، فلعلكما تنتهيان إلى أمر فيه صلاح الحال.»
فلما سمع عبد الله اسم عبد الملك بن مروان أجفل وتغير وجهه وقال: «كيف أكتب إليه؟! أبدأ بنفسي أو أبدأ به؛ أأكتب «من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟» فوالله لا يقبل هذا أبدا، أم أكتب «لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟» فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك.» قال ذلك وعاد إلى إطراقه، وسكت الناس ينتظرون رأيا جديدا فإذا بعروة بن الزبير أخي عبد الله التفت إليه وهو جالس بجانبه على المقعد وقال له: «يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة.»
فقال عبد الله وقد ظهر الغضب في جبينه: «من هو؟»
অজানা পৃষ্ঠা