أبطال الرواية
مراجع رواية الحجاج بن يوسف
1 - فذلكة تاريخية
2 - عزة الميلاء وليلى الأخيلية
3 - حكاية ليلى مع توبة
4 - حسن وسمية
5 - مجلس سكينة بنت الحسين
6 - المفاجأة السارة
7 - جميل وبثينة
8 - حسن وسليمان وأبوه
9 - سمية في منزل سكينة
10 - القتل أو الزواج بالحجاج
11 - عبد الله بن الزبير
12 - رمي الكعبة بالمنجنيق
13 - فشل ابن الزبير
14 - سمية في بيت الحجاج
15 - أم ابن الزبير
16 - مقتل ابن الزبير
17 - محاكمة حسن وعرفجة
أبطال الرواية
مراجع رواية الحجاج بن يوسف
1 - فذلكة تاريخية
2 - عزة الميلاء وليلى الأخيلية
3 - حكاية ليلى مع توبة
4 - حسن وسمية
5 - مجلس سكينة بنت الحسين
6 - المفاجأة السارة
7 - جميل وبثينة
8 - حسن وسليمان وأبوه
9 - سمية في منزل سكينة
10 - القتل أو الزواج بالحجاج
11 - عبد الله بن الزبير
12 - رمي الكعبة بالمنجنيق
13 - فشل ابن الزبير
14 - سمية في بيت الحجاج
15 - أم ابن الزبير
16 - مقتل ابن الزبير
17 - محاكمة حسن وعرفجة
الحجاج بن يوسف
الحجاج بن يوسف
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
عبد الله بن الزبير:
ابن الزبير بن العوام.
عبد الملك بن مروان:
أحد ملوك بني أمية.
الحجاج بن يوسف الثقفي:
عامل عبد الملك على العراق.
سكينة بنت الحسين:
بنت الحسين بن علي.
ليلى الأخيلية:
الشاعرة المشهورة.
عزة الميلاء:
زعيمة الغناء بالمدينة.
سمية بنت عرفجة الثقفي:
من فتيات المدينة.
حسن خطيب سمية:
من أهل العراق.
محمد بن الحنفية:
أخو الحسين بن علي.
عبد الله بن صفوان:
من أتباع ابن الزبير.
مراجع رواية الحجاج بن يوسف
هذه المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
صفوة الاعتبار.
المستطرف.
مراصد الاطلاع.
الدر المنثور.
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
مشكاة المصابيح.
التقويم العام.
البخاري.
البيان والتبيين.
مقدمة ابن خلدون.
تاريخ: ابن هشام - ابن الأثير - الدميري - ابن خلكان - الفخري.
أسد الغابة.
العقد الفريد.
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
انتهينا في رواية «غادة كربلاء» إلى مقتل الحسين بن علي وأهله في كربلاء بجوار الكوفة، وما تلا ذلك من وفاة يزيد بن معاوية سنة 64ه. وكان عبد الله بن الزبير ما زال في مكة يدعو إلى بيعته، وقد خلا له الجو بعد موت الحسين . وكان يزيد قد بعث لقتاله جندا بقيادة الحصين بن نمير، فحاصروه بمكة، ثم جاء الخبر بوفاة يزيد وهم في الحصار. ولم يكن من أبناء يزيد من يصلح للخلافة، فرأى الحصين أن الأمر لا يستتب إلا بمبايعة عبد الله بن الزبير، فطلب إليه أن يحقن الدماء ويقدم معه إلى الشام ليبايعه، فأبى عبد الله، فارتحل الحصين إلى الشام بمن معه ودانت الحجاز لابن الزبير.
أما أهل الشام فبايعوا بعد موت يزيد ابنه معاوية (الثاني). ولكن هذا لم يعش إلا أياما، فاختلفوا فيمن يبايعون بعده. وكان من أمراء بني أمية وقتئذ مروان بن الحكم، وقد تولى إمارة المدينة في عهد يزيد، فلما علم بموته عاد إلى الشام، فبايعوه. وكان شيخا طاعنا في السن، فتزوج أم خالد بن يزيد ليصغر نفس خالد عن طلب الخلافة، ويكتسب حزبه. ولكنه لم يحكم إلا تسعة أشهر وبضعة عشر يوما؛ إذ خنقته امرأته هذه سنة 65ه. فولوا مكانه ابنه عبد الملك بن مروان. وفي أيام هذا الخليفة زهت دولة بني أمية وتأيد سلطانها.
وأما أهل الكوفة فإنهم بعد مقتل الحسين ندموا على تخليهم عنه، وقاموا يطالبون ابن زياد وأصحابه بدمه، وسموا أنفسهم التوابين.
وفي سنة 66ه ظهر في الكوفة رجل اسمه المختار بن أبي عبيد، قام يطالب بدم الحسين ويدعو الناس إلى بيعة ابن الزبير، فحارب الأمويين وقتل قتلة الحسين وفيهم عبيد الله بن زياد وشمر بن ذي الجوشن وخولي الأصبحي وعمر بن سعد ... وغيرهم. على أنه ما لبث أن غير دعوته، فأخذ يدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين لأبيه، وزعم أن جبريل يظهر له، واتخذ كرسيا قال إن فيه سرا مثل سر تابوت العهد عند اليهود.
فلما استفحل أمر المختار في الكوفة ودان له العراق، أصبحت الخلافة يتنازعها ثلاثة: عبد الملك في الشام ومصر، والمختار في العراق والكوفة، وعبد الله بن الزبير في الحجاز. وغضب عبد الله على المختار لنقضه بيعته، فبعث لقتاله جندا بقيادة أخيه مصعب بن الزبير، فقتلوه ودانت العراق لعبد الله ، ولم يبق لبني أمية غير الشام ومصر.
ولكن عبد الملك بن مروان ما لبث أن حمل على مصعب في العراق بجند كثيف فقتله سنة 71ه، واسترجع العراق. وبعث جندا إلى الحجاز ففتح المدينة، ثم أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي في جند لفتح مكة وفيها عبد الله بن الزبير، فحاصرها وطلب إلى عبد الله أن يسلم فأبى. فدخلت سنة 73 وابن الزبير محصور في مكة وقد قل زاده وفارقه رجاله.
ومن هنا تبدأ حوادث هذه الرواية.
الفصل الثاني
عزة الميلاء وليلى الأخيلية
المدينة أو «يثرب» هي مدينة الرسول وفيها قبره ومسجده. وكان يحيط بها سور وخندق، وهي واقعة في منبسط من الأرض تكتنفها الآجام والغياض، وتتخلل أبنيتها البساتين والحدائق وأكثر مغارسها من النخل. وقد عمرت في صدر الإسلام، حتى كانت أيام يزيد بن معاوية، فهاجر منها كثير من أهلها لكثرة الفتن والحروب في أيامه، ولكنها ما زالت آهلة بالناس، وفيها أهل البيت.
وكان من أهل المدينة في أواسط القرن الأول للهجرة مغنية يقال لها «عزة الميلاء»، وكانت مولاة للأنصار، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء في الحجاز. وقد سميت «الميلاء» لتمايلها في مشيتها لفرط سمنها. وكان العود حديث العهد عند العرب فأجادت العزف عليه، عدا ما كانت تحسنه من العزف بالمزاهر وبقية آلات الطرب، وكانت جميلة الوجه ظريفة اللسان كريمة الخلق سخية النفس لا يقدم قادم إلى المدينة إلا التمس أن يراها ويسمع غناءها.
وكان العرب يومئذ لا يعدون الغناء من الصنائع اللائقة بأهل الشرف، على أن عزة كانت مع ذلك ذات دين حسن وهيبة ووقار، إذا جلست للغناء في حفل عام أنصت لها الحاضرون وكأن الطير على رءوسهم.
وكانت دارها في أقصى شمال المدينة مما يلي طريق الشام، يحيط بها بستان من النخيل تتخلله أشجار الفاكهة من البرتقال والتفاح، وعليه سور قليل الارتفاع له باب بمصراع واحد في وسطه خوخة. وفي بعض جوانب البستان حظيرة مبنية من سعف النخل توضع فيها الدواب. وللدار باحة كبيرة في كل جانبيها غرفتان ، وفي الصدر قاعة واسعة تجلس فيها عزة لمقابلة الزوار، وفي باحة الدار نخلات متقاربة تظلل الباحة في أثناء النهار.
ففي يوم من أيام ربيع الآخر سنة 73 للهجرة (وهو يوافق شهر أغسطس سنة 693م) قضت عزة الميلاء نهارها في بيتها. وكان يوما شديد الحر، والحر ثقيل هناك للرطوبة المتكاثفة مما يتصاعد من أبخرة المستنقعات والأشجار، فلما دنت الشمس من الغروب دخلت إلى مخدعها فأخرجت قارورة من الطيب فتطيبت، وبدلت ثيابها فالتحفت ملاءة معصفرة لونها أصفر زاه، وكشفت النقاب عن رأسها لشدة الحر مع خلو المكان من الرجال. وأرادت أن تتناول عشاءها على سطح البيت تحت قبة السماء.
وكانت يومئذ في نحو الخمسين من عمرها وقد تزايد سمنها وذهبت استدارة وجهها وارتخى خداها واستطالا إلى أسفل الذقن، وثقل بدنها حتى لم يكن في المدينة دابة تحملها. وكانت قلما تنتقل من بيتها، والناس يفدون عليها لسماع غنائها أو ضرب عودها، ويحملون إليها الأموال والهدايا من الحلي والجواهر، حتى ملأت معصميها بالأساور والدمالج وطوقت عنقها بالعقود، وضفرت شعرها بسلاسل الذهب والدنانير، وعلقت في أذنيها قرطين كبيرين يتناسبان مع حجم أذنيها؛ لأنها كانت كبيرتهما مع تناسب التكاسير. وكذلك آذان أهل الغناء والموسيقى في الغالب.
وكان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة لا يعرفها استشار عزة ووسطها في خطبتها أو استطلاع مدى جمالها وصحتها.
وكانت عزة قد قضت ذلك اليوم ولم تعمل عملا لشدة الحر، وعندها فتاة من نزالة المدينة اسمها «سمية» كانت تحبها وتأنس بها. وكانت الفتاة ترتاح إلى عزة وتكاشفها بسرها وتستشيرها في أمرها، وقد جاءتها يومئذ وعليها ثوب أحمر يكسوها كلها. وكانت معتدلة القامة صحيحة الجسم، إذا نظرت إلى تقاطيع وجهها أفرادا لا ترى جمالا باهرا، ولكن في عينيها ما يدل على الذكاء والحب، وحول ثغرها ابتسامة تأخذ بالعقول، حتى كانت وهي في أشد اضطرابها قلما تبدو الكآبة في وجهها، وربما زاد ذلك في هيبتها. وفي ذقنها اندفاع قليل إلى الأمام مع بروز، وهو دليل الانعطاف، وفي أنفها ذلف قليل يزيدها مهابة. وكانت في نحو الثالثة والعشرين من عمرها.
فلما أرادت عزة الصعود إلى السطح أمرت جارية لها أن تفرشه بالأبسطة وتعد عليه المائدة، وأمسكت ضيفتها بيدها وقالت لها مداعبة: «هلم بنا إلى السطح يا سمية واتركي الهموم جانبا، وتعالي لأريك يثرب وضواحيها من سطح بيتي فإنها من أجمل ما يكون، ولا تعجلي في العودة إلى بيتكم فما أظن أباك قد عاد إليه بعد.»
فمشت الفتاة وراءها وقد ارتاحت لقولها، وأرادت نسيان ما يجول في خاطرها من دواعي الهموم، وصعدتا على سلم من خشب كان يهتز تحت قدمي عزة، حتى وصلتا إلى السطح وقد انتهت الجارية من إعداد المائدة. فجلست عزة، وأجلست سمية إلى جانبها، ولاحظت أنها ما زالت مضطربة البال، فأرادت أن تصرف ذهنها إلى شيء آخر فلم تر خيرا من أن توجه التفاتها إلى ما يحيط بالمدينة من بساتين النخيل وما بينها من برك الماء والمستنقعات فقالت لها: «تأملي يا بنية في هذه البساتين الواسعة وراء سور المدينة، فإن نظرك لا يقف في آخرها إلا على التلال البعيدة، ولا سيما هذا الجبل، وهو جبل أحد الذي جرت فيه الوقعة الشهيرة بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وقريش. وذكر هذه الوقعة يؤلمني؛ لأن الغلبة فيها كانت للقرشيين، وقتل من المسلمين سبعون رجلا وأصيب النبي بجراح وقتل عمه حمزة.»
قالت سمية: «وهل شهدت تلك الوقعة؟»
قالت: «كلا، فقد حدثت منذ سبعين سنة فكيف أشهدها؟!» ثم عادت إلى إتمام كلامها عن تلك المناظر فقالت: «وإني ليعجبني مناظر المياه حوالي غروب الشمس، انظري إلى هذه البحيرة فإن ماءها ساكن كأنه صفحة من الفضة اللامعة، وظلال النخيل تتراءى على شواطئها مقلوبة كأنها مردة من الجان غائصون في الماء.»
وكانت الشمس لما دنت من المغيب قد أرسلت أشعتها منحرفة على تلك المغارس، فاستطالت ظلال النخيل، وما زالت تستطيل وتضعف حتى اختلطت بالظلام.
وأما سمية فكانت تساير عزة فيما تقول وبصرها شائع في تلك البحيرة بالرغم عنها، والبصر إذا أطلق سراحه يطلب النور. وكان سطح البحيرة بعد أن غابت الشمس ما زال يلمع بفعل انعكاس الشفق عليه، وظلال النخيل فيه واضحة عليه وضوح الخطوط السود على الصفحة البيضاء. وبعد قليل لم يعد يظهر للرائي غير سطوح المياه وما يبدو فيها من ظلال الأشجار. •••
اشتغلت عزة وسمية عن الطعام والكلام بالتأمل في ذلك المنظر البديع ثم همت عزة بالطعام ودعت سمية إلى مشاركتها فيه، وجعلت تقطع من لحم الدجاج وتناولها فتأكل وعيناها شاخصتان إلى تلك المناظر، ثم عادت عزة إلى محادثتها فقالت لها: «ما لي أراك صامتة يا سمية؟ هل تفكرين في تأخر عودتك وتخافين أن ينقم عليك أبوك لهذا؟ إنه إذا علم أنك عند عزة فلن يلومك.»
وتوقعت عزة أن تسمع من سمية جوابا، ولكنها رأتها تحدق النظر في تلك البحيرة، وآنست في وجهها بغتة وقد توقفت عن المضغ واللقمة لا تزال في فمها، وقطبت حاجبيها وحددت بصرها، فأعادت عزة سؤالها، فأجابتها سمية وهي تشير بيدها إلى البحيرة: «كأني أرى النخيل تنتقل في الماء ... ما هذا ...؟ ماذا أرى؟»
فالتفتت عزة إلى جهة البحيرة فرأت ظلالا تتحرك في الماء بين ظلال النخيل، ولكنها لم تر الأشباح على الجرف؛ لأن الظلام حجبها، بينما انعكاس الشفق على سطح الماء أبداها فقالت: «إنك ترين ظل شبح سائر بجانب البحيرة.» وتفرست عزة قليلا ثم قالت: «إن الذي نراه ظل شبحين أظنهما فارسين مارين بين النخيل على حافة الجرف، لا بل هما جملان وعليهما رجلان. أليس كذلك؟»
قالت سمية: «بلى، هما جملان. ويخيل إلي أنهما ماشيان على سطح الماء!»
فضحكت عزة وقالت: «إنك ترين ظليهما يا بنية، وأرى الآن شبحا ثالثا أظنه جملا ثالثا.» ولم يمض قليل حتى توارت الأشباح فقالت عزة: «لا تقلقي، ليس ما ترين إلا أناسا أظنهم قادمين إلى المدينة من دمشق، وما هذه أول مرة رأيت مثل هذا المنظر، فعودي إلى طعامك فقد برد الهواء وانفثأت حمأة القيظ، ومتى فرغنا من الطعام أسمعك صوتا تلقنته عن أستاذتي رائقة.»
فعادتا إلى الأكل وهما لا تتكلمان، ولم تكادا تفرغان من الطعام حتى تكاثف الظلام واحتاجتا إلى الضوء، فصفقت عزة، فجاء رجل في نحو الستين من عمره ما زالت آثار الجمال بادية فيه، وهو نظيف الثوب حسن الهندام، فلما رأته سمية غطت وجهها، فضحكت عزة وقالت: «أتحتجبين من مخنث؟!» ولم تكن سمية قد عرفته في الظلام.
وكان في المدينة جماعة كبيرة من هؤلاء المخنثين، يخالطون النساء، وأكثرهم يحبون الغناء ويحسنونه. وكان من أراد خطبة امرأة سأل عنها أحد المخنثين فيصفها له، ثم يتوسط بينه وبينها حتى يتزوجها. وكان أكثر هؤلاء المخنثين يترددون على عزة ويتقربون إليها ليستفيدوا منها تعلم الأصوات.
فلما وقف ذلك المخنث بين يديها قالت: «ما جاء بك يا طويس؟»
فلما سمعت سمية اسم طويس قالت: «أطويس هذا؟»
قالت: «هو بعينه. ولا تعجبي من أنه جاء على غير موعد؛ فإن ذلك دأبه معنا.» ثم التفتت إليه وقالت: «يا طويس قل للجارية تضيء لنا الشموع فإننا سننزل بعد قليل.»
قال: «أفعل ذلك بشرط.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «تغنين لي شعرا على الهزج.»
قالت: «أتطلب أن أغني لك الهزج وأنت أهزج الناس؟ ألا سألتني أن أغني من الثقيل أو الرمل؟»
قال: «لا أبالي أي صوت وإنما أقترح عليك شعرا تغنينه.»
قالت: «أفعل إن شاء الله. ولكني أخاف من وجهك فإنه مشئوم.»
قال: «وأكثر من مشئوم، فإن أمي ولدتني ليلة قبض النبي
صلى الله عليه وسلم . وفطمت ليلة مات أبو بكر، وبلغت الحلم ليلة قتل عمر، وزففت إلى أهلي ليلة قتل عثمان، وولد لي يوم قتل علي!»
فضحكت عزة لخفة روحه وقالت له: «أرجو ألا يكمل شؤمك علينا الليلة، فامض أعزك الله وافعل ما قلته لك.»
نزل طويس، وبعد قليل نزلت عزة وسمية ودخلتا القاعة المعدة لاستقبال الأضياف. وجلست عزة على مقعد، والأرض مفروشة بالطنافس وحولها الوسائد وقد أوقدت فيها الشموع. وجلست سمية بجانبها وعادت إلى هواجسها. وأما طويس فإنه تناول دفا مربعا كان معلقا على الحائط بين طائفة من الأعواد والمزاهر والدفوف. ورماه في حجر عزة.
فقالت: «ويلك! ماذا تريد؟»
قال : «بأبي أنت وأمي، أريد أن أسمع غناءك.»
قالت: «تمهل يا طويس ريثما أستريح.»
وفيما هي تكلمه سمعت هدير الجمال بقرب باب البستان، فقالت: «انظر يا طويس من جاءنا الليلة ... إني أخشى أن يكون شؤمك قد وصل إلينا.»
قالت سمية: «وأي شؤم تخافين ونحن في أمان؟!»
قالت وقد خفضت صوتها: «ما أظننا في أمان وأميرنا اليوم يأكل المخ ويأكل فوقه التمر على منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم . اذهب يا طويس وانظر من القادم.»
فهرول طويس إلى نعليه ولبسهما، ومشى وهو يتظاهر بالمجون في مشيته حتى قطع البستان وانتهى إلى باب الدار وفتح خوخة الباب وأطل منها، فرأى جملين بجانبهما رجلان: أحدهما قد تلثم بالكوفية والتف بالعباءة، والآخر قصير غير ملثم يشبه أن يكون خادما. فقال لهما: «من أنتما؟ وماذا تريدان؟»
فأجابه الطويل بصوت كأنه هدير الجمل وقال: «أليس هذا بيت عزة الميلاء؟»
قال: «بلى وماذا تريد منها؟»
قال: «أريد الدخول إليها.»
قال: «ومن أنت؟ ألا انتسبت؟»
قال: «لا أنتسب.»
قال: «أتريد الدخول وأنت ملثم كما أرى؟!»
قال: «نعم.»
قال: «دعني أستأذن لك.» وعاد طويس إلى عزة وأخبرها بما رآه. فلما سمعت سمية قوله تحفزت للقيام وقالت لعزة: «دعيني أنصرف إلى أبي فقد طال مكثي عندك اليوم، ولا سيما أني أرى رجالا قادمين إليك ولا يليق بي البقاء معهم.»
قالت: «لك الخيار يا بنية، ولكن إذا انصرفت فلا تطيلي الغياب، وليكن خروجك من الباب الخلفي للدار، وذهابك من الطريق القريب الذي تعرفينه.» فودعتها وانصرفت، وجعل طويس يشيعها ببصره حتى توارت عنه، ثم التفت إلى عزة وأشار بضم أنامله وزم شفتيه إلى أنها جميلة. فأومأت إليه أن يصمت ثم قالت: «اخرج إلى الطارق واطلب إليه أن يريك وجهه أو يذكر لك اسمه.»
فذهب طويس وبعد غياب طويل عاد وهو يقول لعزة: «إن صاحبنا من أهل البادية ويهوى الغناء، وقد جاء لسماع عزة الميلاء، وقد سألته عن اسمه فأبى أن يخبرني به، ولما ألححت عليه قال إنه لا يقول اسمه ولكنه أنشدني هذين البيتين:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل «وطلب أن أخبرك أنه قائلهما.»
فلما سمعت عزة قول طويس بغتت وتبسمت، ولولا ثقل بدنها لوثبت إلى الباب لاستقبال ذلك الضيف. فقال لها طويس: «ما بغتك يا عزة؟»
قالت: «ألا تعرف قائل هذا الشعر؟»
قال: «كلا ... ومن هو؟»
قالت: «لو أني سمعت لفظ قائله لعرفته ولو كان في غير هذا الشعر. ألم تر أنه يلفظ حرف المضارعة مكسورا مثل أهل بهرا؟»
قال: «أظنني لحظت ذلك فيه، ولكن ماذا في هذا؟»
قالت: «ويلك! هذه ليلى الأخيلية الشاعرة، وهذا الشعر شعرها وهي تكسر حرف المضارعة في لفظها أيضا.»
قال طويس: «إذا كانت هذه هي ليلى فقد تم حظنا؛ لأني أسمع بشعرها وحديثها مع توبة الذي كان يهواها، فهل أدعوها؟»
قالت: «كيف لا وهي صديقتي ويندر أن تنزل إلى المدن إلا لحاجة ماسة؛ لأنها تقطن البادية.»
فأسرع طويس مهرولا حتى أتى الباب ففتحه، ورحب بليلى وجعل ينظر إلى قامتها ويلاحظ مشيتها وهي ملتفة بالعباءة وطولها يندر في النساء. ولكنه لم يتمكن من رؤية وجهها؛ لأنها كانت ما زالت ملثمة، فدخلت البستان وأشارت إلى خادمها أن يدخل الجملين إلى الحظيرة ومشت تخطر في مشيتها وطويس يمشي وراءها ويتأمل قامتها وحسن مشيتها واللثام محيط برأسها ووجهها جميعا.
فلما أقبلت على القاعة نهضت عزة وسارت لاستقبالها عند الباب وهي تقول: «مرحبا بليلى، أهلا بك يا حبيبة. لقد بالغت في الاختفاء حتى أسأنا معاملتك وأخرناك.» قالت ذلك وتناولت وسادة فوق البساط وثنتها وأجلستها عليها.
فقالت ليلى بصوتها الجهوري الذي لا يكاد يشبه أصوات النساء: «لا بأس عليك، وإن لم يكن ذلك ذنبي؛ لأني كنت أحسبك تعرفينني من صوتي ولهجة كلامي.»
كان طويس واقفا بالباب يتشوق لرؤية وجه ليلى، ولكنها بقيت ملثمة لا تلتفت إلى طويس كأنها تتوقع خروجه لتخلو إلى عزة، فأدركت هذه ما في نفسها فقالت: «لا تحتجبي يا ليلى منه، إنه طويس المغني.»
فضحكت ليلى ونظرت إلى طويس وأزاحت اللثام وهي تقول: «أهذا هو طويس المشهور بالشؤم؟ لقد تم سرورنا بلقياه!»
فلما أزاحت النقاب بان تحته وجه يتدفق مهابة وعينان دعجاوان، وثغر حسن، وآثار الصحة بادية في وجهها من سكنى البر. فدهش طويس من جمالها، ولما رأى استئناسها به فرح وقال وهو يمشي نحو البساط الذي كانت هي جالسة عليه: «إن سروري تم بلقياك أيتها الشاعرة البارعة. وقد كنت أعجب لما أسمعه من شغف توبة بك وإشادته في الأشعار بذكرك وأنت زوجة لسواه. فلما رأيت هذا الوجه علمت السر الذي دعاه إلى ذلك.»
فلما سمعت ليلى اسم توبة علا وجهها الاحمرار وكأنها خجلت وطأطأت رأسها حياء، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «وهل سمعت شيئا من قوله؟»
قال: «سمعت كثيرا، ولكنني أذكر هذه الأبيات فقط:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة، أو رفا
إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
ألا كل ما قرت به العين صالح.»
ولم يتم كلامه حتى اصفر وجه ليلى. وأدركت عزة ذلك فيها فأحبت الترفيه عنها فدعتها إلى الطعام والغسل، فشكرتها وذكرت أنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وإنما جاءت لزيارتها ساعة لتسمع حديثها وتطرب بغنائها ثم تنصرف.
فقالت عزة: «لعلك قادمة من الشام؟»
قالت: «نعم، وقد وصلت إلى المدينة الساعة، وكان معي رفيق خليته في مكان وجئت إليك على أن أعود إليه عاجلا.»
فتذكرت عزة الأشباح التي رأتها وسمية على شاطئ تلك البحيرة فقالت: «أظنني رأيت أشباحكم عند الغروب بين النخيل.»
قالت: «كنا ثلاثة وصلنا عند الغروب إلى ضاحية المدينة على جمالنا.»
الفصل الثالث
حكاية ليلى مع توبة
فأيقنت عزة أنها هي التي كانت مع الركب، وقالت تداعبها: «أتحبين توبة؟»
فقالت ليلى: «ماذا تعنين؟»
قالت: «أعرف أنك تحبين توبة، وأسمع أنه شاب جميل شجاع، وأنه يحبك. فكيف تزوج غيرك وتزوجت أنت غيره؟»
فقالت ليلى وقد زاد احمرار وجهها: «دعينا يا عزة من هذا الحديث ، وأسمعينا صوتا يروح عن النفس وينسينا تعب الطريق.»
فلم تشأ عزة أن تلح عليها، ولكنها عمدت إلى الحيلة فقالت: «صدقت إن الذكرى تؤلم.» ثم التفتت إلى طويس وقالت: «هات الدف.»
فناولها طويس دفا فنقرت عليه وغنت:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
علي دماء البدن إن كان بعلها
يرى لي ذنبا غير أني أزورها
ولم تتم هذين البيتين حتى تململت ليلى وامتقع لونها وقالت: «ما هذا يا عزة؟ أراك تلحين لتعلمي سبب فراقي توبة.»
فضحكت عزة وتجاهلت وهي تقول: «وما لهذا الشعر ولك؟ هل توبة قاله فيك؟»
قالت: «أتتجاهلين؟ ما دمت مصرة على سماع حديثي مع توبة فسأقصه عليك وإن كان ذلك يؤلمني: اعلمي يا أخية أن عاداتنا نحن معاشر البدو غير عادات الحضر أهل المدن أمثالكم؛ فإن الرجل منكم إذا أحب فتاة تزوجها، وأحسن الزواج ما يكون على حب، وأما نحن فإذا عرف أهل الفتاة أن شابا يحبها وتحبه منعوه منها، وهذا ما وقع لي مع توبة؛ فإنه كان يحبني ويقول في الشعر، فلما خطبني إلى أبي رفض أن يزوجني به، وزوجني برجل من بني الأدلع هو زوجي إلى الآن، ولم يكتفوا بذلك ولكنهم أهدروا دم توبة ومكثوا له في الموضع الذي يلقاني فيه حتى إذا جاءني هموا بقتله. وكنت إذا جاءني قبل ذلك تبرقعت واحتجبت منه على عادتنا. ففكرت في حيلة أحذره بها غدرهم بحيث لا يشعرون، فلم أر خيرا من أن أغير عادتي معه، فلما جاءني في ذلك اليوم خرجت إليه سافرة وجلست في طريقه. فلما رآني على تلك الحال فطن لما أردت وركض فرسه فنجا، ثم نظم في ذلك قصيدته التي مطلعها:
نأتك بليلى دارها لا تزورها
وشطت نواها واستمر مريرها
ومنها البيتان اللذان غنيتهما. وهي طويلة.» •••
وكانت عزة قد سمعت القصة من قبل، ولكنها أرادت أن يسمعها طويس. فلما فرغت ليلى من حديثها قالت عزة: «إني لم أكن أجهل حديثك هذا ولا غيره، ولولا ذلك ما عرفتك من البيتين اللذين بعثت بهما تعرفينني بنفسك. فبالله ألا ذكرت لي سبب قولك ذينك البيتين فإنهما يدلان على أنفة تندران في المدن.»
قالت: «صدقت، إن العفة والحب النقي إنما يكونان في أهل البادية، وبنو عذرة أهل وادي القرى على مقربة من هذه المدينة مشهورون بهما. ولكن ذلك غير مقصور عليهم وإن كان غالبا فيهم. وقد قلت إن توبة كان يحبني وأحبه ولم أسمع منه ما يدعو إلى ريبة. ولكني اجتمعت به مرة بعد أن تزوجت وتزوج، فقال لي كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلم أعد أسمع منه ريبة قط.»
فضحك طويس وقهقه حتى كاد يستلقي ثم قال: «ما أشبه هذه العفة بعفة مخنثي المدينة، والله إن البداوة حلوة ولكني لا أحبها!»
فقالت ليلى: «إذا شاقك ذلك فعليك بوادي القرى إنه قريب منكم وفيه بنو عذرة الذين تضرب بعفتهم الأمثال، وفيهم جميل بثينة، وكثير عزة، وغيرهما.»
فضحكت عزة، ورأت الرجوع إلى الغناء، فأخذت فيه وهي تنقر الدف، فطربت ليلى وطرب طويس. ثم استبدلت بالدف عودا عزفت عليه وغنت ألحانا شجية، وكانت ليلى في أثناء الغناء تطرق وتستغرق في التأمل، كأنها تفكر في أمر ذي بال، فلما رأت عزة فرغت من غنائها قالت لها: «لقد أطربتنا يا عزة بغنائك، وعندي أمر أحب أن أسره إليك، فهل تسمحين بخلوة؟»
فلما سمع طويس كلامها خرج مسرعا وأغلق الباب وراءه.
واقتربت ليلى من عزة حتى جلست بجانبها وقالت بصوت يقرب أن يكون همسا: «أتعرفين رملة بنت الزبير؟»
قالت عزة: «كيف لا أعرفها وهي أخت عبد الله بن الزبير اللائذ بالحرمين وهو محصور في الكعبة الآن!»
قالت: «محصور؟ ومن حصره؟»
قالت عزة: «إنه أقام بالحرمين يدعو الناس إلى البيعة له منذ توفي معاوية وتولى الخلافة ابنه يزيد سنة 60ه، ولم يقو أمره إلا بعد مقتل الحسين وموت يزيد، وهو الآن ينكر الخلافة على عبد الملك بن مروان خليفة بني أمية بدمشق.»
قالت ليلى: «أعلم ذلك، وأعلم أيضا أن أهل الحجاز بايعوه، وأن الأمويين ينوون قتاله ورده إلى بيعتهم.»
قالت: «ألم تسمعي بقدوم الحجاج بن يوسف الثقفي من الحجاز بأمر عبد الملك لقتال عبد الله في مكة؟»
قالت: «أظنني سمعت شيئا من ذلك قبل خروجي من الشام.»
قالت عزة: «وقد جاء الحجاج، ولعلك سمعت بشدة بطشه واستبداده، وقد حاصر عبد الله بن الزبير في مكة وضيق عليه، حتى خرجت المدينة من سلطانه، وعاملنا الآن من قبل عبد الملك بن مروان.»
فأطرقت ليلى وصمتت وكأن خاطرا طرأ عليها فأرجعها عما كانت تهم به، فأدركت عزة ذلك فقالت لها: «ما لي أراك صامتة ...؟ قولي ما في نفسك.»
قالت: «جئت المدينة في مهمة تتعلق برملة بنت الزبير، ولكن حال أخيها يحول دون بلوغ الغرض من السؤال. هل هي معه في مكة؟»
قالت: «نعم، هي معه هناك، وأظنهم في أشد الضيق من الحصار، وقد قل زادهم ولا ندري ما يئول إليه أمرهم.»
فتأففت ليلى وتذمرت ثم جعلت تحك ما وراء أذنها وتنظر إلى البساط بين يديها كأنها تتفرس في نقوشه وهي لا تتكلم.
فقالت عزة: «قولي يا أخية ما في نفسك فقد أقلقت خاطري بسكوتك، ما الذي تريدينه من رملة وأخيها؟»
قالت: «لا أخفي عليك أن أميرا كبيرا من أكبر أمراء بني أمية انتدبني للبحث عن رملة واستطلاع أحوالها؛ لأنه يريد خطبتها، فلم أجد من يصف لي جمالها سواك؛ لأنك عاشرتها وعرفتها فماذا تقولين؟»
قالت: «على الخبير وقعت. أما رملة فإنها من أحسن النساء خلقا وعقلا ودراية. ولكنني أعجب لإقدام أمير من بني أمية على خطبتها والحرب قائمة بين الأمويين وأخيها.»
فأمسكت ليلى عن الكلام قليلا ثم قالت: «أخشى أن أصرح بالأسماء فأكون قد بحت بسر اؤتمنت عليه.»
قالت: «لا تخافي فإني مستودع أسرار أهل المدينة، وإني أعاهدك على كتمان ما تقولينه.»
قالت: «إن الأمير الذي يبغي خطبتها أحسن أمراء بني أمية علما وأدبا وشعرا وفصاحة وعارضة ، وله ولع خاص بعلم الكيمياء، وهو ابن خليفة وحفيد خليفة.»
فقطعت عزة كلامها قائلة: «قد عرفته، إنه خالد بن يزيد. أليس هو؟»
قالت: «هو بعينه، فما قولك؟»
فأطرقت عزة هنيهة ثم قالت: «قد أدركت سر الأمر، وعلمت السبب الذي سوغ لخالد خطبة رملة وهي من أعداء بني أمية وإن كان هو أمويا.»
قالت: «أما وقد فهمت سر الأمر فاكتميه عن كل أحد. وهذه هدية من خالد بعث بها إليك.» قالت ذلك ومدت يدها إلى كمها وأخرجت عقدا من اللؤلؤ دفعته إليها. فتناولته عزة وأثنت على فضلها وقالت: «هل عزمت على خطبة رملة لخالد، ومن يخطبها له؟»
قالت: «ليس لي أن أصرح بأكثر مما قلت.»
فقالت عزة: «ما السر عندي إلا في بئر عميقة، فطيبي نفسا وقري عينا.»
ثم تحفزت ليلى للقيام فأمسكتها عزة ودعتها إلى البقاء عندها. فاعتذرت بأن هناك من ينتظرها في الخارج، ولا بد لها من موافاته لأمر لا يحسن تأجيله. ثم خرجت، فمرت على طويس في البستان فودعته قبل انصرافها. •••
كانت ليلى الأخيلية شاعرة بارعة كما تقدم، وكانت تفد على الملوك والأمراء تمدحهم وتنال منهم الرعاية والجوائز. وكانت قد وفدت على عبد الملك بن مروان في ذلك العام فامتدحته، ثم سارت إلى خالد فعهد إليها في البحث عن رملة واستيصافها من عزة. وبعث معها شابا من خاصته اسمه حسن كان في جملة من جاء الشام مع عبد الملك بن مروان عند عودته من العراق بعد مقتل مصعب بن الزبير وإخراج العراق من سلطة أخيه.
وكان حسن من رجال مصعب الداعين إلى بيعة أخيه في العراق وحارب معه في قتاله المختار بن عبيد الثقفي فأبلى بلاء حسنا حتى قتل المختار وخلص العراق لمصعب. فلما جاء عبد الملك لحرب مصعب دافع حسن عنه جهده حتى قتل ووقع هو في أسر عبد الملك ورافقه إلى الشام. فلقي هناك خالدا فأحبه هذا وجعله من بطانته. وكان يثق به ويبوح له بما في نفسه على عبد الملك؛ لأنه تولى الخلافة دونه وهو أحق بها؛ لأنه ابن الخليفة يزيد بن معاوية، وبين أمه وأم عبد الملك حكاية سيأتي ذكرها.
وكان خالد قد سمع برملة بنت الزبير، وأراد خطبتها. فلما جاءته ليلى سألها عنها فذكرت له أنها لم ترها، فكلفها أن تستفهم عنها عزة الميلاء في المدينة، وكتب إلى أخيها عبد الله بن الزبير يخطبها منه، وسلم الكتاب إلى حسن وأرسله مع ليلى وأوصاه إذا أمرته ليلى بالذهاب إلى مكة أن يذهب ويدفع الكتاب إلى عبد الله بن الزبير ويبذل جهده في إقناعه، وكان حسن يحب خالدا حبا شديدا، فعزم على أن يبذل ما في وسعه لتنفيذ مرامه، وكان له في المدينة وطر يحن إلى قضائه، فأسرع مع ليلى حتى وصلا إلى المدينة مساء ذلك اليوم، فعرج هو إلى منزل يمكث فيه ريثما تعود ليلى.
أما ليلى فلما عادت من منزل عزة أمرت الخادم أن يذهب بالجمال إلى منزل سكينة بنت الحسين، على أن توافيه إلى هناك. وسارت لمقابلة حسن في الملتقى. فلقيته في انتظارها على مثل الجمر، فأخبرته بما دار بينها وبين عزة وأوعزت إليه أن يسافر إلى مكة في المهمة التي جاء من أجلها ودعت له بالتوفيق.
الفصل الرابع
حسن وسمية
ولما خلا حسن إلى نفسه، عاوده ما كان يتقد في قلبه من الوجد. وكان يحب فتاة عرفها منذ أعوام وأنقذها وأباها من الموت في العراق في أثناء القتال ضد المختار بن عبيد، وقد تعاهدا على الزواج، وهو يعلم أنها تقيم بالمدينة ولكنه لم يكن يعرف منزلها، فرأى أن يسأل عزة في أمرها بوصفها أخبر أهل المدينة بنسائها. فسار توا إلى عزة وكانت لا تزال جالسة وقد خرج طويس من عندها.
وكان حسن طويل القامة، حسن الخلقة، في وجهه دلائل المروءة وصدق المودة، وعيناه تتقدان ذكاء وحدة. فلما أقبل على عزة استقبلته باشة. وكانت قد تعودت كثرة الوافدين عليها من سائر البلاد. على أنها استغربت قدومه إليها في آخر الليل.
واعتذر حسن عن ذلك فقال: «إني قادم إليك في أمر أقلقني وحرمني المنام، وليس لي من يفرج كربي سواك.»
قالت: «قل ما بدا لك.»
قال: «إني أحب فتاة من أهل المدينة، ولكنني لا أعرف منزلها ولا أدري أمقيمة هي هنا أم سافرت إلى بلد آخر.»
قالت عزة: «ما اسمها؟»
قال: «اسمها سمية بنت عرفجة الثقفي.»
فبهتت عزة عند سماعها الاسم، وجعلت تتفرس في وجهه كأنها تستطلع حقيقته، ثم قالت: «من أين عرفتها؟ وكيف أحببتها وأنت بعيد عن المدينة؟!»
قال: «قولي لي أولا أهي في المدينة؟ وهل تعرفينها جيدا؟»
قالت: «أعرفها كما أعرف نفسي، وهي مقيمة هنا وكانت عندي هذا المساء، فقل لي أين وكيف عرفتها؟»
قال: «كنت من رجال مصعب بن الزبير الذين ساروا معه إلى العراق لقتال المختار بن عبيد الثقفي. وكان المختار بعد قتل الحسين قد قام يدعو الناس إلى الأخذ بثأره، وتظاهر بمبايعة عبد الله بن الزبير اللائذ بالحرم الآن. فقتل المختار قتلة الحسين جميعهم بمعونة التوابين، وهم أهل الكوفة الذين خانوا الحسين وأمسكوا عن نصرته فلما قتل ندموا وقاموا يطالبون بدمه.»
قالت: «نعم أذكر ذلك، ولكن المختار هذا كان يدعو الناس إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين من أبيه، وليس لعبد الله بن الزبير.»
قال: «إنه كان يدعو إلى البيعة لعبد الله أول الأمر، فلما فاز في حروبه طمع في الخلافة لنفسه وتظاهر بالدعوة لمحمد بن الحنفية. ولا أشك في أن محمدا لم يكلفه بذلك؛ لأنه زعم أشياء لا يرضى بها محمد.»
قالت: «أظنك تعني الكرسي الذي زعم أنه كرسي علي، وصار يحمله معه في حربه ويزعم أن جبريل يظهر له ويكلمه.»
قال: «نعم، ولكنه لم يفلح؛ لأن عبد الله بن الزبير لما سمع بما فعله أرسل أخاه مصعبا في جند كبير فقتلوه وسمروا يده في مسجد الكوفة، وكنت أنا في جملة رجال مصعب. ففي يوم المعركة بعد أن تم لنا النصر وأمعنا في رجال المختار قتلا ونهبا، لقيت عرفجة أبا سمية طريحا على الأرض بين يدي بعض رجالنا وقد هموا بقتله، ثم رأيت سمية ابنته قد خرجت من الخباء وشعرها محلول على كتفيها، فتحرك قلبي نحوها تحركا غريبا، وسمعتها تستنجدني لإنقاذ أبيها من القتل، فصحت في الرجال فأبعدتهم عنه وأوصلته إلى مأمنه، فقبل يدي وشكرني ذاكرا أنه لا يقدر على مكافأتي. فقلت له: «لا ألتمس منك إلا أن تزوجني ابنتك هذه.» فقال: «هي جاريتك بين يديك.» فتواعدنا على أن آتي المدينة وأتزوجها. وأتممت أمر إنقاذه فأخرجتهما من الكوفة وبعثت معهما من أوصلهما إلى هنا، وبقيت أنا هناك وشغلت بأمور كثيرة لا محل لذكرها، فلم أستطع المجيء إلا اليوم.» •••
كان حسن يتكلم وعزة تتطاول بعنقها لسماع بقية الحديث. فلما وصل إلى هذا الحد قطعت كلامه قائلة: «لعلك حسن؟»
فبهت وقال: «نعم، وكيف عرفت ذلك؟»
قالت: «عرفته منها، وإني أهنئك بسمية فإنها زينة فتيات المدينة، وليس أحد يعرف مكنون قلبها غيري. وقد طالما ذكرت اسمك لي، وأطلعتني على خصالك، وأثنت على مروءتك. فثق بأنها ما زالت على ودك، ولو أنك جئتنا قبل ساعة لوجدتها هنا.»
قال: «وهل من سبيل إلى رؤيتها ولك علي ما يرضيك؟»
فأطرقت عزة هنيهة ثم قالت: «لم يكن أهون من ذلك علي لولا أن أباها ضنين بها، لا يأذن في خروجها من البيت، إلا نادرا، وهي إنما تجيئني خلسة في أكثر الأحيان. ولا شك في أنه إذا عرف أنها جاءتني لمثل ما تريده أنت فإنه يغضب وربما أساءها وأساءني، ولا سيما أنه ذو نفوذ لدى أمير المدينة، ففي استطاعته أن يتهمني عنده بما ينغص علي عيشي.»
فلبث حسن مدة يفكر في أمره، وقد اقتنع بالمشقة التي تحول دون مجيء سمية، لكنه ما لبث لعظم شوقه أن استسهل كل عسير، ورأى أن يصبر إلى صباح الغد ثم يذهب لزيارة أبي سمية. فنهض مودعا عزة بعد أن استدل منها على بيت عرفجة، فدلته عليه وودعته معتذرة من عدم استطاعتها إجابة رغبته في رؤية سمية.
وبات حسن تلك الليلة على مثل الجمر، ثم أفاق قبل الفجر وأخذ يتأهب للذهاب إلى بيت عرفجة وقد اشتد هيامه وخفق قلبه وهو يفكر في لقياها، وشق عليه أنه لا يستطيع مخاطبتها أمام أبيها لكي يبثها شوقه وهيامه، فعلل نفسه بما قد يأتي به القدر من سوانح الفرص، وخرج والشمس قد أطلت من وراء المنازل، والناس يذهبون ويجيئون في الطرق وهو لاه عنهم بما قام في خاطره من أمر اللقاء المنتظر بعد الغياب الطويل.
وكان بيت عرفجة بالقرب من بيت سكينة بنت الحسين، وهو أضيق مساحة وأقل فخامة، فلما وصل إلى بابه رآه مفتوحا فدخل ولم يقرع الباب ولم يتكلم، فأطل على باحة تحيط بها ثلاث غرف، وفي بعض جوانبها نخلة عظيمة رأى بجانبها فتاة عليها رداء أحمر زاه وليس على رأسها نقاب، وقد جلست أمام النخلة وأسندت ظهرها إليها ووجهها إلى جانب الدار بحيث لا يقع بصرها على الداخل. ومع أنه لم ير من وجهها إلا صفحة خدها وجانبا من عينها وفمها فإنه أدرك أنها سمية، فندم على دخوله بغتة واستنكف أن ينظر إليها أو يدخل بلا استئذان، ولكن الشوق أعمى بصيرته فوقف مبهوتا وقلبه يخفق، والشوق يدفعه إلى رؤيتها، والحياء يدعوه إلى الرجوع وقرع الباب.
ثم غلب عليه الحياء، وخاف أن يقع نظرها عليه فتخجل وربما أصابها سوء من تأثير البغتة، فتقهقر حتى وقف بالباب وقرعه بحلقة من الحديد كانت معلقة في خوخته، ولبث ينتظر من يدعوه إلى الدخول أو من يأتي لاستقباله، ثم سمع وقع أقدام في الباحة فعلم أن سمية تمشي إلى إحدى الغرف للاستتار. وظل واقفا مدة فلم يأته أحد فأعاد القرع مثنى وثلاث. وبعد هنيهة سمع وقع أقدام قادمة نحو الباب عرف من شدتها وسرعتها أنها أقدام رجل. ثم جاءه رجل في نحو الخمسين من عمره قصير القامة نحيف البدن يكاد جلده يلصق بعظمه، وهو أشمط شعر اللحية خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وعلى كتفيه مطرف التف به، وكأن خديه حفرتان، ووجنتيه أكمتان، وأنفه كتلة بارزة في منتصف وجهه، وله عينان غائرتان. ولو تفرس فيه حسن لتبين من اختلاج أجفانه وعدم استقرار نظره أنه من أهل الرياء والخبث.
فلما وقع نظر حسن على الرجل عرف أنه عرفجة أبو خطيبته، فهش له وهو يتوقع أن يعرفه ويرحب به، أما عرفجة فلبث برهة ينظر إلى وجه حسن وهو يتجاهله. فضحك حسن وتقدم وألقى التحية. فرد عرفجة التحية دون أن يبدو على وجهه ما يدل على أنه عرفه، ثم سعل كأنه ينبه أهل بيته إلى قادم غريب، فقال له حسن: «أظنك لم تعرفني يا عماه؟»
فلما سمع عرفجة كلامه تكلف الابتسام وألقى نفسه عليه وجعل يقبله ويرحب به ويقول: «أهلا يا بني، أنت حسن؟ من أين أتيت؟» وأمسكه بيده ودخل به إلى الدار، وسار توا إلى غرفة هناك يستقبل بها الزائرين. فاستأنس حسن بذلك الترحاب بعد أن كاد يتميز غيظا مخافة أن يعود من سفرته بخفي حنين، وابتدره عرفجة بالسؤال عن حاله وعن سبب غيابه، وسأله إذا كان في حاجة إلى طعام. فاعتذر شاكرا، وأخبره بأنه قدم المدينة للقياه. فجعل عرفجة يتملقه بالكلام اللطيف ليستطلع ما في قلبه، فاطمأن إليه حسن وأطلعه على شدة شوقه إلى سمية، وكان يخاطبه ويراقب ما يبدو منه من استحسان أو استهجان، فلم يجد إلا انعطافا وترحابا. وعلم منه أن سمية في خير، وأنها ما زالت تذكر فضله عليهما، فازداد حسن استئناسا، وتوقع منه أن يدعو سمية لتراه، فلما لم يدعها ظنه أجل ذلك إلى ما بعد الاستراحة. واستغرقا في الحديث في شئون مختلفة حتى ذكر حسن أنه جاء المدينة في مهمة من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير بمكة. ثم قال: «ألم يئن لي أن أبلغ أمنيتي التي منيت بها منذ أعوام؟»
فتجاهل عرفجة وقال: «وما هي يا بني؟»
قال: «الزواج من سمية ... خطيبتي.»
قال: «هي جاريتك وطوع إرادتك، ولكنك ذاهب إلى مكة كما تقول، فيحسن إرجاء الأمر حتى تعود، ولا سيما أن سمية ليست هنا الآن، وسأخبرها بقدومك متى عادت، ولا أشك أنها ستسر بلقياك، فاذهب الآن في مهمتك، ومتى عدت نعقد قرانكما بإذن الله.»
فعجب حسن لإنكار عرفجة وجود سمية في المنزل، ولكنه التمس له عذرا وشكر الله على أنه رآها خلسة. على أنه كان يتوقع وهو يخاطب عرفجة أن يسمع خطوات سمية أو يلمح طرف ثوبها وهي مارة أو يسمع كلامها، فلم يكن يرى إلا بعض الجواري يخطرن في الدار لقضاء بعض حاجات المنزل.
وسكت كلاهما لحظة وكل يفكر في شأن، وشتان بين الفكرين! ثم عاد عرفجة إلى الكلام فقال: «متى تعتزم المسير إلى مكة يا بني؟»
قال: «في القريب العاجل، وربما خرجت الليلة.»
قال: «وهذا ما أراه، فإن سرعة ذهابك يقرب يوم زواجك فنفرح بك ونتشرف بمصاهرتك.»
فسر حسن بما سمع ولم يفقه ما كان يبدو في عيني عرفجة وفي حركاته من دلائل الخبث والغدر - ولم يكن ذلك سذاجة فيه ولكنه كان سليم القلب صادق النية كبير النفس، يعتقد أن الناس كلهم مثله - هذا إلى أن عرفجة كان مدينا له بإنقاذه من القتل، وقد رحب بمصاهرته أولا وآخرا. وهكذا اقتنع بما سمع منه فقال: «أرى أن أخرج من المدينة الليلة.»
قال: «وهل تعرف الطريق؟ ومن أي باب تخرج؟»
قال: «نعم يا مولاي، إني خارج من الباب المطل على قباء.»
قال: «اجعل خروجك عند الغروب من الباب المؤدي إلى مكة، فإنه أسهل مسلكا، ولكنني أخاف عليك من برد الليل فهل احتطت لذلك؟»
قال: «عندي عباءة ألتف بها إذا برد الليل.»
قال وهو يبتسم وكأنه اهتدى إلى سبيل لتنفيذ مرامه: «لا أرى أن تخرج من المدينة وأنت ملتف بعباءة. ومن كان مثلك من ذوي الوجاهة لا يليق أن يمر في الأسواق ملتفا بعباءة، فاسمح لي أن أقدم لك قباء يليق بمقامك.» قال ذلك وصفق فجاءه الغلام فقال: «هات القباء الأخضر المعلق في الحجرة.»
فعاد الغلام وعلى يديه قباء من صوف، فتناوله عرفجة ودفعه إلى حسن وقال له: «إليك هذا القباء فالبسه وأنت خارج على ناقتك في هذا المساء فإنه أوقى لك من البرد.»
فتناول حسن القباء شاكرا، مع أنه لا يرى حاجة إليه؛ إذ لم ير من اللياقة أن يرده، وازداد ثقة في عرفجة وحسن قصده، ولحظ في حركاته ميلا إلى فض الاجتماع، فنهض وقبل يده مودعا. وخرج وقلبه ما زال في تلك الدار، وقد شق عليه أن يخرج منها دون أن يخاطب حبيبته، ولكنه علل نفسه باللقاء القريب بعد رجوعه من مكة، وسار توا إلى السوق ليبتاع بعض النبال استعدادا لعاديات الطريق، ولكنه لم يكن يعرف أين يبيعون النبال، فرأى غلاما رث الثياب على رأسه قفة يلتقط نوى التمر ويضعه فيها، وهي أحقر مهن أهل المدينة، فناداه حسن وسأله: «ألا تعرف رجلا يبري النبال قريبا من هنا؟»
قال: «أعرف كثيرين، هل تريد النبال المريشة أو التي بلا ريش؟»
قال: «إني أفضل المريش منها.»
قال: «تعال معي فأدلك على أحسن من يبريها في هذه المدينة.» •••
سار حسن في إثر الغلام حتى انتهى به إلى الطرف الآخر من المدينة، ووقف به عند حانوت أمامه دكة، وفي صدر الحانوت رجل من أهل يثرب بين يديه القسي والنبال، وفيها المبري، بعضها من الخشب والبعض الآخر من القنا ونحوه. فدفع إلى الغلام درهما وصرفه، ودخل الحانوت والقباء على ذراعه، فلما رآه الرجل عرف من لباسه أنه من أهل الشام، فرحب به وأجلسه على الدكة. فجلس حسن ووضع القباء بجانبه وأخذ يقلب السهام، وفيها الريش المربع والمثلث وذو الجناح الأيمن أو الأيسر. وجعل ينتقي ما يريده منها، ثم قال للرجل: «هل أجد عندك جعبة للنبال؟»
قال: «لا يا مولاي، إني لا أصنع إلا النبال، ولكن جاري جعاب يصنع الكنانة والجعبة من الجلد أو من الخشب على أشكال مختلفة، فإذا شئت بعثت إليه فيأتيك بأصنافها.»
فقال: «أذهب إليه بعد الفراغ من انتقاء النبال.» ثم انتقى ما احتاج إليه منها ودفع الثمن، وسأل الرجل عن حانوت الجعاب، ونهض وقد نسي القباء عند النبال، وسار والنبال يسير أمامه حتى أوصله إلى حانوت واسع فيه جلود وأخشاب وجعاب معلقة. فرجع النبال وتقدم حسن حتى انتهى إلى باب الحانوت. فرأى الجعاب يخاطب شابا يظهر من لباسه أنه من أهل الوجاهة وهو يساومه على جعبة أراد ابتياعها، فوقف حسن ينتظر الانتهاء من تلك الصفقة، وقد استأنس برؤية ذلك الشاب وتذكر أنه يعرفه، فجعل يتأمله ويتفهم كلامه، وهو يستحث ذاكرته لعله يذكره والشاب مشتغل بالمساومة، ثم التفت الشاب إلى حسن، فلما وقع بصره عليه بغت وتفرس في سحنته ولم يطل النظر إليه حتى ابتسم وصاح: «حسن؟» قال: «نعم، وأنت ... سليمان؟»
وتعانقا، ثم جلسا على مقعد من حجر بجانب الحانوت وقد نسيا الجعاب وصاحبها، فقال سليمان: «من أين أنت قادم يا أخي، ومتى قدمت؟»
قال: «إني قادم من دمشق وقد وصلت إلى المدينة مساء أمس.»
قال: «وهل تنوي الإقامة هنا؟»
قال: «كلا، إني عازم على السفر الليلة.»
قال: «لا. لا. إني مشتاق إلى رؤيتك، وقد مضى علي بضع سنوات وأنا أفكر فيك وأتذكر أياما قضيناها في الكوفة معا، وقد كانت أياما سعيدة رغم ما شهدناه فيها من القتال.»
قال حسن: «لا ريب أنها كانت سعيدة لكم لأنكم فزتم بالأمر الذي قمتم له وقتلتم قتلة الإمام الحسين شر قتلة. أظنك لم تنس عبيد الله بن زياد وهو مضرج بدمه في ساحة الحرب.»
قال: «وهل أقدر على نسيان ذلك! إني أتذكره كلما شممت رائحة المسك؛ لأني حين شهدت جثة عبيد الله في الوقعة شممت رائحة المسك قوية؛ إذ كان كثير التضمخ بالمسك. ولكنني لم أفرح بمقتل ابن زياد فرحي بمقتل ذلك الأبرص الذي قطع رأس الحسين بيده.»
قال حسن: «أظنك تعني شمر بن ذي الجوشن - قبحه الله؟»
قال: «إياه أعني ... فقد رأيت هذا الخبيث في معركة أخرى مقتولا وعليه بردة، وقد عرفته من بياض برصه.»
فقال حسن: «إنها لذكرى حسنة، ولكننا لا نستطيع الخوض في هذا الموضوع ونحن على قارعة الطريق.»
قال سليمان: «هلم بنا إلى مكان لنقضي فيه بقية هذا اليوم، فإني أحسبه من أسعد أيامي؛ لأنه يذكرني بأيام النصر وإن كنا الآن في ...» وقطع كلامه لئلا يسمعه أحد.
ثم نهضا، فابتاع حسن جعبة وضع النبال فيها، وسار وقد شغل بصديقه عن تذكر القباء وهو لم يتعود حمله. •••
كان سليمان هذا صديقا لحسن تعارفا منذ الصبا، وكان مقيما مع أبيه بالكوفة مع دعاة الحسين، فلما قدم الحسين الكوفة في أهله كان هو وأبوه من الذين تخلفوا عن نصرته، ولما قتل الحسين في سهل كربلاء وقتل أهله معه أصبح سليمان وأبوه من التوابين الذين ندموا على تخلفهم عن نصرة الحسين وقاموا بعد قتله للمطالبة بدمه، فلما جاء المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى الكوفة يدعو الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير، انضم التوابون إليه فقتلوا قتلة الحسين، ثم طمع المختار في الأمر، وأرسل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب لمحاربته، وكان حسن مع مصعب، فلما غلب مصعب المختار وقتله تفرقت رجاله، فانحاز بعضهم إلى مصعب ومنهم سليمان وأبوه، وقد ائتلف قلبا حسن وسليمان. وكان سليمان يعجب بأخلاق حسن، فلما جاء عبد الملك بن مروان وحارب مصعبا بالكوفة وقتله وتفرق رجاله، سار حسن مع عبد الملك، وجاء سليمان وأبوه إلى المدينة فأقاما بها.
فلما تلاقيا بالمدينة على هذه الصورة أنس به سليمان وأحب البقاء معه، فدعاه إلى منزله وقال له: «إن أبي يسر بلقياك.» فتذكر حسن أبا سليمان فقال: «فاتني أن أسأل عن أبيك، كيف هو؟ وما الذي يعمله الآن؟»
قال: «إنه في خدمة طارق بن عمر عامل هذه المدينة من قبل عبد الملك بن مروان.»
قال: «وهل هو يخدمه عن رضى؟»
قال: «أراه راضيا بخدمته، وكثيرا ما أظهرت عدم رضائي بخدمة هؤلاء القوم الذين قتلوا الحسين، وكنا بالأمس نجرد السيوف عليهم ونطالبهم بدم المقتولين، ولكنني رأيته راضيا فسكت عنه. ولعل له عذرا.»
وكانا يتكلمان وهما ماشيان حتى وصلا إلى بيت سليمان، ولم يكن أبوه في البيت، فمكثا هناك وتناولا الغداء معا وقد سر كل منهما بلقاء صديقه، فلما كان العصر نهض حسن واعتذر باضطراره إلى الذهاب لوداع ليلى الأخيلية في بيت سكينة بنت الحسين، وهو إنما كان يرجو أن يستطيع مشاهدة سمية؛ لأن بيتها بجانب بيت سكينة.
فألح عليه سليمان أن يؤجل سفره إلى الغد، ولكنه اعتذر شاكرا، فقال سليمان: «إذا لم يكن بد من سفرك فإني أرافقك في أوائل الطريق؛ لأنك إذا خرجت من المدينة عند الغروب لا تسير الليل كله، فإذا رضيت برفقتي فإني أصاحبك إلى العقيق فنمكث هناك ساعة أتملى من حديثك ثم نفترق.»
قال حسن: «كيف لا أرضى بذلك وفيه راحتي وحسن حظي!»
قال: «أين نلتقي؟»
قال حسن: «نلتقي بباب المدينة المؤدي إلى مكة ونخرج من هناك معا.»
قال: «وهل تعرف الطريق إلى الباب؟»
قال: «نعم أعرفه، فإنه على مقربة من حانوت النبال الذي اشتريت هذه النبال منه اليوم.»
ولما ذكر النبال تذكر القباء فبغت وقال: «لقد نسيت عنده القباء، وأخاف إذا أردت الذهاب إليه أن تفوت الفرصة لمشاهدة ليلى.»
فابتدره سليمان قائلا: «دع هذا لي، فأنا أمر بالنبال وآخذ القباء منه وأحفظه لك إلى الملتقى.»
فشكره حسن وودعه، وخرجا فسار كل في طريقه. •••
وكانت سمية جالسة في ساحة بيتها حين قرع حسن الباب، فدق قلبها وحدثتها نفسها بأن الطارق حبيبها، ثم استبعدت ذلك، فعاودها الحزن، ونهضت لكي تحتجب عن الطارق، فانزوت في أقرب غرفة إلى الباب وفي نفسها ميل إلى معرفة الطارق؛ لأن طريقة دقه الباب لم تكن تشبه دقات زوارهم المعروفين، وكثيرا ما تدل الدقة على صاحبها ويعلم أهل البيت من هو صديقهم من قرعة الباب. هذا إلى أن عرفجة كان من أكثر الآباء تضييقا على بناتهم في أمر الحجاب؛ فكان ذلك يدعو سمية إلى التطلع إلى القادمين من شقوق النوافذ أو ثقوب الأبواب.
واتفق في ذلك الصباح أنه لم يكن في البيت أحد من الرجال غير عرفجة وكان مشغولا في حجرة خاصة لا يدخلها أحد غيره، وفيها محفة من خشب مقفلة لا يفتحها سواه، فإذا دخل تلك الحجرة أقفل بابها ولا يدري أهل البيت ماذا يفعل هناك، فيقضي فيها ساعة أو بعض الساعة ثم يخرج ويقفل الباب وراءه. وكثيرا ما أحبت سمية استطلاع أمر تلك المحفة ومشاهدة ما في داخلها فلم توفق إلى ذلك؛ لأن المحفة من خشب متين لا منافذ للمبصر فيه. فلما قرع حسن الباب كان عرفجة هناك فأبطأ في فتح الباب كما تقدم. ثم سمعته بعد أن فتحه وهو يخاطب حسنا ويرحب به، وكانت تنظر من ثقب في باب غرفتها يطل على حجرة أبيها، فوقع بصرها على حسن وهو يخلع حذاءه بباب الحجرة، وهي أول مرة رأته فيها بعد ذلك الغياب الطويل، فلم تكد تتحققه حتى شعرت بهزة قوية وخفق قلبها خفوقا شديدا، ولكنها ظنت نفسها مخطئة، فتفرست فيه جيدا فإذا هو حسن بعينه، ورأت أباها يخاطبه ويرحب به وقد فهمت ذلك من إشاراته وملامحه؛ لأنها لم تكن تفهم الكلام لبعد المسافة، ثم دخلا وأقفلا الباب، فأرسلت جارية لها تتسمع حديثهما وتعود إليها بما سمعته. والجواري أكثر الناس رغبة في نقل الأحاديث وبخاصة إذا كانت من هذا القبيل، فكانت تلك الجارية تتظاهر بخروجها لغرض تريده من البستان أو الباحة فتقف هناك بحيث تسمع ما يدور وربما سمعت بعضه فتكمل الحديث من عندها وتعود إلى سمية به، فأطلعت سمية بذلك على ما دار بينهما حرفيا، وساءها رفض أبيها أن يجمعها بحسن ولو من وراء حجاب، ولكنها سرت برؤيته واطمأنت إلى أنه ما زال على حبها. ولما أخبرتها الجارية أنه جاء يطلبها من أبيها زاد اضطرابها واصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف فثنت وسادة كانت بجانبها وجلست عليها وعيناها على شق الباب. على أنها ما لبثت أن علمت أنه غير الحديث واعتزم الخروج من المدينة في تلك الليلة، وأن أباها حبب إليه الإسراع في ذلك وأعطاه القباء، فاستغربت إعطاءه إياه، مع ما تعلم من بخله، على أن ذلك أكد لها رضاءه عن تلك الخطبة؛ فانبسطت نفسها، وتعللت بقرب اللقاء بعد الرجوع من مكة.
فلما خرج حسن وتبعه عرفجة لوداعه طارت عيناها شعاعا إلى حسن، ولكنه ما لبث أن غاب عن مدى بصرها من ذلك الثقب. فلما رأت أباها راجعا خرجت من الغرفة لملاقاته وقد توردت وجنتاها من عظم التأثر وبانت دلائل الحب في وجهها، فلما رآها عرفجة في تلك الحال انقبضت نفسه وتظاهر بأنه في شاغل عن الحديث معها.
ولكنها لم تصبر على استطلاع أفكاره وأمسكت عن الكلام تهيبا؛ لأنها كانت تخافه كثيرا وتخشى غضبه وقد قاست منه الأمور الصعاب، على أنها كانت تحسن الظن به، فتحولت إلى حجرتها وهي منقبضة النفس، ودخل عرفجة حجرة أخرى وقد لحظ ما في نفس ابنته ولم يفته اطلاعها على ما دار بينه وبين حسن. فبعث إليها فجاءت وليس في المكان سواهما فوقفت وقلبها يخفق وهي لا تستطيع التطلع إلى أبيها ولا تدري ما يريد منها، فأشار إليها فجلست على وسادة بالقرب منه وهي تتشاغل بمداعبة أطراف جدائلها المرسلة، وكانت تضفر شعرها عادة في طرة اشتهرت في المدينة يومئذ بالطرة السكينية نسبة إلى سكينة بن الحسين؛ لأنها أول من ضفرها على تلك الصورة.
لبثت سمية برهة هكذا، وأبوها ينظر إليها ويتأمل في حركاتها فلم يزدد إلا وثوقا بتعلقها بذلك الشاب وهو لا يحب أن يتقرب منه، ولكنه لم يذكر ذلك لسمية صراحة. على أنه كثيرا ما حاول أن يزوجها بسواه فلم تقبل، وكان قد ظن حسنا مات أو قتل لغيابه عن المدينة، أو عدل عنها واشتغل بغيرها، فلما رآه في ذلك الصباح وتحقق أنه ما زال حيا بغت واستعاذ بالله، ولكنه عمد إلى الخبث والرياء فتغلب على عواطفه وبش له واستدناه وأظهر له ما أظهره من اللطف والأنس على أمل أن يفتك به غيلة. فلما رأى اضطراب سمية قال لها: «أراك مضطربة، فما الذي دعاك إلى هذا؟»
قالت وهي لا تزال مطرقة وقد صعد الدم إلى وجهها فزاد احمراره: «وأي اضطراب تعني؟»
قال: «أعني ما يبدو في وجهك من الاحمرار على أثر الاصفرار وكأني أسمع دقات قلبك. فما هذا؟» قال ذلك بنغمة رقيقة رفقا بها واحتيالا في استطلاع سرها، وقد كان يحب رضاءها ولكنه لا يريد أن تعمل عملا تستقل به عنه. وكان أهل المدينة يتحدثون بجمال سمية ولطفها، وكان هو يريد أن يتجر بذلك الجمال فيزوجها بحاكم أو أمير فيكتسب بزواجها منصبا أو مالا . وكانت له مطالب أخرى ترجع كلها إلى الطمع وحب الأثرة مع خبث الطوية. وحب الأثرة مع سلامة الطوية قلما يضر بالناس؛ إذ ليس في البشر من لا يحب ذاته ويؤثرها على غيره من الناس، أما إذ صحبه خبث النية وسوء الخلق فإنه يكون وبالا على الناس؛ لأن صاحبه لا يبالي ما قد يضحيه من الأنفس أو الأعراض في سبيل نيل أغراضه. وكان عرفجة ذا مطامع لا حد لها وكان ذلك شأن كثيرين في ذلك العهد على أثر تزعزع أركان الخلافة وانقسام الناس وكثرة الدعاة وتعدد الدعوات؛ فكان هذا يدعو إلى بيعة عبد الملك، وذاك يدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية، وآخر إلى بيعة عبد الله بن الزبير، فضلا عن دعاة آخرين في البلاد الأخرى؛ فأصبح الأمر فوضى وربما خطر لعرفجة أن يدعو إلى أحد هؤلاء أو غيرهم، ولو أتيح له أن يدعو الناس إلى نفسه لفعل ولكنه لم يكن يطمع في ذلك وهو من ثقيف وهم غير أكفاء للقرشيين. وكان الحجاج والمختار بن أبي عبيد ثقفيين أيضا، فلما أراد المختار أن يستأثر بالملك تظاهر بالدعوة إلى محمد بن الحنفية كما قدمنا. •••
لما سمعت سمية سؤال أبيها ولم تر فيه نغمة الجفاء أجابت وهي تكاد تذوب خجلا: «أتسألني يا سيدي عما أنت أعلم الناس به؟!»
فقال وهو يغتصب الضحك اغتصابا: «أظنك تحبين هذا الشاب؟»
قالت: «لا أقول إني أحبه ولكنني أعلم فضله علينا؛ لأنه أنقذنا من الموت وقد اشترط شرطا وعدناه به أفلا نفي بالوعد؟»
وكانت تقول ذلك بلهجة المنتصر وهي تنظر في وجه أبيها متوقعة أن يكون جوابه الإذعان الصريح، ولكنها رأته ابتسم ابتسام الاستخفاف، ثم هز رأسه، وأخذ يلاعب طرف لحيته بأنامله وهو يقول: «ما شاء الله! وأي فضل تعنين يا سمية؟»
قالت: «ألم ينقذنا هذا الرجل من القتل ونحن في الكوفة؟ ألم أخرج إليه محلولة الشعر وأطلب نجاتك فأسرع لإنقاذك؟! ولا أراك تنكر ذلك عليه إلى الآن.» قالت ذلك وهي تنظر إلى وجهه بطرف عينيها وتتوقع إذعانه فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان الشر في عينيه وكان بيده مفتاح الحجرة فرمى به إلى الأرض من شدة الغيظ وقال: «لا أقدر على سماع هذا الكلام. إن الذي يدعي علينا مثل هذا الفضل يجب أن يموت.»
فلما سمعت سمية كلامه اقشعر بدنها وامتقع لونها، ونظرت إلى أبيها والدموع ملء عينيها كأنها تستعطفه ولا تصدق أنه يعني ما يقول، ولكنها ما لبثت أن رأته نهض وجعل يتمشى في أرض الحجرة ولحيته ترقص أمام عنقه وعيناه محملقتان وأنامله ترتجف. فتهيبت وأطرقت ودموعها تتساقط على ثيابها وبقيت هادئة لا تحرك ساكنا ولسان حالها يقول: «ويلك يا ظالم.»
أما هو فبعد أن تمشى هنيهة عاد فوقف أمامها وقال لها: «لو كنت تحبين أباك، ما رضيت أن يكون لمثل هذا الغلام فضل علينا، كيف نعيش ولهذا الغلام منة علينا؟ وتقولين ذلك جهارا؟ لا شك أنك تحبينه أكثر مما تحبينني.»
فقالت والبكاء يخنق صوتها: «كيف تقول ذلك يا أبتاه، وأنت تعلم قلبي وتعلم أني لا أحب أحدا سواك! وأما هذا الشاب فإن له علينا فضلا لا ينكر؛ هل نسيت الخطر الذي كنا فيه وكيف أنقذنا وعني بإرسالنا إلى هنا؟! ثم إنك أنت الذي وعدته بي، فإذا كنت أحبه فإنما أنت الذي دعوتني إلى ذلك و...»
فقطع عرفجة كلامها وقال: «أبلغت بك القحة إلى أن تقولي لي إنك تحبينه وتعيدي ذكر جميله! إن ذكر هذا الجميل وحده يدعو إلى قتله!»
فاضطربت سمية، وجثت عند قدمي أبيها والدمع يتساقط من خديها ويمتزج بالعرق المتصبب من جبينها وقالت: «رحماك يا سيدي، بالله لا تذكر القتل، دعه لا تقتله ولا تزوجني به ... فأنا لا أخرج عن طاعتك في أمر من الأمور. لا تذكر القتل لأنه يقطع قلبي. افعل بي ما تشاء فإني طوع لك. أشفق علي وارحمني.»
فلما سمع تذللها ظنها ارعوت عن محبة حسن، فأمسكها وأنهضها ومسح دموعها وقال لها: «خففي عنك يا بنية وكوني حكيمة عاقلة، وانبذي أمر هذا الغلام وارجعي إلى أبيك، واعلمي أني لا أفعل إلا ما فيه سعادتك.»
قال ذلك وأجلسها على الوسادة وجلس هو إلى جانبها فاتكأت على صدره، فتحقق أنها أذعنت لأمره واستسلمت له، فلم يعد إلى ذكر حسن ولكنه اغتنم هذه الفرصة وقال لها: «يظهر أنك كنت في جهالة عمياء، والحمد لله على أنك أدركت ما أنويه لك. كيف تعيشين مع رجل تعلمين أنه ذو فضل على أبيك؟ أليس ذلك منتهى الذل والضعف؟ كيف أقدر على حفظ منزلتي بين الناس وفي الدنيا رجل يقول إنه أنقذني من الموت وله على فضل؟!»
فظلت سمية صامتة مخافة أن يعود أبوها إلى ذكر القتل، ولكنها استغربت استنكافه الإقرار بالفضل لأهله، وقد فاتها أن من الناس من يتعمدون الإيقاع بالمحسنين إليهم؛ لأن تصورهم فضلهم يهيج جسدهم حتى يقودهم إلى الفتك بهم ليتخلصوا من ذكر تلك المنة. وأمثال هؤلاء قليلون والحمد لله - وكان عرفجة واحدا منهم - وتلك غاية الدناءة والخسة.
ولم تر سمية خيرا من السكوت، ولكن ذلك لم يغير شيئا من عواطفها بل لعله زادها تعلقا بحسن، تعلق ذهنها بالسعي في تحذيره، وكانت تفكر في ذلك وهي متكئة على صدر أبيها وقد بللت قميصه بدموعها، فأنهضها وقبلها وقال لها: «قومي يا سمية وارجعي إلى رشدك فإني سأزوجك بأعظم رجل يتحدث به المسلمون الآن لتعلمي أني إنما أسأتك بأقوالي لأحسن إليك بأفعالي.»
فنهضت ومشت وهي صامتة تمسح عينيها بكمها حتى أتت حجرتها فدخلت وأقفلت الباب ثم استلقت على فراشها وقد تمثل لها عظم الارتباك المحيط بها والخطر الذي يهدد خطيبها، فأظلمت الدنيا في عينيها وأطلقت لدمعها العنان، ثم استرجعت رشدها وفكرت في أمرها وأمر أبيها وما تعرضت له بسبب حبها لحسن فجعلت تناجي نفسها قائلة: «كيف تعلقت بهذا الرجل الغريب وفي تعلقي به خطر على حياتي وحياته؟ أليس هذا أبي الذي رباني وكفلني ولا يريد لي إلا الخير والسعادة؟ كيف أعصاه وأطيع هواي؟ أليس من التعقل أن أنصاع لرأيه؟ أما حسن فماذا يربطني به؟ الحب؟! وما معنى الحب؟ إن هذا الحب سبب عذابي وعذاب أبي وعذاب حبيبي . لا، إن عذابه عذب، آه ما أحلى الحب وما أشرف عواطف المحبين ... كيف يعيش الناس بدون الحب وما الفائدة من الحياة بلا محبة؟! إني لا أرى في العيش لذة إلا حين أفكر في حسن، آه ما ألطف هذا الاسم! ولكن كثيرا ما كنت أسمعه قبل أن أعرف الحب فلا ألتذ لفظه كما ألتذه الآن، فأنا إنما أتلذذ بالحب، آه ما أحلاه وما أحلى لفظه بفمي وذكره بفكري وما أحلى صورته في عيني!»
ثم مسحت دموعها ولبثت هادئة برهة وهي تفكر في أبيها وقالت: «ولكن أبي رباني بعد وفاة أمي وبقي وحده لم يتزوج من أجلي وهو يحبني ويريد سعادتي فكيف أغضبه؟»
ثم قالت: «لا ... إنه خرج في معاملته عن حقوق الأبوة، إن لحسن فضلا كبيرا علينا، ولكن أبي تنكر له، بل أراد قتله من أجل ذلك الفضل، أراد قتل حسن؟! إن أبي ظالم، والظالم لا يحبه الله فكيف أحبه أنا؟! أما حسن فشهم تفانى في سبيل نجاتنا ويكفي أنه يحبني وأني أحبه حبا عذريا نقيا لا عيب فيه. يا إلهي ما هذا الحب؟! إذا كنت ترى أني أخطئ فيما أقول فانزع حب هذا الشاب من قلبي. لا ... لا تنزعه ... أو انزعه يا إلهي ... أو كما تشاء ... آه ما لي أزداد تعلقا وهياما؟ الله هو الذي أراد أن يحب أحدنا الآخر، والحب الذي يكون خاليا من الدنس وغايته شريفة إنما هو من عند الله.»
قضت سمية ساعة في مثل هذه التصورات، ثم تذكرت ما سمعته من تهديد أبيها فخافت أن يتمكن من حسن وهو غافل، فرأت أن عليها أن تحذره حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وحدثتها نفسها أن تفر معه إلى مكة ولكن تعقلها وآدابها زجراها عن ذلك. على أنها أصبحت شديدة الشوق إلى رؤيته لتشكو له ما في قلبها ويتعاهدا على الاتحاد والصبر، فتذكرت عزمه على الخروج من المدينة في تلك الليلة، وأنه خارج حوالي الغروب من الباب المؤدي إلى مكة فعزمت على اغتنام فرصة انشغال أبيها، لكي تخرج وتقف له في الطريق وتخاطبه.
أما عرفجة فقد كان بينه وبين طارق بن عمرو حاكم المدينة يومئذ صداقة. وكان طارق يكرم عرفجة لأنه ثقفي من قبيلة الحجاج، وكان الحجاج لذلك قد أوصاه به خيرا، ولأنه كان قد عرف سمية وطلب الاقتران بها فوعده عرفجة بذلك ولكنه استمهله ريثما يسترضيها. ولم يشأ الحجاج أن يحملها أبوها على ذلك بالكره مخافة أن تشكوه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان فيأمره بالتخلي عنها كما اتفق له مع عبد الله بن جعفر لما خطب الحجاج بنته أم كلثوم على مال كثير ثم أمره عبد الملك بن مروان بطلاقها؛ وجلية الخبر أن الحجاج خطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية، فأجابه إلى ذلك وحملها إليه فأقامت عنده ثمانية أشهر، ثم خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان وافدا ونزل بدمشق، فأتاه الوليد بن عبد الملك (ابن الخليفة) على بغلة ومعه الناس، فاستقبله ابن جعفر بالترحيب، فقال له الوليد: «لكنك أنت لا مرحبا بك ولا أهلا.» قال عبد الله: «مهلا يا بن أخي فلست أهلا لهذه المقالة منك.» قال: «بلى والله وبشر منها.» قال: «وفيم ذلك؟» قال: «لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة نساء بني عبد مناف، فعرضتها على عبد ثقيف يتفخذها.» قال: «وفي هذا عتبت علي يا ابن أخي؟» قال: «نعم.» قال عبد الله: «والله ما أحق الناس ألا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك؛ لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي، وأما أنتما فمنعتماني رفدكما حتى ركبني الدين. أما والله لو أن عبدا حبشيا مجدعا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه. إنما فديت بها رقبتي.» فما راجعه الوليد كلمة حتى عطف عنان بغلته ومضى فدخل على أبيه فقال له عبد الملك: «ما لك يا أبا العباس؟» قال: «إنك سلطت عبد ثقيف وملكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف!» وقص عليه الخبر. فأدركت عبد الملك غيرة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يطلقها، ففعل. وخاف إذا فعل مثل ذلك بسمية أن تشكوه إلى عبد الملك بوساطة سكينة بن الحسين، لعلمه أنها تحب سمية ولها منزلة وكرامة عند عبد الملك. •••
وكان حسن قد ودع رفيقه وسار ماشيا وخادمه يقود جمله وراءه قاصدا إلى بيت سكينة، ولما أشرف على بيت عرفجة اختلج قلبه في صدره، ووقف كأن شيئا استوقفه بالرغم عنه، وتصور أنه شاخص إلى مكة وهي محصورة فلا يدري متى يعود منها ولا ما يمكن حدوثه في غيابه، وكيف يسافر وهو لم ير سمية! ثم تمثلت له سمية كما رآها في صباح ذلك اليوم قاعدة إلى جذع النخلة حاسرة رأسها ولم ير غير جانب وجهها. فلما تصور ذلك زاد هياما واضطربت جوارحه برهة كأنه فاقد رشده لعظم ما اكتنفه من الهواجس، ولم ينتبه لنفسه حتى خاطبه خادمه، وهو رجل من ثقيف اسمه عبد الله، وأصله من الطائف، وكان في جملة خدم المختار بن أبي عبيد في أثناء حربه في العراق، فلما قتل المختار سار في جملة الأسرى إلى الشام، ثم دخل في خدمة حسن عندما سمع بعزمه على المدينة رغبة منه في الاقتراب من أهله في الطائف، وكان عبد الله يعرف عرفجة لأنه من قبيلته ولم يكن يحترمه ولا يثق بأقواله، ولكنه لم يكن يعلم ما بين حسن وسمية، فلما رأى سيده واقفا مبهوتا استغرب ذلك منه فخاطبه قائلا: «ما بال مولاي؟ هل يفكر في أمر نسيه فأقضيه؟»
فانتبه حسن لنفسه واستحى من خادمه، ولكنه تذكر ما بين هذا الخادم وعرفجة من رابطة القبيلة، فلاح له أن يستخدمه في ذلك لعله يأتي بفائدة فقال: «أتعرف عرفجة؟»
فأجاب عبد الله ولم يصبر إلى إتمام السؤال وقال: «كيف لا أعرفه وهو أبو سمية؟!»
فلما طرق اسمها سمع حسن خفق قلبه، ولو لحظ عبد الله وجه سيده لرأى الاضطراب ظاهرا في محياه، ولكنه لم يكن يتفرس في وجهه لفرط احترامه له. أما حسن فقال: «وهل تعرف سمية؟»
فضحك عبد الله وقال: «كيف لا أعرفها وهي من قبيلتي؟!»
قال: «وهل تعرف كل بنات قبيلتك؟»
قال: «كلا، ولكن سمية مشهورة بجمالها وتعقلها ولطفها، وقد اتفق لي أني رأيتها غير مرة يوم كنا في العراق.»
فسر حسن بهذه المصادفة وأراد أن يستخدم عبد الله في البحث عن سمية أو مخابرتها فقال: «إذن اسمع يا عبد الله، أريد أن أرسلك إلى سمية في مهمة فهل تذهب؟» قال: «لك الأمر وعلي الطاعة.»
فأعجب بلطف تعبيره وقال له: «بورك فيك يا عبد الله، فاعلم أني قدمت في هذا الصباح إلى عرفجة، وقضيت معه ساعة، ولم أتمكن من مشاهدة سمية؛ لأنها كانت مشغولة، ونحن الآن سائرون إلى مكة ولا ندري متى نعود، فهل أخرج من المدينة قبل أن أراها؟»
قال: «كلا بل يجب أن تراها وتخاطبها، هل أسألها موعدا للقاء؟»
قال: «لا تستعجل يا عبد الله، فإني أخاف أن يغضب أبوها إذا اطلع على ذلك؛ لأني سمعت بصرامته في تحجبها، فلا يليق بي أن أراها خلسة بعد أن خطبتها منه.»
فأرسل عبد الله بصره إلى بيت عرفجة وقال: «ما دامت خطيبتك فلا بأس من رؤيتها وإن لم يعلم أبوها ... أتأذن لي في الدخول إلى هذا البيت والاستفهام عن عرفجة فأحتال لإبلاغها موعدك؟»
فاستعظم حسن الإقدام على هذا الأمر، ولكن رغبته في رؤية سمية هونت عليه ذلك فقال: «إني ذاهب إلى منزل سكينة، وأنا أعلم أن سمية كثيرة التردد إليه، فقل لها أن توافيني إلى هناك.»
قال: «سمعا وطاعة.» ومضى يسوق الجمل وهو يقول: «سأحمل إليك الجواب في منزل سكينة - إن شاء الله.»
الفصل الخامس
مجلس سكينة بنت الحسين
أما حسن فسار حتى وصل إلى منزل سكينة بنت الحسين، فرأى بجانب الباب حظيرة فيها دوابها ودواب من يقدم إليها من الوفود؛ لأن منزلها كان مقصد الشعراء والأدباء وأهل الوجاهة من قريش وغيرهم. وكان حسن قد سمع جعجعة الجمال وجلبة الخدم قبل وصوله إلى الدار، فلما وصل رأى كثيرا من الدواب وأكثرها للأضياف، ورأى بينها جمل ليلى الأخيلية.
فلما انتهى إلى باب بستان الدار دخل ولم يستأذن؛ لأن الناس كانوا يدخلون منه إلى دار الأضياف ويخرجون بلا استئذان، ومشى في باحة كبيرة رأى في بعض جوانبها غرفا عديدة في صف واحد عرف أنها دار الأضياف، ثم رأى في صدر البستان بيتا متقن البناء على بابه الخدم، فعرف أنه مسكن سكينة، فتحول إلى دار الأضياف، لعله يرى ليلى هناك فيقيم معها ريثما تأتي سمية فتكون له وسيلة إلى مقابلتها، فبلغ دار الأضياف والخدم يقومون بإعداد الأطعمة من الذبائح ونحوها، وقد سره اشتغالهم عنه لكي يتمكن من البحث عن ليلى، فطاف الغرف غرفة غرفة فلم يجد أحدا يعرفه، فظل ماشيا وهو يسمع ضجة من جهة مسكن سكينة بعضها من الخدم في الخارج والبعض الآخر من الداخل، وكان يتخلل الضجة قهقهة وقوقأة مثل قوقأة الدجاج، فمشى إلى مصدر الضحك فإذا هو في غرفة بجانب المسكن وببابها بضعة رجال لم يعرفهم، فدنا منهم وألقى التحية فردوا السلام وأبصارهم شاخصة إلى داخل الغرفة، فأطل حسن من فوق أكتافهم فرأى هناك رجلا قصيرا دميما، قليل اللحم، أزرق اللون، أحول البصر، أقرع الرأس، أثط اللحية، جلس القرفصاء على أكمة من التبن وهو يحضن بيضا ويقوقئ كما تقوقئ الدجاجة، فاستغرب حسن ذلك ونظر إلى أحد الوقوف مستفهما فقال له الرجل: «ألا تعرف من هذا؟!»
قال: «لا ... ومن هو؟»
قال: «أشعب الطماع الذي اتخذته سكينة بنت الحسين مضحكا لها.»
قال حسن: «أسمع اسمه وأعرف بعض أخباره المضحكة، ولكن منظره أضحك من أخباره. ما الذي أقعده هذا المقعد وهو يقوقئ كأنه يحضن بيضا؟»
قال الرجل: «بل هو يحضن بيضا حقيقة عقابا له على ذنب ارتكبه بين يدي سكينة مولاته، فأمرته أن يقعد على هذا البيض حتى يفقس وقد مضى عليه أيام وهو على هذه الحال!»
فشغل حسن بذلك المنظر عن قلقه لطول انتظاره خادمه، وأراد أن يشغل نفسه هنيهة أخرى فقال: «يا أشعب ما الذي أجلسك هذا المجلس؟»
قال: «أجلسني إياه مولاتي سكينة، فهل فيكم من يخرجني من هذا الحبس؟»
فقال حسن: «ومن يتوسط لك في هذا الأمر؟»
قال: «كأني بليلى الأخيلية قد دخلت دار مولاتي اليوم، فإذا كانت هنا، فلا أرى أقدر منها على إخراجي من هذا المكان.»
قال حسن: «هان الأمر، فلك علي أن أوسط ليلى في العفو عنك.» •••
ولم يتم حسن كلامه حتى سمع صوتا يناديه، فالتفت فرأى خادمه عبد الله واقفا على بضع خطوات منه فقال حسن: «ما وراءك؟»
فدنا عبد الله منه وقال: «دخلت البيت وسألت عن عرفجة فقيل لي إنه خرج في الصباح ولم يعد بعد ولا يعرف أحد مقره.»
فابتدره حسن قائلا: «وسمية؟»
فقال: «وسألت عن سمية فعلمت أنها ذهبت إلى سكينة من برهة قصيرة فسررت بذلك وأتيت لأخبرك، فهل رأيتها هنا؟»
قال: «لم أرها ولعلها في البيت مع النساء، فكيف أصل إليها؟! بورك فيك يا عبد الله، امكث أنت بالباب مع الخدم والجمل معك حتى أخرج أو أحتاج إليك في شيء.»
قال: «سمعا وطاعة.» وخرج.
وعاد حسن وقد شغل عن أشعب ونجاته بالبحث عن سمية، ولما تصور أنه سيتمكن من مقابلتها خفق قلبه، فلم ير وسيلة إلى ذلك إلا ليلى، فجاء باب القاعة التي تستقبل سكينة فيها ضيوفها، فرأى عليه رجلا واقفا وقوف الحاجب فقال له حسن: «هل في مجلس بنت الحسين أحد؟»
قال الرجل: «إن مجلسها غاص بالناس، وفيهم جماعة من الشعراء والشاعرات.»
قال: «وهل فيهم ليلى الأخيلية؟»
قال: «نعم.»
قال: «قل لليلى إن حسنا بالباب يدعوك إليه.»
فدخل الرجل ثم عاد وليلى معه، فلما رأت حسنا رحبت به، فمشى بها إلى خلوة وقال لها: «إني مسافر الليلة وقد جئت لوداعك.»
قالت: «رافقتك السلامة، ووفقك الله في مهمتك.»
قال: «ولكني أعرض عليك أمرا أرجو مساعدتك فيه الآن وهو لا يتعبك.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «أتعرفين سمية بن عرفجة؟»
قالت: «نعم أعرفها وقد رأيتها من برهة وجيزة جالسة بجانب سكينة تخاطبها وسكينة تلاطفها لأنها تحبها كثيرا. وأنت ما شأنك معها؟»
قال: «شأني معها شأن الخطيب وخطيبته فهل هي لا تزال هناك؟»
قالت: «لقد سرني أنك خطبتها فإنها زينة بنات المدينة، وأظنها باقية لأني لم أرها خرجت، وعلى كل حال تعال معي فندخل القاعة فتمكث أنت مع الجلوس من الرجال وأدخل أنا إلى مجلس النساء وراء الستار حيث تقيم سكينة وصاحباتها فأبحث عن سمية.»
قال: «أرجو أن تجمعيني بها ساعة لا يرانا فيها أحد سواك؛ لأني خطبتها منذ ثلاثة أعوام وجئت المدينة بالأمس، وها أنا ذا خارج الآن ولم أشاهدها أو أخاطبها.»
قالت: «لك علي ذلك.»
قال: «خير البر عاجله، فإني مسافر عند الغروب.»
قالت: «ألا تؤجل سفرك إلى غد؟»
قال: «كنت أود ذلك ولكنني على موعد مع صديق لكي نسير معا، وسيوافيني عند الغروب إلى باب المدينة.» ثم غير مجرى الحديث فقال: «وأوصيك بأشعب الطماع فإنه يحضن بيضا عقابا له على ذنب ارتكبه وقد وعدته بأن تتوسطي له لدى مولاته سكينة، فلا تنسيه.»
فضحكت وقالت: «قبحه الله، ما أكثر مزاحه، ولكنه وافق هوى في نفس سكينة، فهي كذلك تحب المزاح، وقد تعودت معاقبته بمثل ذلك العقاب، وحضن بيضا مرة حتى فقس وخرجت فراريجه فملأت الدار، وهي تسميها «بنات أشعب». إني ذاهبة وسأكلمها في شأنه، فتعال معي واجلس مع الجالسين فإذا لقيت سمية أومأت إليك فتخرج.» •••
دخلت ليلى ودخل حسن في أثرها، ثم أطل على القاعة فإذا هي واسعة وقد فرشت بالطنافس الثمينة، وحولها الوسائد المزركشة، وفي صدرها ستارة عليها صور أشجار وطيور ملونة خلفها سكينة ونساؤها بحيث ترى الضيوف ولا يرونها.
ورأى في القاعة جماعة قد تصدرهم خمسة عليهم لباس البدو، فسألها: «من هؤلاء المتصدرون؟»
قالت: «هم الشعراء. ألا تعرف أحدا منهم؟»
قال: «أظنني أعرف الجالس على الوسادة المثناة، فهو الفرزدق، وقد عرفته بضخامة بدنه وعبوسة وجهه وغلظه، أليس هو الفرزدق؟»
قالت: «نعم هو بعينه. ألا تعجب من اجتماعه هو وجرير في مجلس واحد مع ما اشتهر بينهما من المهاجاة؟»
قال: «وأين جرير؟»
قالت: «هو ذاك الذي كف شعره وأدهن، ومتى تكلم سمعت لكلامه غنة يخرج بها الكلام من أنفه كأن فيه نونا.»
قال: «ومن هو الآخر القصير الدميم العظيم الهامة؟» قالت: «هو كثير عزة العاشق المشهور.»
قال: «أعاذ الله عزة من منظره فإنه قبيح. ومن ذاك الشاب الجميل العريض المنكبين الحسن البزة، وكأنه جالس القرفصاء؟»
قالت: «هو جميل بثينة أحد عشاق بني عذرة. ألا تراه حزينا لما اشتهر من حبه لها وحرمانه لذلك منها؟»
قال: «ومن ذلك الأسود؟ إني لأستغرب منظره، والشعراء يندرون في السود؟»
فضحكت وقالت: «هو نصيب الشاعر الفحل، وأما سواده فلأن أمه أمة، وهو من قضاعة.» ثم أشارت عليه بأن يجلس على إحدى الوسائد وأن ينتظر ما يكون من شأنها مع سمية.
فجلس وهو يخاف فوات، ولم يكد يستقر به المقام حتى سمع لغطا من وراء الستار فاستبشر وظن أن ليلى تخاطب سكينة أو سمية، ثم رأى جارية وضيئة خرجت وقالت: «أيكم الفرزدق؟»
وكان حسن يتوقع أن تناديه فلما سمعها تنادي الفرزدق التفت إليه فرآه يقول: «ها أنا ذا.»
قالت: «أنت القائل:
هما دلياني من ثمانين قامة
كما انحط باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا:
أحي فيرجى أم قتيل نحاذره؟
فقلت: ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا
وأفلت في أعجاز ليل أبادره؟»
قال: «نعم.»
قالت: «فما دعاك إلى إفشاء السر؟ خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.» فأخذها وانصرف. ثم دخلت الجارية على مولاتها وخرجت فقالت: «أيكم جرير؟» فلما عرفها جرير نفسه قالت: «أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه
برد تحدر من متون غمام
لو كان عهدك كالذي حدثتنا
لوصلت ذاك وكان غير ذمام
إني أواصل من أردت وصاله
بحبال لا صلف ولا لوام؟»
قال: «نعم.»
قالت: «أفلا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف، خذ هذه الألف والحق بأهلك.» فأخذها وانصرف. ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: «أيكم كثير؟» فلما عرفته قالت: «أنت القائل:
وأعجبني يا عز منك خلائق
كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا
ودفعك أسباب المنى حين يطمع
وأنك لا تدرين صبا مطلته
أيشتد إن لاقاك أو يتضرع
وأنك إن واصلت علمت بالذي
لديك فلم يوجد لك الدهر مطمع؟»
قال: «نعم.»
قالت: «قد ملحت وشكلت، خذ هذه الألف واذهب لأهلك.» ودخلت وخرجت وقالت: «أيكم نصيب؟» قال نصيب: «أنا هو.»
قالت: «أنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب
لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها
إذا ظلمت فليس لها انتصار؟»
قال: «نعم.»
قالت: «ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا، خذ هذه الألف والحق بأهلك.» فأخذها وانصرف. ثم دخلت وخرجت فقالت لجميل: «مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: ما زالت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل عندهن شهيد
فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء، خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك.» فأخذها وانصرف.
وكان حسن ينظر ويسمع ولا يستغرب مثل ذلك المجلس؛ لأن اهتمام النساء بالشعر والأدب وجلوسهن لمثل تلك المطارحة كان شائعا في تلك الأيام، ونبغ من النساء شاعرات ماهرات منهن ليلى الأخيلية وغيرها. ولكنه استغرب اهتمام سكينة على رفعة مقامها بمباحثة الشعراء فيما قالوه ونظموه، وكان يسمع ويرى وهو قلق البال لتأخر ليلى عنه، ولم يكن يدري كيف يدعوها أو يستعجلها فرأى أن يسمعها صوته، وكان قد لاحظ وجود صور للطير والأشجار على الستار الحاجز بين مجلسي الرجال والنساء، كما لاحظ وجود أمثالها على الوسائد، فرأى أن يتخذ من ذلك موضوعا لإسماع ليلى صوته. وما كادت الجارية تفرغ من مخاطبة الشعراء وتهم بالدخول بعد أن انصرفوا، حتى استوقفها وقال: «تمهلي يا بنية.»
فوقفت والتفتت إليه، فقال لها: «لقد باحثت هؤلاء الشعراء وأفحمتهم فانصرفوا، فهل أسألك سؤالا؟»
قالت: «قل ما تشاء.»
قال: «أرى على ستاركم صورا وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» ...؟»
فأشارت الجارية إليه أن يتمهل ودخلت إلى سيدتها، ثم عادت إليه وقالت له: «وما يضرنا وما نحن من المصورين؟»
قال: «ولكنكم اتخذتم تلك الصور أستارا، ولو كانت تلك صور أشجار فقط لهان أمرها، ولكنها صور لذوات أرواح، وفي الحديث: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة» ...»
وهنا سمع صوتا جهوريا من وراء الستار يقول: «لا تنس تتمة الحديث: «إلا رقما في ثوب».» فأدرك أن ليلى هي المتكلمة، وسكت بينما عادت الجارية إلى مجلس النساء ولبث هو على مثل الجمر لا يدري ماذا يصنع، والتفت نحو نافذة عالية فرأى الشمس قد مالت إلى الغروب، فازداد قلقه، وخشي أن يطول انتظار صاحبه سليمان بباب المدينة. •••
وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع لغطا وراء الستار أعقبه ضحك كثير وصوت يقول: «قد أطلقنا سراحه، اذهبي يا بنانة وأخرجيه، قبحه الله ما أخبثه.» فأدرك أن سكينة هي المتكلمة، ولكنه ظنها تريد إخراجه هو فاضطرب، ثم ما لبث أن رأى ليلى خارجة وهي تشير إليه أن يتبعها، فسار في إثرها حتى خرجا من القاعة، فدنت منه وقالت: «لا تخف، إنها لم تأمر بإخراجك ولكنها أمرت بإخراج أشعب الطماع؛ لأني أوصيتها به عملا بإشارتك.»
فقال: «بورك فيك، ولكن أين سمية.»
قالت: «ليست هنا، كانت في المجلس وخرجت قبل أن أراك.»
فاستعاذ حسن بالله وانقبضت نفسه ثم قال: «هل أنت على يقين مما تقولين؟»
قالت: «لقد تحققت خروجها، فلعلها خرجت إلى بيت أبيها؛ لأنها لا تستطيع الغياب طويلا عنه.»
وفيما هما يتكلمان رأيا أشعب مهرولا نحوهما، فلما بلغ مكانهما هم بتقبيل يد حسن وقال: «جزاك الله عني خيرا فقد أنقذتني من عذاب طويل؛ لأن البيض لم يكن ليفقس قبل بضعة أيام، فأسأل الله - تعالى - أن يقدرني على مكافأتك. هل أستطيع خدمتك في شيء؟»
قال حسن: «إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء.» ثم التفت إلى ليلى كأنه يريد الرجوع إلى الموضوع، فتنحى أشعب قليلا وقال حسن: «أستودعك الله يا ليلى، وأرجو أن أراك في خير.» فقالت: «أسأل الله لك السلامة والنجاح.»
وعجل حسن بالخروج لعله يلقى سمية في الطريق أو في البيت أو في مكان آخر. فلما خرج وجد خادمه عبد الله في انتظاره ومعه الجمل، فركب والشمس قد أذنت بالمغيب وبان الشفق الأحمر، وما زال يحث جمله حتى بلغ بيت عرفجة، فأحس بشيء استوقفه بغتة، وما هو إلا عامل الحب أوقفه بجانب منزل الحبيب، فلم يتمالك أن نادى عبد الله، فجاء هذا ووقف بين يديه وهو يقول: «هل أسأل عن سمية فلعلها عادت؟»
فأعجب حسن بنباهته ودقة شعوره، وابتسم ولم يجب، فأسرع عبد الله إلى البيت ثم عاد وهو يقول: «إنها لم تعد يا سيدي.»
فتنهد حسن، وخيل إليه أن سمية باقية هناك في بيت سكينة ولكن ليلى لم ترها، أو أنها رأتها وأخفت أمرها. وتكاثرت عليه الهموم وتراكمت الظنون - والمحب سيء الظن كلما اشتد حبه كثرت هواجسه وزاد سوء ظنه بحبيبته وأكثره من قبل الغفلة، فإذا رأى حبيبه يخاطب أحدا مهما يكن من شأنه أو مقامه أو قرابته تبادر إلى ذهنه أنه يغازله أو يسر إليه أمرا، وإذا أبطأ عليه بالزيارة سبق إلى فهمه أنه في موعد مع آخر أو لا يحبه أو يحب سواه، وقد يخيل له أن أهل الحبيب كلهم ضده وأنهم يمنعونه منه فإذا تخاطبوا همسا أو قصروا معه في شأن خيل له أنهم يريدون به سوءا أو هم ينصبون له أحبولة؛ فالمحب كثير الهواجس سيء الظنون.
فلا تلم حسنا إذا أساء الظن بليلى وحسبها تآمرت على إخفاء سمية عنه.
وقضى برهة في مثل هذه الهواجس وهو على جمله، ثم انتبه فإذا بالظلام يتكاثف، وتذكر صديقه سليمان، فأجفل وشق عليه تأخره عن الموعد مع ما أبداه الرجل من الرغبة في مرافقته وبالغ في إكرامه والتقرب منه، فاستحث جمله وطلب باب المدينة وقد يئس من مشاهدة سمية، وإن علل نفسه بلقائها عند رجوعه من مكة.
الفصل السادس
المفاجأة السارة
سار حسن بضع دقائق صامتا حتى أشرف على باب المدينة، ومن ورائه المستنقعات والتلال وغابات النخيل. وفيما هو ينظر إلى ما وراء الباب إذا بشبح وقف له في الطريق هاتفا باسمه فالتفت حسن وقلبه يخفق لشدة وقع ذلك الصوت على أذنه، ثم أمسك زمام جمله ونظر إلى الشبح فإذا هو امرأة، فحدثه قلبه بأنها سمية، فوثب على الأرض حتى وقف بين يديها، وتنحى عبد الله وقد أخذ بزمام الجمل وتشاغل بإصلاح الرحل.
أما حسن فإنه نادى: «سمية؟!»
قالت: «نعم، ومن الذي معك؟»
قال: «هو خادم أمين لا تخافي منه. ما الذي جاء بك إلى هنا في هذا الليل؟ أأنت سمية حقيقة؟! ... ما ألطف هذا اللقاء وما أسعد هذه الساعة! سمية حبيبتي قولي ما بدا لك.»
فتنهدت وأسندت كتفها إلى حائط هناك وتشاغلت بإصلاح نقابها، وسكنت.
وقد سر حسن لسعيها إلى ملاقاته، ولكنه أوجس خيفة مما دعاها إلى ذلك لما يعهده في أبيها من الشدة والغلظة فقال لها: «إني لا أرى في هذه الدنيا أحدا أسعد مني الآن، وقد بذلت الوسع في سبيل الحصول على هذه المقابلة فلم أفز، وها قد أتتني الساعة عفوا فالحمد لله، ولكنني أخشى أن يكون لهذه المخاطرة سبب يسوء.» فتحيرت سمية ولم تدر بم تجيب، فلبثت صامتة، فازداد هو قلقا وقال لها: «ما بالك؟ قولي، لعلك علمت بذهابي إلى مكة فخفت خطرا يهددني هناك؟»
فلما سمعت ذكر الخطر أجابته والبكاء يخنق صوتها: «نعم أخاف عليك الخطر، ولكن ليس في مكة فقط بل ...» وشرقت بالدمع فانقطع صوتها.
فتقطع قلب حسن ومد يده فأمسك أناملها، وهي أول مرة قبض فيها على تلك الأنامل، فأحس برعشة تملكته وقال لها: «ماذا؟ قولي يا سمية، يا ملكة قلبي، هل تخافين علي أحدا في هذه المدينة أيضا؟ إنك ما دمت لي لا تحبين سواي فلست أبالي بعد ذلك إذا كان أهل الأرض كلهم أعدائي!»
قالت: «وإذا كنت أنا عدوتك؟»
فحمل منها ذلك على قصد المزاح وقال لها: «إذا كنت أنت عدوتي فلا غرض لي في الحياة. بالله قولي ما في نفسك. ممن تخافين علي؟ فأريك دمه مسفوكا ولو كان حوله جيش جرار. قولي.»
فتنهدت ومسحت دموعها بطرف نقابها وهي تقول: «لا أريد أن أرى دمه مسفوكا.»
فتعجب وقال: «وماذا إذن؟ أفصحي يا سمية. قولي. ممن تخافين علي؟ فقد نفد صبري وطال تأخري عن الخروج من المدينة ولي صديق ينتظرني في الخارج. قولي.»
قالت: «إني أعد قولي عقوقا مني، ولكنني أسيرة حبك لا أرى لي حياة إلا بك.»
فقطع حسن كلامها وقد أدرك ما تريده فقال: «قد فهمت ما تريدين، إنك تخافين على من أبي، أليس كذلك؟»
قالت: «نعم.» واستغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها، وكان هو ما زال ممسكا بيسراها، فأمسك بيدها الأخرى وقال لها: «ولا هذا يهمني ما دمت تحبينني. هل تحبينني يا سمية؟»
فصعدت الزفرات ولم تجب، فقال: «فإذا كنا متحابين فمن ذا يحول بيننا؟»
وسكت برهة وقد عظم عليه الأمر ثم قال: «وما الذي دعا أباك إلى بغضي وإلحاق الأذى بي وأنا لم أرتكب منكرا ولا أسأت إليه في شيء؟!»
قالت: «ذنبك أنك أحسنت إليه، أو لعل ذلك من سوء حظي. ولكن ما لنا ولهذا، إن الوقت لا يأذن بطول الشرح، فأخبرك أن أبي لا يريدك، وأخاف أن يسعى في أذاك، وقد علمت ذلك على أثر خروجك من منزلنا، فأردت إطلاعك على جلية الخبر لتكون على بصيرة.»
قال: «أما إلحاق الأذى بي فإني لا أخافه، ولكنني أخاف أن يلحق الأذى بك أنت.»
قالت: «لقد أظهرت له الطاعة والرضا ريثما أراك ثم أفعل ما تأمرني به.»
فأطرق حسن ثم قال: «إني مغلول اليدين بما أخذته على نفسي من أمر السفر إلى مكة عاجلا في مهمة لرجل أحبه وله علي فضل كبير. وكنت أحب أن أدعوك للذهاب معي ولكنني ذاهب إلى مكان به الحرب قائمة فلا أريد تعريضك لهذا الخطر.»
فقطعت كلامه قائلة: «وكيف تعرض نفسك للخطر؟ إن مكة اليوم في أضيق حصار وأهلها في ضنك شديد. بالله ألا عدلت عن الذهاب ثم تفعل ما تريد؟»
قال: «أما الذهاب فلا بد منه، فامكثي أنت هنا وأظهري الطاعة حتى أعود ونرى ما يكون. ولست أخشى بأسا ولا خطرا ما دمت لا تحبين سواي.» ثم سمع جعجعة الجمل فانتبه للوقت وقال لها: «كنت أود ألا نفترق منذ الآن ولكن للضرورة أحكاما. وسأرسل عبد الله معك إلى منزلك؛ لأن الليل قد أظلم ولا آمن عليك المسير وحدك، فهل تسيرين إلى بيت أبيك؟»
قالت: «لا، ولكن أعود إلى بيت سكينة؛ لأن أبي يعلم أني سرت إليها فإذا استبطأني سأل عني هناك فأعتذر عن تأخري، وذلك من غير أن يراني عائدة إلى البيت وحدي في هذا الليل. ولكن كيف أفارقك؟»
قال: «تشددي يا سمية، إن سفري هذا لا بد منه، ولكنه سيكون آخر الأسفار بإذن الله ثم نعود ونعيش معا.»
فلما قال ذلك بكت سمية حتى سمع صوت بكائها فانفطر قلبه، وكاد يشاركها البكاء لولا أنه تجلد وقال لها: «لا تبكي يا سمية، بل اتكلي على الله واعلمي أني عائد إليك على عجل.» قال ذلك ونادى عبد الله وقال له: «أوصل سمية إلى بيت سكينة، ثم الحق بي في الطريق المؤدي إلى العقيق، فإني سابقك إلى هناك، فقد أبطأت على سليمان وأخاف أن يكون قد سبقني أو عاد إلى منزله.» •••
سارت سمية وهي تقول لحسن: «سر في حراسة الله، وأسأله أن ينصرك على أعدائك.» وظل صوتها يرن في أذنيه حتى توارت عنه، فركب جمله وساقه إلى باب المدينة ولم يكن مقفلا فالتفت يمنة ويسرة فلم ير سليمان.
فخرج وهو يمشي الهوينا ويصيخ بسمعه لعله يسمع صوتا، وجعل يحدق بعينيه لعله يرى أحدا، فسار والجمل دليله بين تلك المستنقعات ولكنه لم يسر طويلا حتى سمع جعجعة جمل عن بعد فاستوقف جمله وأصاخ بسمعه، وحول الزمام إلى جهة الصوت، وساق الجمل سوقا بطيئا، فمشى به بين النخيل والظلام سادل ستاره والسكوت سائد، فلم يكن يسمع غير وقع خفاف الجمل على العشب أو الطين.
وبعد قليل سمع حسن صوت بكاء وأنين، فوقف وأصغى، فسمع صوتا عميقا، وخشي أن يجعجع جمله فيشوش الصوت فترجل عنه وعقله وشده إلى نخلة، ثم مشى على قدميه وهو يتلمس الأرض مخافة أن يخوض في الأوحال حتى تحول عن الطريق الأصلي إلى ساحة لا نخيل فيها ولا عشب، فرأى جملا معقولا وشبحا متوسدا إلى جانبه وفوق رأس الشبح شبح آخر يبكي وينتحب، فاختبأ حسن في منعطف بحيث يرى ويسمع ولا يراه أحد، فسمع صوتا يقول: «يا لتعاستي وشقائي! لقد فتكت بك يا ولدي وفلذة كبدي، إني لأستحق هذا القصاص. ولكن ما ذنبك أنت؟ تبا لي، ما أتعس حظي! ولدي! حبيبي! كلمني يا سليمان. سليمان ... سليمان!»
فلما سمع حسن اسم سليمان علم أنه صديقه، فاقشعر بدنه وخشي أن يكون قد أصابه سوء بسببه، فنهض ومشى ويده على قبضة سيفه حتى أقبل على الشبحين ولم ينتبه له أحد.
ثم سمع الشبح الراقد يقول بصوت ضعيف: «لا تحزن يا أبي فقد ذهبت فداء صديق لي هو أحق بالحياة مني.»
فقال الآخر: «أظنك تعني هذا الشقي لأنه وفى بعهده. إني عاهدت الله على نصر الحسين والقتال في سبيله وجعلت نفسي في عداد التوابين، ثم رجعت لخدمة هؤلاء الطغاة، وكثيرا ما رأيتك غير راض بذلك، فلم أكن أصغي إليك حتى ضربني الله هذه الضربة على قلبي!»
فتحقق حسن أن الراقد سليمان، وأنه في ضيق، فلم يتمالك عن أن صاح قائلا: «سليمان؟!»
فأجفل الرجل الجالس وحسب الجن تخاطبه، فوقف للحال وقال: «إنسي أنت أم جني؟» وكان الرجل كهلا في نحو الستين من عمره والشيب قد جلل رأسه، وهو طويل القامة دقيق العضل قصير اللحية صغير العمامة. ولم يتم الرجل سؤاله حتى كان حسن بين يديه وقد أكب على سليمان وهو راقد على ظهره وفوقه القباء وقد تلطخ بالدم، فتفرس في عينيه فإذا هو يفتحهما فتحا ضعيفا ويتألم، فأمسكه حسن بيده وقال له: «سليمان؟ أخي سليمان! ماذا أصابك؟!»
وكان لذلك الصوت وقع عظيم على أذني الجريح، ففتح عينيه وصاح: «حسن؟! أشكر الله على أن جعلني فداءك.»
ولم يتم سليمان كلامه حتى تقدم الرجل الآخر وقال: «حسن؟ أنت حسن؟! يا لله ما هذه المصيبة التي نزلت بي بسببك، ولكن الذنب ليس ذنبك وإنما هو ذنبي، أنا الشقي التعس!»
فأدرك حسن أن الكهل والد سليمان، وأنه كان يترصده فأصاب ابنه خطأ. فصرف عنايته إلى إنقاذ حياة سليمان، وحاول أن ينهضه قائلا لأبيه: «إلي بالماء.» فجاءه بشيء منه من مستنقع قريب، فرش به وجه سليمان وغسل موضع الجرح في أعلى الصدر، وكان قد أصيب بنبلة أخرجها أبوه.
وكان حسن قد تعلم بعض الوسائل الطبية من معاشرة خالد بن يزيد الأموي في دمشق؛ لأن خالدا كان شديد التعلق بالعلوم الطبية حتى فاق بها سائر قريش، وكان بصيرا بصنعة الكيمياء والطب متقنا لهما، وألف في ذلك بعض الكتب والرسائل، وقد أخذ العلم عن راهب اسمه «بانس». ولم يكن مجلس خالد في دمشق يخلو من أهل العلم، فكان حسن يجالسهم ويسمع أقوالهم.
فلما غسل الجرح ضغطه، وأمر أبا سليمان بإيقاد النار فأوقدها بالزناد، ثم انتظر حسن حتى تكون بعض الرماد فأخذ قليلا منه وذره فوق الجرح وربطه.
ثم سأل عن ماء للشرب فقال الرجل: «ليس معي قربة.»
فقال حسن: «اسند ظهره لآتيك ببعض الماء من قربتي.» قال ذلك ونهض، ثم تحول نحو النخلة التي عقل جمله عندها فلم يجد الجمل هناك فطار صوابه؛ لأنه كان قد ترك كتاب خالد بن يزيد في مخبأ بالرحل الذي فوق الجمل حرصا عليه، وهذا إلى أن الجمل كان عزيزا عنده وعليه عدته وثيابه والماء وكل شيء. على أنه لم يشأ أن يضيع الوقت وسارع إلى اقتفاء أثر الجمل، وكان قد لاحظ أن حل عقال الجمل لا يدل على حدوث عنف، فتبادر إلى ذهنه أنه لم يعقله عقلا متينا فانحل من تلقاء نفسه، وانطلق الجمل هائما على وجهه أو يطلب المرعى هنا وهناك.
وسار حسن في طلب الجمل مضطربا خائفا؛ لأنه غريب في تلك البلاد، ثم وقف ونظر إلى ما حوله من الغياض والبساتين والظلام حالك، فلاح له ظل يتراءى بين النخيل أمامه، فتفرس جيدا وأصغى بسمعه فسمع هدير جمل هناك فأخذ طريقه إليه، ولاحظ أن ذلك الشبح يبتعد، فسارع السير في إثره وهو يتعثر بالأعشاب والأحجار ونظره شاخص إليه، وما زال يمشي والشبح يمشي أمامه حتى خرجا من بين النخيل إلى الفلاة، فما كاد حسن يتفرس في الشبح حتى أدرك أنه هو جمله فواصل السير في إثره، وكان الجمل أجفل من المطاردة فأسرع في سيره، وظل سائرا مدفوعا برغبته في القبض عليه حرصا على ما يحمله.
الفصل السابع
جميل وبثينة
وفيما هو يركض ويلهث إذا به يرى شيخا عليه لباس الرعاة يسير عاري الرأس وقد غرس عصاه في قفا طوقه، وعليه عباءة قصيرة وخشونة البداوة بادية في وجهه مع شدة الظلام. فناداه حسن: «يا أخا العرب، ألم تر بعيرا راكضا هنا؟»
وما أتم حسن سؤاله حتى أسرع الرجل إليه وأمسك بذراعه وضغطها بشدة في حين أشار إليه أن يسكت وينتظر، فالتفت حسن إلى ما حوله فرأى شجرة كبيرة على أكمة ورأى هناك ظلا يتحرك، فهمس في أذن الشيخ قائلا: «ما شأنك؟ أخبرني.»
قال: «لقد اتفق لي اليوم حادث غريب مع رجل لقيته على غير معرفة فإذا أصغيت لي قصصت الخبر عليك، ثم نذهب ونستطلع بقيته معا عند تلك الشجرة.»
قال حسن: «ولكن هل رأيت جملا راكضا من هنا؟»
قال: «نعم رأيته، وأظنه طلب هذا الوادي، ولا تخف عليه فإني كفيل برده إليك؛ لأني أعرف رجال الحي وهم يعرفونني، والإبل سارحة عندهم ولا خوف عليها.»
قال حسن: «وأي واد هذا؟»
قال: «هو وادي القرى.»
قال حسن: «أليس هو موطن بني عذرة المعروفين بشدة عشقهم وعفتهم؟»
قال: «هو بعينه. والحادث الذي وقع لي اليوم يكشف لنا عن حقيقة ما نسمعه عن هؤلاء. فأعرني سمعك لأقص عليك الخبر.»
فمال حسن إلى سماع الحديث، وأهل الغرام يميلون إلى أحاديثه، فقال الرجل: «قضيت في هذه الأودية معظم فصل الربيع أرعى إبلي، فجاءني في أصيل اليوم رجل طويل القامة منطو على رحله كأنه جان، فسلم علي ثم قال: «ممن أنت يا عبد الله؟» فقلت: «أحد بني حنظلة.» قال: «فانتسب.» فانتسبت حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا، فقلت له: «هل ترى ذلك السفح؟ إنهم نزلوا من ورائه.» قال: «يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه لي، فوالله لو أعطيتني ما ترعاه من هذه الإبل ما كنت بأشكر عليها مني لك عليه؟»
فقلت: «نعم، ومن أنت؟» قال: «لا تسألني من أنا. ولن أخبرك بأكثر من أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفيها عقلاء من السمنة. فإن ذكروا لك عنها شيئا فذاك، وإلا فاستأذنهم في دخول البيوت وقل: إن المرأة والصبي قد يريان ما لا يرى الرجال. فإذا أذنوا لك فادخل بين البيوت واسأل أهلها حتى لا تدع أحدا تصيبه عينك ولا بيتا من بيوتهم إلا وقفت به وسألت».»
فدهش حسن واشتدت رغبته في سماع بقية القصة، وعاد الشيخ إلى الكلام فقال: «فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضالتي، فلم يذكروا لي شيئا، فاستأذنتهم في دخول البيوت وقلت: «إن الصبي والمرأة قد يريان ما لا يرى الرجال.» فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتا ثم مضيت أطوف بيتا بيتا أسألهم فلا يذكرون شيئا، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني التفاتة، فإذا بثلاثة أبيات فقلت في نفسي: «ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم.» ولكني عدت فقلت لنفسي: «أيثق بي رجل يؤكد أن حاجته تعدل كل مالي ثم آتيه فأقول عجزت عن ثلاثة أبيات؟» فانصرفت عامدا إلى أعظمها، فإذا أهله قد أرخوا مؤخره ومقدمه، فسلمت فردوا السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: «يا عبد الله قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب.» قلت: «أجل». قالت: «ادخل.» فدخلت فأتتني بصفحة فيها تمر من هجر، وقدح فيه لبن، والصفحة مصرية مفضضة، والقدح لم أر إناء قط أحسن منه. فقالت: «دونك.» فأكلت التمر وشربت من اللبن حتى رويت. فقلت: «يا أمة الله ، والله ما أتيت أكرم منك ولا أحق بالفضل، فهل ذكرت عن ضالتي شيئا؟» فقالت: «هل ترى هذه الشجرة فوق الشرف؟» قلت: «نعم.» قالت: «إن الشمس غربت أمس وهي تطوف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها.» فظننتني فهمت مرادها فقلت: «جزاك الله خيرا، والله لقد تغديت ورويت.» ثم مضيت فأتيت تلك الشجرة وطفت بها فما رأيت أثرا. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح بكسائه وقد قبع بين الإبل ورفع عفيرته يغني فقلت: «السلام عليكم.» قال: «وعليكم السلام، ما وراءك؟» قلت: «ما ورائي شيء.» قال: «لا عليك، فأخبرني بما فعلت.» فقصصت عليه القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بما صنعت فقال: «قد أصبت طلبتك.» فعجبت لأني لم أجد شيئا. ثم سألني عن صفة الإناءين والصفحة والقدح، فلما وصفتها له تنفس الصعداء وقال: «قد أصبت طلبتك والله.» ولما ذكرت له حديث الشجرة وغروب الشمس وهي تطوف حولها، بدا البشر في وجهه وقال: «حسبك.» ففهمت أنها ضربت له موعدا للقائه عند هذه الشجرة بعد الغروب. ومكث حتى أوت إبلي إلى مباركها، فدعوته إلى العشاء فلم يدن منه وجلس مني بمزجر الكلب. حتى إذا ظن أني نمت، قام إلى عيبة له فأخرج منها بردين، ارتدى أحدهما وائتزر بالآخر، ثم انطلق نحو الشجرة. وهو الذي تراه جالسا هناك بقرب جذع الشجرة، وسنرى ما يكون من اجتماع الحبيبين.» •••
أمسك الشيخ حسنا بيده، وجذبه إلى الجلوس بجانبه على الأرض بين شجيرات هناك، ثم أشار بيده صامتا نحو شبح صاعد من الوادي وعليه لباس النساء، ومعه شبح آخر وقال: «هذه هي الفتاة ومعها خادمتها، اضطجع مكانك لنرى ما يكون.»
فانبطحا، وبعد قليل زحفا حتى اقتربا من الشجرة واختفيا في مكان بحيث يريان ويسمعان ما يدور بين الفتى والفتاة.
ولو أن الليلة كانت مقمرة، لتبين لهما ما ارتسم على وجه الفتى حين وصلت الفتاة. فوقف وتقدم للقائها وهو يحسب نفسه في خلاء وظلمة، وكان قلب حسن في أثناء ذلك يضرب ضربات سريعة مخافة أن يرى من الحبيبين ما يخجله أو يهيج غيرته، فندم على إصغائه للشيخ الراعي لما رأى في اختلاس أسرار الناس من أمر منكر. على أنه أحس بميل شديد لاستطلاع ما يدور بين هذين العاشقين. واستطلاع مثل هذه الأسرار مما تتوق إليه النفس، والميل إلى ذلك عام في الناس على اختلاف طبقاتهم وإن تفاوتوا في احترام تلك الأسرار والإغضاء عن استطلاعها عملا بالآداب العامة.
وملتقى الحبيبين على هذه الصورة تميل النفس إلى رؤيته ولا سيما عند أهل الغرام، فلا عجب إذا اختلج قلب حسن واصطكت ركبتاه واقشعر بدنه. ولم يكن سبب ذلك التأثر إلا توقعه أمرا يخاف أن يراه ولا يريد أن يفوته. ولكنه ما كاد يرى العاشق واقفا لرد التحية حتى عرف من طول قامته وغنة صوته أنه جميل الذي رآه أصيل ذلك اليوم في مجلس سكينة. فتحقق أن الفتاة هي بثينة؛ لأنه كثيرا ما كان يسمع أحاديث غرامهما وكيف منعه أهلها منها ولكنه ما زال يحبها حبا مفرطا، كما أنها تحبه هي أيضا. وكان حسن يسمع بحب بني عذرة وعفافهم، ولكنه لم يكن يصدق أن مثل ذلك الملتقى في ذلك الخلاء على غفلة من الرقباء يكون مقصورا على إلقاء التحية.
وكانت الفتاة مقنعة، فجلست على حجر وجلس جميل على حجر لا يمس ثوبه ثوبها ولا يده يدها. جلسا متقابلين ينظر أحدهما إلى الآخر ولا يفوه بكلمة إلا ما كان عتابا أو تشاكيا، ولا يقولان فحشا ولا هجرا. فاستغرب حسن ما رآه من العفة الصادقة، ثم سمع الفتاة تنادي خادمتها، وكانت الخادمة قد وقفت على مقربة منهما، فجاءت تحمل قصعة من الطعام، فجلسا يأكلان ويتحادثان، فلما فرغا من الطعام قالت بثينة: «بلغني أنك قلت في أشعارا، فهل أنت على حبك؟»
قال: «لا أعرف في لغة البشر لفظا يعبر عما في قلبي؛ فإنه أعظم من الحب، وأشد من الغرام، وأرقى من العبادة، ولا أدري ما هو يا بثينة، فإذا اكتفيت بتسميته حبا فإني لا أراه يؤدي ما في قلبي.»
قالت: «وكيف ذلك ؟»
قال: «لا أدري يا حبيبتي. لا أدري كيف هو ولا ما هو!» ثم صعد الزفرات وقال: «إنما أعلم أنك نصب عيني أينما سرت وحيثما جلست وكيفما نظرت. إن بثينة أمام عيني، أراها جسما واضحا ومن عداها من الناس أراهم أشباحا أو ظلالا. ولم أسمع اسمها إلا اضطربت جوارحي وخفق قلبي، ولا أرى راحة إلا بالبكاء، حتى قلت:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟»
فقالت بثينة: «إذا كنت أنت كذلك فكيف أنا، ولكننا معشر النساء مقضي علينا بالتعب والشقاء، فلا تقدر إحدانا على بث شكواها إلى أحد لئلا ينثلم عرضها. وأما أنتم معشر الرجال فلكم الحرية كلها، وأنت تزعم أنك تحبني حبا لا تدري مقداره، فهل يهجر محب حبيبه وقد أحبه إلى هذا الحد؟ فوالله ما أعلم ما تسمعه عني أو تقوله في أثناء غيابي الطويل، ولا أدري موقع بثينة ممن يقع بصرك عليهن؟» قالت ذلك بنغم الدلال فازداد جميل هياما وقال لها:
إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا
أو نلتقي فيه، علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة
إن كان يوم لقائكم لم يقدر
لا تحسبي أني هجرتك طائعا
حدث لعمرك رائع أن تهجري
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
فما تمالكت بثينة عند سماعها قوله أن غصت بريقها وقالت: «وهل أنت الذي قلت:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذن لسعيد
وهل ألقين فردا بثينة مرة
تجود لنا من ودها ونجود؟
قال: «نعم.»
قالت: «وما الذي ترجو أن نجود به ونحن بنو عذرة؟»
قال: «لا أطمع منك بغير الحديث والنظر ولو كان من وراء نقاب:
لا، والذي تسجد الجباه له
ما لي بما تحت ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها
ما كان إلا الحديث والنظر.»
فأطرقت بثينة خجلا ثم قالت: «ذلك عهدنا بجميل، ولولا ذلك ما رأيتني أسعى إليك وحدي.»
فلا تسل عن استغراب حسن والراعي ما رأياه حتى هانت على حسن نفسه؛ لأنه لم يكن يظن أنه يستطيع ما استطاعه جميل إذا التقى بسمية.
قضى جميل وبثينة ساعة في مثل ذلك ثم نهضت فودعته أحسن وداع، فودعها بمثله، وانصرف كل منهما في سبيله وكل منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه.
فلما تواريا نهض حسن من بين الأعشاب مذهولا وقال للرجل: «لقد رأيت منظرا طالما تاقت نفسي لمشاهدته، إنه منظر يخجل منه كل ضعيف النفس دنيء الطبع. إن العفة يا أخا العرب خير ما في الفضائل.»
فقال الشيخ وهو ينقر بعصاه على عباءته لنفض التراب عنها: «كيف لا وقد سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من عشق فعف فمات فهو شهيد.» وقال أيضا: «عفوا تعف نساءكم».»
فقال حسن: «صدق رسول الله، وإن بني عذرة كلهم لشهداء؛ فقد بلغني مثل ذلك عن كثير من عشاقهم ولكنني لم أصدق حتى رأيت ذلك رأي العين.»
ثم انتبه حسن لما هو فيه من أمر جرح سليمان وضياع الجمل فقال للراعي: «وأين الجمل يا أخا العرب؟ فقد وعدتني بإحضاره.»
قال: «امكث هنا حتى آتيك به.» قال ذلك وانحدر في الوادي حتى توارى عن النظر، ولكن صوت الأحجار المتدحرجة تحت قدميه ما زال مسموعا، ثم ساد السكون فجلس حسن تحت الشجرة ولبث ينتظر عودة الشيخ وقد استوحش المكان.
ولما خلا حسن إلى نفسه تحت الشجرة جالت به هواجسه في عالم الخيال فانتقل ذهنه مما شاهده في ذلك المساء إلى سمية وحاله معها، ثم إلى خادمه عبد الله وتأخره، ثم إلى سليمان وأبيه، ثم عاد إلى الجمل الهارب بكتاب خالد فرأى أنه أهمل البحث عنه بتربصه هناك لمشاهدة لقاء ذينك الحبيبين. ولكنه اعتذر بأنه إنما فعل ذلك مرغما، فلو أنه لم يطع الشيخ الراعي وظل في مسيره لما وجد إلى جمله سبيلا؛ لأنه يجهل تلك البقاع ولا يعرف طرقها.
وفيما هو كذلك وظلام المساء لا يريه على الآكام والأودية المحيطة به إلا ظلالا ضعيفة ، سمع خربشة بين الأعشاب فوقف بغتة ثم فطن إلى أنها خربشة ضب سارح فلم يلتفت إليه، ولكنه ظل واقفا وقد تزايد قلقه لإبطاء الراعي وهم باللحاق به ولكنه خاف أن يختلفا في الطريق.
ولما طال انتظاره مل الوقوف فمشى على غير هدى، واتخذ علامة علقها على الشجرة لتهديه إلى المكان من بعيد. وجعل مسيره في جهة الوادي الذي سار إليه الراعي يطلب الجمل وهو يتوقع أن يلتقي بالشيخ وهو عائد أو يسمع جعجعة الجمل عن بعد أو يعود إلى مكانه. ولذلك فإنه كان كلما مشى بضع خطوات التفت إلى الشجرة مخافة أن تتوارى عن بصره وراء بعض التلال، فمشى مسافة طويلة لم يسمع في أثنائها صوتا ولا رأى شبحا، ثم نسي أمر الشجرة فانحدر في الوادي وهو يلتمس الأرض ولا يرى الطريق فكانت رجله تزلق طورا وترتطم أصابعه طورا من فوق النعال بأصول الأعشاب الباقية بعد المرعى، وهو بين أن يحملق نحو الوادي بعينيه ويصيخ بأذنيه أو يتفرس في الطريق بين يديه. فلما طال به المسير ولم يهتد إلى شيء ندم لنزوله من مكانه.
وبعد مسير طويل على تلك الصورة سمع نباح كلاب في الوادي فالتفت إلى جهة الصوت فرأى نورا ضئيلا فتأثر الصوت فإذا به يتعاظم كلما اقترب من النور، فعلم أنه على مقربة من بعض القرى الكثيرة في وادي القرى منتشرة في بطنه وعلى جانبيه. ولكنه استغرب النباح في الليل لعلمه أن ذلك لا يكون إلا إذا طرق الحي غاز أو لص. فوقف ليستريح ويفكر في أمره فالتفت إلى ما يحيط به فإذا هو في واد بين جبلين والظلام حالك والمكان موحش، ولكنه استأنس بتلك النار على بعدها، فمشى نحوها فرأى شبحا يعدو صاعدا من الوادي كأنه غزال نافر، فلما اقترب منه علم أنه الراعي واستغرب مجيئه وحده فصاح فيه: «ما وراءك يا أخا العرب؟ أين الجمل؟»
قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جاء بي قلقي على الجمل ورغبتي في التعجيل بالإياب.»
قال: «وما الفائدة من انحدارك في هذا الوادي والليل دامس وأنت لا تعرف الطريق وقد تعرضت للخطر بطرقك هذا الحي ليلا إذ نبحتك الكلاب؛ لأنها لم تألفك من قبل كما ألفتني لكثرة تردادي إلى هذه القرى.»
فقطع حسن كلامه قائلا: «ما لنا ولهذا؟ قل لي أين الجمل؟!»
قال: «لم أعثر عليه في المكان الذي كنت أظنه فيه، والظاهر أنه قصد ماء آخر وقد كنت ذاهبا للبحث عنه في العقيق بجوار المدينة.»
فاستعاذ حسن بالله وقال: «يا لله! ما هذه المصيبة؟»
فابتدره الراعي قائلا: «لا تخف يا سيدي فلن يضيع الجمل ولو غاب عنك طويلا فإن أهل البادية يرسلون إبلهم للمرعى وقد لا يرونها أياما ثم تعود بنفسها أو يعود بها غلام أو فتاة. وقد كان ذلك شأننا في زمن الجاهلية، فكيف ونحن الآن في ظل الإسلام، وأما أنتم معشر أهل المدن فإذا غفل الرجل منكم عن عمامته خاف اختطافها!»
فمل حسن من جدال الراعي فقال له: «ما لنا ولهذا الجدال؟ أين الجمل وكيف السبيل إليه؟»
فقال: «يغلب على ظني أنه سار إلى العقيق، وهو ماء يخرج أهل المدينة إليه فيقيمون عنده ساعات أو أياما في خيام يحملونها معهم، وربما ذبحوا الذبائح وأولموا الولائم.»
فقطع حسن كلامه قائلا: «ثم ماذا؟»
قال: «فالعقيق مجتمع أهل الرخاء من اليثربيين وهو يذكرني أيام الشباب، فقد كان العقيق موعدنا لنلقى نساء المدينة. لا تغضب يا سيدي إننا سائرون الآن جنوبا نحو المدينة والعقيق في طريقنا إليها.» •••
استغرب حسن بعده عن المدينة شمال المكان الذي ترك فيه سليمان وأباه فيه، فقال للشيخ: «هلم بنا.» فمشيا والراعي على شيخوخته أسرع عدوا منه؛ لأنه تعود المشي في الوعر. أما حسن فلما صعد من الوادي والتفت إلى السماء وتبين الكواكب فعلم أنه في أواخر الليل بغت لضياع الوقت وهو لم يأت عملا بعد، وتشاءم مما تأتى له في ذلك المساء وهو إنما أمسك عن رؤية حبيبته رغبة في المسير إلى مكة على عجل، فكيف يعود إلى الوراء بعد قضاء الليل في المشي والقلق ؟
قضى مدة سائرا في أثر الراعي ، على أرض رملية، بعضها رطب بما يرشح فيه من الماء، وفكره تائه حتى رأى نجم الصبح فعلم أن الفجر دنا ثم رأى الراعي وقف وأشار إليه قائلا: «ألا ترى الماء أمامنا عن بعد؟»
قال: «إني أرى سطحا لامعا وكأني أرى فيه سماء أخرى من انعكاس أنوار الكواكب.»
ولما رأى الماء شعر بانشراح الصدر واستبشر ببلوغ أمنيته وجعل يتفرس في ضفاف ذلك الماء لعله يرى أناسا أو جمالا فلم ير شيئا. ثم سمع الراعي يقول: «ها إننا على ضفاف العقيق ولا نرى فيه أحدا سوى آثار أناس كانوا هنا ورحلوا في أوائل الليل، فاقعد على هذا الحجر واغسل رجليك في هذا الماء واسترح ريثما آتيك بالخبر.»
قال: «دعني أسر معك.»
قال: «لا. امكث هنا واغسل رجليك وسأعود إليك على عجل، فإني لا أتحقق الأمر حتى أطوف حول هذا الماء، ولا حاجة إلى مسيرك معي فقد تعبت وإن كنت في عنفوان الشباب؛ لأن أهل المدن لا يقوون على المسير مثلنا.» قال ذلك والتحف العباءة وسار وحسن يتبعه بنظره حتى توارى، وما لبث أن سمع الشيخ يناديه فنهض وأسرع حتى أقبل عليه فإذا هو واقف تحت شجرة منبسطة الأغصان وقد قبض بيده على شيء وهو يقول: «متى خرجت من المدينة؟»
قال حسن: «نحو الغروب.»
قال: «هل أطعمت الجمل قبل خروجك؟»
فتحير حسن بماذا يجيب؛ لأنه وكل أمر الجمل إلى خادمه فقال: «أظن الخادم أطعمه.»
فبسط الشيخ يده فإذا فيها أبعار فقال: «إن هذه الأبعار لجمل من جمال المدينة جاء وحده إلى هذا المكان من مدة قصيرة ورجع.»
فاستغرب حسن بته في الأمر وقال: «وكيف عرفت ذلك؟»
قال: «عرفته من هذه الأوساخ؛ فإن فيها النوى وهو علف جمال المدينة؛ لأن النوى كثير عندهم. ويظهر من قلة جفافها أنها وضعت من عهد قريب. ولم أر واضعها فيكون قد عاد.»
فوجد حسن كلامه معقولا ولكنه لم يقتنع بأن الجمل الذي يشير إليه هو جمله؛ إذ لا يبعد أن يكون جمل أناس آخرين فقال له: «وما الذي أنبأك أنه جملي وليس من جمال الناس مروا بهذا المكان الليلة؟»
فضحك الشيخ وقال: «لو كانت أبعار الجمال كثيرة لرأيناها أصنافا وألوانا. فهي إذن لجمل واحد، وهذا الجمل لم يقم هنا إلا قليلا. وأي جمل من جمال أهل المدينة يخرج إلى هذا المكان بعد منتصف الليل إلا أن يكون فارا مثل جملك؟»
فأعجب حسن ببداهة أهل البادية، وتذكر اشتهارهم بقيافة الأثر، ولكنه ما زال مشككا في أن يكون ذلك الجمل جمله فقال: «لا أرى ما يمنع بعض أهل المدينة من الخروج الليلة على جمله يلتمس بعض الأحياء فمر بالعقيق ليشرب أو يسقي جمله أو يستريح.»
قال: «قد يكون ذلك، ولكن حال المكان، لا يدل عليه؛ لأني لا أرى على الأرض آثار آدميين.»
فقطع حسن كلامه وقال وهو يظن أنه أفحمه: «الظاهر أن الراكب لم ينزل عن جمله وإنما وقف ريثما يشرب ثم ساقه.»
فقال: «لا؛ لأن الجمل لا يستطيع الوقوف تحت هذه الأغصان المدلاة وعليه راكب؛ لأنها تمس ظهر الجمل بانبساطها وانحنائها وليس عليه أحد.»
قال حسن: «ربما برك الجمل؟»
قال: «لو فعل لشاهدنا آثار ركبه، فما الجمل الذي مر من هنا إلا جملك، وإذا صبرت هنيهة أريتك الطريق الذي سار فيه فيهون عليك طلبه.»
قال: «وكيف ذلك؟» وكان الفجر قد لاح، وتبينت الأرض جيدا، فنظر حسن إلى ما حوله وراجع ما قاله الشيخ فترجح لديه قوله، وتحقق ما كان يسمعه من مهارة أهل البادية في قيافة الأثر، فلبث ليرى ما يفعله الشيخ فإذا هو قد مشى خطوات قليلة ثم قال: «انظر إلى هذه الخطى فإنها آثار خفاف جمل يعدو عدوا سريعا، يدلك على ذلك عمقها وعدم نظامها، ويظهر أن الجمل عاد إلى المدينة.»
فالتفت حسن إلى يساره وقد بان الصبح فإذا هو مشرف على المدينة عن بعد ولا بد له من الذهاب إليها، فتذكر حبيبته فيها، ولكنه عاد إلى التفكير في أمر الجمل فقال: «إني لأستغرب ما رأيته اليوم من جملي ولم يكن عهدي به مثل ذلك من قبل .»
قال: «للجمال طبائع غريبة وقد يكون الجمل هادئا ساكنا فلا تراه إلا وقد دلق لسانه وأرغى وأزبد وأركن إلى الفرار كأنه أصيب بجنة، وقد يصيبه ذلك على خوف ورعب أو جوع. ومهما يكن من الأمر فاطلب جملك في المدينة. وأما أنا فإني أستأذنك في العودة إلى ماشيتي مخافة أن يكون قد أصاب إبلي ما أصاب جملك وهي وحدها هناك ما عدا غلاما وأمه تركتهما لحراستها.»
فأثنى حسن على الشيخ وودعه وسار قاصدا المدينة وقد أنهكه التعب والقلق وأحس بالجوع وتشاءم مما اتفق له، فعول على أن يسير توا إلى المسجد للصلاة والتبرك ثم يبحث بعد ذلك عن الجمل، ثم تذكر حديث سليمان وأبيه وما فيه من الإشارة إلى الفتك به، فأحب استطلاع سر أبي سليمان قبل دخوله المدينة لئلا يكون فيه ما يمنعه من دخولها، فسار يلتمس المكان الذي تركهما فيه بالأمس فاستشرف أكمة قرب سور المدينة فرأى قرب المستنقعات شيئا كالجمل البارك ثم ما لبث أن سمع جعجعة فأسرع حتى دنا من الجمل فإذا هو جمله بعينه وقد وقع عند حافة المستنقع وقد كسر فخذه ولم يعد يستطيع النهوض ولكنه رآه عاريا لا رحل على ظهره ولا خطام في رأسه فشك في أن يكون جمله وظنه جملا آخر، فتفرس فيه جيدا فلم ير فرقا بينه وبين جمله، ثم تذكر ميسمه وهو العلامة التي يسمون بها الجمال بسمات القبائل، فنظر في الميسم فإذا هو الميسم الذي يعرفه؛ فتحقق أنه جمله، وأنه لم يعد يقوى على المسير، فلم يهمه ضياعه وود لو أن الراعي معه ليهبه الجمل فينحره لأهله. ثم عاد إلى التفكير في الرحل وما كان عليه من أمتعته وبينها كتاب خالد بن يزيد، فزاد تشاؤمه من تلك السفرة وقال في نفسه: «لم يعد لي وطر في المدينة الآن.» ووقف برهة ثم مشى إلى الجهة التي ترك فيها سليمان مطروحا وبجانبه أبوه فرأى المكان خاليا إلا من آثار الدم على صخر منبسط، ورأى بجانب الصخر ثوبا معفرا فإذا هو القباء وقد تلوث بالدم وتمزق قطعا قطعا فاستغرب تمزقه، ثم طرح بقاياه وفكر في أمر سليمان والكتاب فقال في نفسه: «لعل أبا سليمان عثر على الجمل وهو سائر إلى المدينة فلما رآه معطلا حمل رحله معه على نية أن يدفعه إلي عند الملتقى.» فارتاح حسن إلى هذه الفكرة وهدأ اضطرابه وترجح لديه أن أبا سليمان حمل ابنه إلى منزله في المدينة لمداواته، فعول على الذهاب إليه.
وفيما هو سائر إلى المدينة رأى غبارا يتطاير في عرض الأفق مما يلي طريق مكة، فوقف ينتظر ما يكون، فإذا بثلاثة من الإبل عليها ثلاثة رجال قد تلثموا وساقوا الإبل سوقا عنيفا، ثم سمع قرقعة اللجم فعلم أنها إبل البريد، وكان لدواب البريد قعقعة خاصة كأنها أرسانها من سلاسل الحديد، أو لعلهم كانوا يعلقون في أعناقها جلاجل أو نحوها، فمكث هنيهة ريثما مر البريد، فعلم من لباس الرجال وهيئة الركب أنهم من العراق، فترجح عنده أنه بريد الحجاج بن يوسف إلى عامل المدينة.
الفصل الثامن
حسن وسليمان وأبوه
سار حسن في أثر البريد قاصدا بيت سليمان من أقرب الطرق، فلما وصل إليه سأل عن سليمان فعلم أنه مريض؛ فتحقق أنه هناك، فاستأذن وأقبل على حجرة رأى فيها سليمان راقدا وأبوه إلى جانبه فخلع نعليه بالباب ودخل فوقف له أبو سليمان مرحبا به، وأراد سليمان النهوض فأمسكه وأجلسه وجلس على طرف الفراش بجانبه وجعل يسأله عن حاله وسليمان يحمد الله على أنه أحسن كثيرا، ويعزو الفضل في شفائه إلى نجدته إياه. فقال حسن: «ما أظن المصيبة جاءتك إلا بسببي.»
فقال سليمان: «أشكر الله لأنه نجاك من الخطر.»
فتقدم أبو سليمان والدمع ملء عينيه وقبل حسنا وقال له: «اغفر زلتي يا بني، فإن الله هددني بالقصاص حتى خفت فقد ابني ووحيدي، وأشكره على السلامة ولأنه أكسبني ابنا آخر.»
فنظر حسن إلى ذلك الكهل فإذا هو على ما وصفناه من طول القامة ونحافة العضل وقصر اللحية وصغر العمامة، ولكنه رأى في وجهه دلائل السويداء وانقباض النفس فإذا ابتسم فكأنما يبتسم تكلفا، وإذا ترك ساعة أو ساعات ظل صامتا لا يفوه بكلمة كأنه يفكر في مصاب محدق به.
ثم سألاه عن سبب غيابه، فقص حسن عليهما الحديث مختصرا، وكان يتكلم وأبو سليمان يصغي إليه وهو مثبت بصره فيه وكأنه لم يعره كل انتباهه. فلما جاء على آخر الحديث وذكر لقاء الجمل وضياع الرحل قال: «فلما رأيت جملي بلا رحل على مقربة من المكان الذي كنا فيه ظننا أنكم عثرتم على الجمل ورأيتموه معطلا فحملتم رحله معكم لتحفظوه لي عندكم.»
قال أبو سليمان: «كلا يا ولدي فإننا عدنا ليلا، ولم نلتفت يمنة ولا يسرة لانشغالنا بجرح أخيك سليمان، وأنت هل مررت بالمكان الذي كنا فيه؟»
قال: «نعم وصلت إليه فرأيت أثر الدم، ووجدت القباء ممزقا وعليه جلط الدم فعجبت لتمزيقه.»
فقال الرجل: «لا تعجب يا ولدي لتمزيقه؛ لأنه مزق قلبي فانتقمت منه فاعذرني.»
فاستغرب حسن ذلك وقال له: «بالله ألا قصصت على خبر هذا القباء؟»
فقال له: «أعفني من خبره واقنع بما قلته لك ولو تلميحا.»
قال: «وماذا قلت؟»
قال: «ألم أقل إن هذا القباء هو الذي مزق قلبي؛ لأنه كان دليلي إلى الفريسة المطلوبة فإذا هي ولدي وفلذة كبدي.»
ففطن حسن لأمور كثيرة كانت موضع شكه، وتذكر أنه ليس من يعلم بوجود ذلك القباء معه غير عرفجة؛ لأنه أخذه من عنده ولم يلبسه قط، فاحتاطت به الشكوك وتناوبته الهواجس، وظل صامتا برهة لا يتكلم ثم قال: «ألا تقول لي من الذي أغراك بقتلي؟ فإني أخشى أن أتهم أناسا أبرياء.»
قال: «أمرني بذلك رجل كبير في هذه المدينة، وهو صاحب السلطان الأقوى فيها.»
ففهم حسن أنه يشير إلى عامل المدينة طارق بن عمرو، وكان يعلم بما بين طارق وعرفجة من الصداقة، فترجح لديه أن لعرفجة يدا في هذه المكيدة، لكنه أسرها في نفسه واعتصم بالصبر إلى أن يتم مهمته بمكة.
وأراد سليمان أن يذهب الانقباض عن صديقه فقال لأبيه: «كيف رأيت هذا الصديق يا أبي؟»
فتنهد أبوه وحاول الابتسام وقال : «لم أكن أشك فيما قلته لي، ولكن سوء حظي ساقني إلى ما ارتكبته، ولكني أحمد الله على خلاصنا من هذا الخطر.» ثم التفت إلى حسن وقال: «إني أعتذر إليك من تعمدي قتلك على غير معرفة بك، ولا أظنني دفعت إلى ارتكاب الجريمة إلا بما جنيته من الذنب برجوعي عن المطالبة بدم ذلك المقتول ظلما.» قال ذلك وشرق بريقه فسكت برهة وحسن ينظر إليه ويعجب. ثم عاد أبو سليمان إلى الكلام فقال: «كنت من التوابين الذين ندموا على تخلفهم عن الحسين بن علي، حتى قتل ظلما في سهل كربلاء. ولكنني لم أثبت على توبتي، فانتظمت في خدمة الذين قتلوه، ولا ريب أن عملي لم يرض الحق - سبحانه وتعالى - وعلي أن أكفر عن ذلك بتكريس ما بقي من حياتي لنصرة أعدائهم، وقد علمت أنك سائر إلى مكة فهل تستصحبني؟ وإلا فإني هائم على وجهي في هذه الصحراء.»
فقال حسن: «إذا رافقتني فإني آنس بك وأتخذك أبا لي؛ لأن سليمان أخي، ولكن أرى أن ...» وأسكته الحياء.
فقال أبو سليمان: «تكلم يا بني ولا تخف فإني بمنزلة أبيك، بل أنا خادم لك ولا أستنكف من أمر أجريه في خدمتك. قل ما بدا لك.»
قال حسن: «إذا كنت ترى أن تتفضل علي وتعاملني معاملة الأب لابنه فإن لي عندك طلبا أستحيي أن أكلفك به.»
قال: «لا تستح يا بني، قل.»
قال: «أحب فتاة في هذه المدينة، وقد خطبتها وأنا مضطر للسفر قبل العقد عليها، ولا يخفى عليك قلب مثلي في هذه الحال.»
قال: «نعم. ماذا تريد مني؟ هل تريد أن أوقف نفسي لخدمتها؟»
قال: «كلا فإنها في بيت أبيها ولكنني قليل الثقة بمن حولها.»
قال: «من هي الفتاة ومن هو أبوها؟»
فوجم حسن برهة ثم قال: «إذا لم يكن بد من معرفتك اسمها - ولا أرى بدا من ذلك - فأخبرك أنها سمية ابنة عرفجة الثقفي.»
فلم يتم حسن قوله حتى بهت أبو سليمان وازداد لونه امتقاعا وأطرق وصارت لحيته ترقص في صدره، وكان حسن يلاحظه وقد أدرك ما جال في خاطره. وجعل أبو سليمان يهم بالكلام ثم يمسك؛ لأنه كان مطلعا على تردد عرفجة على مجلس طارق، وعرفجة مشهور في المدينة بخيانته وسوء نيته.
أما حسن فلم يمهله ريثما يتكلم فابتدره قائلا: «لا أكلفك إطلاعي على سر، فقد فهمته وهذا يكفي. أما الفتاة فخطيبتي ولا شيء يمكن أن يثنيها عني أو يثنيني عنها. وإنما أرجو أن تبحث عنها وتعرف أحوالها وهذه هي وصيتي إليك فإذا قبلتها كان ذلك فوق ما أتمناه.»
فقال أبو سليمان: «أنا عند ما تريد، وسأولي أمرها اهتمامي، كما أهتم بولدي هذا. كن في سكينة وراحة بال.»
فلما فرغ حسن من أمر سمية عاد إلى التفكير في الكتاب والخادم، فتبادر في ذهنه أنه قد يلقى خادمه في المدينة فيساعده على البحث عن الكتاب، وعزم إذا لم ير الخادم فإنه يكتفي بإبلاغ عبد الله بن الزبير فقد الكتاب ويرى ما يكون، فنهض مودعا. فقال له أبو سليمان: «إذا لم يكن بد من سفرك فاجعله من غير الطريق الذي كنا فيه أمس. اخرج من باب آخر وأنا أرسل معك خادمي يهديك إلى الطريق ويسوق جملك بدلا من خادمك، وسأقدم لك جملا أحسن من جملك فانعم بالا وكن على ثقة أننا أنا وسليمان في خدمتك حتى تبلغ مرامك.» ثم صاح: «يا بلال.» فجاء عبد خفيف السواد حسن الملامح فقال له: «هيئ الجمل الأشرم. واملأ القرب ماء، وأعد زاد السفر.» فذهب بلال ثم عاد وقد أعد كل شيء، فقال أبو سليمان لحسن: «إذا كان لا بد من سفرك فسر على عجل ولا تقف ولا تسترح حتى تبعد عن المدينة.»
فقطع حسن كلامه وقال: «فاتني أن أخبركم عن إبل البريد، فقد رأيت ثلاثة منها دخلت المدينة في هذا الصباح وأظنها قادمة من مكة.»
قال أبو سليمان: «لا يبعد أنهم جاءوا لطلب نجدة أو مدد، أو بخبر فتح أو شيء من ذلك، أما أنا فإني سأنتقل من هذا البيت إلى سواه وأختفي يومين أو ثلاثة حتى لا يراني أحد لئلا يطلبونني للمسير معهم.»
ثم ودعهم حسن وركب الجمل وسار بلال في ركابه، وبود حسن لو يعيد النظر إلى سمية قبل سفره ولكنه أراد العجلة وخاف الوقوع فيما هو شر من ذلك.
الفصل التاسع
سمية في منزل سكينة
فلنترك حسنا قاصدا إلى مكة مع بلال، ولنعد إلى المدينة لنرى ما كان من أمر سمية بعد سفره، فقد تركناها عائدة إلى بيت سكينة ومعها عبد الله خادم حسن يسير في خدمتها. فلما وصلا إلى باب البيت قالت له سمية: «قد وصلت إلى مأمني فانصرف.» وكانت قد استأنست به لأنه ثقفي مثل أبيها، فلما ودعها قالت له: «قد علمت يا عبد الله منزلة حسن مني فارعه وكان صادقا في خدمته.»
فقال: «إني عبدك وعبده يا مولاتي، وإني أفديكما بروحي.»
فاطمأنت سمية وأشارت إليه برأسها إشارة الوداع، فتحول مسرعا يلتمس باب المدينة ليلحق بسيده.
أما سمية فإنها أقبلت على بيت سكينة حوالي العشاء، فتظاهرت بأنها كانت في بعض جوانب المنزل، وسارت إلى مجلسها، فرحبت بها وسألتها عن سبب تخلفها. فقالت: «كنت مشتغلة في بعض الغرف هنا.» فقالت ليلى: «قد بحثنا عنك فلم نجدك، وأخشى أن يكون أباك استبطأ عودتك.»
قالت: «ربما استبطأني، ولكنني هنا في مأمن من غضبه، ومتى استبطأني بعث في أثري.»
فلما سمعتها سكينة تقول ذلك أمسكت بيدها وقربتها إليها حتى أقعدتها معها على الوسادة وضمتها وقبلتها وقالت لها: «أهلا بك يا سمية، إنك من أعز الأحباء.» وكانت سكينة تستلطف سمية وتحبها.
فقالت سمية: «لا حرمنا الله من محبتك يا بنت سبط الرسول، إن إقامتك بهذه المدينة بركة وسعادة لنا جميعا.»
ثم جاء الخدم يدعون سكينة إلى المائدة، وقد مدت الأسمطة فقمن للعشاء. وأما سمية فعادت إلى هواجسها واستغربت سكوت أبيها عنها إلى ذلك الحين، ثم خطر لها أنه غائب عن البيت ويحسبها فيه. فرأت أن تستأذن في العودة إلى البيت فأذنت لها، وبعثت معها بعض الجواري ليوصلنها إليه.
ولما وصلت سمية إلى باب البيت قرعته بطريقة يعرفها الخدم، فأسرعت جارية إلى فتحه واستقبلت سيدتها وهي تقول: «لقد أبطأت علينا الليلة وشغلت بالنا.»
وكانت هذه الجارية حبشية الأصل اسمها أمة الله، تحب سمية كثيرا، كما أن سمية كانت تستأنس بها وتكرمها، فلما أبطأ قدومها في تلك الليلة شغل بال الجارية ولم تستطع رقادا، حتى طرقت سمية الباب ففتحت لها، وترامت عليها وقبلتها ورحبت بها، فقالت لها سمية: «ألم يأت أبي؟»
قالت: «جاء نحو الغروب ودخل الحجرة المعلومة وأقفل بابها، وما زال هناك ولا يدري أحد ماذا يعمل؛ لأنه أنار السراج وحمله بيده إلى الغرفة على عادته.»
فدخلت سمية غرفتها وخففت ثيابها لتوهم أباها إذا رآها أنها في البيت من مدة طويلة. ولم تستغرب مكثه في تلك الحجرة طويلا؛ لأنه كثيرا ما كان يفعل ذلك وأهل البيت يستغربون تكتمه ولا يعرفون ما في تلك المحفة المخزونة هناك. ولولا خوفهم من غضبه واستبداده لتوصلوا إلى فتحها ولكنهم كانوا يخافون سطوته وشدة وطأته.
ثم رأت سمية أن تلجأ إلى فراشها قبل خروج أبيها من مخبئه مخافة أن يراها ويسألها عن سبب غيابها وربما أساء الظن بها، فجلست على فراشها، ودعت أمة الله لتمشط لها شعرها قبل النوم فجثت الجارية خلفها وجعلت تسرح الشعر وتمشطه ووجه سمية إلى باحة الدار، وكانت سمية ترتاح إلى مكاشفة أمة الله ببعض شئونها الخاصة فقالت لها: «هل شغل بالكم غيابي الليلة؟»
قالت: «نعم يا مولاتي؛ لأنك قلما تطيلين الغياب، ولا سيما أن عبد الله جاء للسؤال عنك.»
قالت: «وأي عبد الله؟»
قالت: «الرجل الذي جاء صباح اليوم.»
فعلمت سمية أنه عبد الله خادم حسن، فبغتت لعلمها أنه فارقها ليلحق بسيده على عجل فأدارت وجهها إلى الجارية وقالت لها: «متى جاء؟»
قالت: «جاء قبل وصولك بقليل.»
قالت: «وهل جاء وحده؟»
قالت: «لم أر معه أحدا.»
ففكرت سمية في الأمر، فوجدت أنه جاء بعد أن فارقها بساعة أو ساعتين، فتبادر إلى ذهنها أنه لم يأت إلا لغرض أراده حسن منها، أو لشر أصابه، فتوالت عليها الهواجس واستغرقت في التفكير، وعادت الجارية إلى تمشيطها وهي في غفلة عن كل ذلك.
وبينما سمية غارقة في لجج الهموم لاحت منها التفاتة إلى باحة الدار فرأت فيها نورا يتحرك وسمعت صوت باب يقفل، فعلمت أن أباها خرج من الحجرة السرية. ثم اختفى النور وسمعت تصفيقا فعلمت أن أباها يدعو الخادم، فخافت أن يكون عازما على استدعائها، فتظاهرت بالميل إلى الرقاد وقالت للجارية: «لم يعد لي طاقة بالجلوس فقد أخذ مني النعاس مأخذا عظيما فاتركيني، وإذا سأل عني أبي فأخبريه بأني نائمة منذ حين.» ففهمت الجارية غرضها فضحكت وقالت لها: «لا تخافي.» وتمددت سمية في فراشها وتظاهرت بأنها استغرقت في النوم، وبعد قليل سمعت الخادم يسأل الجارية عنها، وسمعتها تذكر له أنها نائمة فانصرف.
وأصبحت في اليوم التالي وهي ما زالت في حاجة إلى النوم، فظلت في الفراش حتى الضحى، ثم جاءتها جاريتها بماء للغسل وبطعام، فسألتها عن أبيها فقالت: «أفقت قبيل الصبح على قرع الباب، ثم علمت أن بعض الناس جاءوا يطلبون سيدي على عجل، فخرج وهو لم يتم لف عمامته.»
فأطرقت سمية وفكرت في الأمر، فحدثتها نفسها بأن لهذه الدعوة علاقة بخطيبها. ولما تذكرت سوء قصد أبيها وما سمعته من قدوم عبد الله إليها أمس، تبادر إلى ذهنها أن شرا عظيما أصاب حسنا - وذلك شأن المحب البعيد عن حبيبه؛ فإنه لا يكاد يطمئن قلبه عليه، وإذا سمع أحدا يذكره تبادر إلى ذهنه أنه في خطر، وقد يفسر الإشارات والرموز والحوادث بما يؤكد ذلك - فكيف بسمية وهي تعلم ما ينويه أبوها لخطيبها؟! فلم تتناول من الطعام إلا قليلا، ولبثت جالسة تفكر في سبب خروج أبيها وتخاف أن يكون فيه ما يسوء خطيبها. •••
قضت سمية أكثر النهار في قلق واضطراب، تارة تمشي في الدار، وآونة تخرج إلى البستان، وهي تتوقع أن ترى عبد الله آتيا أو تسمع خبرا. ثم سمعت أذان العصر فالتفتت إلى مصدره جهة باب البيت فرأت أباها داخلا فخفق قلبها ولبثت تنتظر ما يبدو منه، فدنا منها وابتسم وناداها إليه فتبعته وهي ما زالت في اضطراب، ولكنها تظاهرت بارتياح حتى أقبل على غرفة الجلوس فوقف بالباب ينزع نعاله وقال: «كيف قضيت يومك أمس عند سكينة؟»
قالت وهي تتبعه إلى وسادته التي تعود الجلوس عليها: «قضيته مسرورة، وعدت وأنت في الحجرة فنمت ونهضت في هذا الصباح، فعلمت أنك خرجت مبكرا فشغل بالي.»
فقطع كلامها ودعاها إلى الجلوس بجانبه وعلى وجهه ابتسامة متكلفة، فلما جلست قربها منه وضمها وقبلها فأحست ببرد شفتيه واقشعر بدنها لاحتكاك شعر لحيته بذقنها وعنقها لعظم ما كانت فيه من التهيج العصبي الناتج عن القلق، وقبلت يده فإذا هي أبرد من شفتيه. وتوقعت أن تسمع منه شيئا بعد هذا التملق فإذا هو يقول لها: «أظنك مللت طول المكث في هذه المدينة؟»
قالت: «إذا كنت أنت في خير وسعادة فكل حال ترضيني.»
فأعجبه قولها وألقى يده على كتفها وجعل يلاعب شعرها بين أنامله ثم قال: «بورك فيك من ابنة مطيعة، إن مثل هذا القول يجبر قلب الوالد، هذا هو البر الذي كنت أرجوه منك. فالحمد لله الذي أذهب ما كان يخامر ذهنك، وعدت إلى ما هو جدير بأمثالك من النزول على حكم آبائهن.»
فأحست سمية من هذا التعريض كأن صخرة وقعت على رأسها، وأسرع خفقان قلبها، ولو انتبه أبوها وهي مستلقية على صدره لسمع دقات قلبها ولأدرك اضطرابها، أو لعله أدرك وتجاهل خبثا ورياء. ثم قال ولم يترك لها مجالا للتفكير: «سنذهب غدا لترويح النفس في العقيق فإنه منتزه جميل، فهل يسرك أن نأخذ طعامنا وشرابنا ونقضي يومنا هناك؟»
فعجبت سمية من عناية أبيها بأمر نزهتها والترويح عنها، ولا سيما أنه كان لا يخاطبها بالحسنى أو يلاطفها إلا إذا كان له مأرب من وراء ذلك. فأصبحت لا تسمع منه مثل هذه الملاطفة إلا توقعت شرا. ولكنها لم تكن تستطيع غير مداراته فقالت: «أشكرك يا أبي على هذه العناية.»
فقطع كلامها وقال: «لا شكر على واجب، فإني أبوك، وسأخبر الخدم ليعدوا لنا خياما وطعاما ويسيروا أمامنا إلى العقيق قبل الفجر، ثم نركب أنا وأنت عند طلوع الشمس ونقضي يومنا في العقيق، فقد مللنا المدينة وأسواقها ونخيلها.» قال ذلك بنغمة الأب الحنون، فلم يسع سمية إلا مجاراته، على أنها كانت أشد حاجة منه إلى النزهة، وخطر لها أنها ربما استطاعت في أثناء مرورها بالشوارع والطرق أن ترى عبد الله أو تسمع خبرا عنه أو عن حسن، فأثنت على أبيها وقبلت يده، فقبلها ثم صفق فجاء عبد أسود كان قد فوض إليه إدارة شئون منزله وجعله رقيبا على أهل بيته، وكان ذلك العبد قبيح الخلقة عظيم الشفة السفلى أفطس الأنف يكاد الشرر يتطاير من عينيه، ويندر أن يبتسم فإذا فعل فإنه يكشر عن أنيابه. فلما وقف بين يديه قال له: «يا قنبر، إننا عازمون على الخروج في صباح الغد إلى العقيق فأعد ما نحتاج إليه من الخيام والأطعمة، وهيئ الهودج لسمية، ثم اسبقنا مع الخدم عند الفجر، وسنلحق بكم بعد ذلك.»
قال: «الأمر لمولاي.» وخرج.
ثم نهض عرفجة ودخل الحجرة السرية، واتجهت سمية إلى غرفتها وطلبت جاريتها أمة الله أن تتهيأ لمرافقتها في صباح الغد. •••
باتت سمية ليلتها والأحلام المزعجة تنتابها، وتريها حسنا في خطر، ورأت مناظر مخيفة أخرى، فنهضت وهي في اضطراب شديد. فإذا أبوها قد خرج وتهيأ للرحيل، وجاءتها الجارية فمشطتها وألبستها ثيابها، ثم ركبت معها الهودج، وركب أبوها بغلة، وساروا وقد أمسك بخطام الجمل أحد الخدم.
وجعلت سمية تطل من خلال الستور على المارة في الطرق وتتفرس فيهم، فاستغربت أمة الله ذلك منها لعلمها بأدبها وحشمتها، وزاد في استغرابها شدة ما لاحظت في وجهها من القلق. فلما خرجوا من باب المدينة بالغت سمية في التطلع نحو الطريق الذي يؤدي إلى مكة لعلها ترى أثرا أو تستطلع خبرا، فرأت بجانب باب المدينة خياما ورايات وخيولا وجمالا، وقد تفرق العبيد بين النخيل وحول المستنقعات يجمعون العيدان للوقود، فذهلت ولم تفهم أمر هذا المعسكر، ولم تر بدا من أن تسأل أباها فأخرجت رأسها من بين الستور لتبحث عنه فإذا هو قد أركض بغلته نحو المعسكر ، فظنت أنه ذهب لاستطلاع الخبر، فأمرت الغلام أن يظل في مسيره فسار حتى بعدوا عن المعسكر وسمية تشرف على الطرق وتتطلع إلى كل جهة والقلق باد في عينيها.
وفيما هي تتطلع سمعت جعجعة جمل يتألم فالتفتت فرأت جمل حسن الذي ذكرنا أمره ولم تكن قد رأته إلا في أثناء مقابلتها حسنا في المساء، ولكن صورته انطبعت في ذهنها. فلما رأته خفق قلبها كأنها تنسمت منه رائحة الحبيب، فأوقفت الهودج عنده ونظرت فرجحت أنه جمل حسن وجعلت تفكر في الأمر، فخيل إليها أن حسنا قتل وقد أخذ قاتلوه رحل الجمل وخطامه وتركوه. فلما تصورت ذلك تساقطت دموعها وخفق قلبها جزعا وإشفاقا.
وكانت أمة الله تلاحظ سيدتها ولكنها لم تجرؤ على مخاطبتها في هذا الشأن إلا لما رأت دموعها تتساقط، فقالت لها بصوتها الناعم الرخيم: «ما بالك يا سيدتي تبكين، لا أراك الله سوءا؟»
فلما سمعت سمية سؤال الجارية أجهشت في البكاء حتى علا صوتها، فأمسكتها أمة الله وقبلت يدها وقالت لها: «بالله كفي عن البكاء وأخبريني ما سبب ذلك فلعلي أنفعك في شيء.»
فتنهدت سمية ومسحت دموعها بكمها، ثم التفتت إلى خارج الهودج فلم تجد أباها عاد، ولا رأت أحدا يسمعها، فقصت على جاريتها الحديث مختصرا، وأطلعتها على مكنون قلبها. فشاركتها الجارية البكاء ثم قالت لها: «إنك لم تتحققي أن هذا الجمل جمل حسن، وهبي أنه جمله فليس معنى هذا أنه أصيب بسوء، ولا أحسب هذا الجمل إلا لبعض أهل هذا المعسكر انكسر فتركوه، ومهما يكن من شيء فليس هناك ما يدعو إلى الأخذ بالظن والتوهم.»
فارتاحت سمية لهذا التعليل، ولكنها تذكرت عبد الله ورجوعه إلى منزلها في تلك الليلة فقالت: «ولكن ما سبب رجوع خادمه إلينا؟»
قالت الجارية: «قد يكون جاءك برسالة من حسن فلما لم يجدك عاد إليه بها وسافر معه، ولولا ذلك لرأيته أمس. وقد مضى يوم ونحن الآن في ضحى اليوم الثاني ولم نره.»
فقطعت كلامها وقالت: «أتظنينه إذا علم بسوء أصاب حسنا ينقل ذلك الخبر إلي ؟!» قالت: «دعي عنك هذه الأفكار وتوكلي على الله.»
وفيما هما في الحديث سمعتا وقع حوافر البغلة، فعلمتا أن أبا سمية قد عاد، وبعد قليل وصل إلى محاذاة الهودج ونادى سمية، فأطلت عليه فقال لها: «لعلي غبت عنك طويلا؟»
قالت: «نعم، وقد رأينا خياما وجمالا وخيولا فلم نفهم سبب وجودها.»
فأجابها وهو يحاول إصلاح الرسن في رأس البغلة: «إن هذا معسكر طارق بن عمرو عامل المدينة، وقد خرج برجاله وجنده قاصدا مكة.»
قالت: «ولماذا؟»
قال: «جاء بريد الحجاج بن يوسف أمس يستقدم طارقا ورجاله مددا له في حصار مكة، وعما قليل يسافرون.» قال ذلك وساق بغلته متظاهرا بأنها هي التي أسرعت من تلقاء نفسها، فانقطع الحديث. وسرت سمية بانقطاعه لتعود إلى التفكير في حسن لعلها تلتمس تعليلا يريح بالها. والمرء ميال إلى التماس مثل ذلك التعليل، والناس يتفاوتون في مقدرتهم على ذلك؛ فبعضهم إذا وقع في مصيبة هان عليه تطبيق عواطفه على تلك المصيبة فيجعل لنفسه مخرجا من سوء عواقبها ومنهم من يزيده قلقا ولكنه لا يلبث وإن طال قلقه أن يتوصل إلى حل يتوكأ عليه ريثما يرى ما يأتي به القدر.
وكانت الجارية قد رفعت أستار الهودج منذ الخروج من المدينة، فظلت سمية تسرح نظرها فيما حولها من الهضاب والبطاح وبرك الماء وغابات النخيل، وهي كأنها لا ترى شيئا لاستغراقها في عالم الخيال، فلم تنتبه إلا على رائحة الشواء، فالتفتت فإذا هي على مقربة من ثلاث خيام: اثنتين قرب الماء وواحدة منفردة بظل نخلة كبيرة. فنظرت فرأت نفسها على غير ماء العقيق، وكانت تعرفه، فتفرست فيما حولها فإذا هي ما زالت على مقربة من المدينة وخيام المعسكر ظاهرة. وتفرست في الخيام فأدركت أنها خيامهم، فاستغربت ذلك ولكنها لم تعلق عليه أهمية؛ إذ لم يكن لها رغبة في العقيق أو غيره.
وجاء الخدم فأناخوا الهودج بقرب الخيمة المنفردة، فنزلت سمية وجاريتها ودخلتا الخيمة، ثم رأت سمية أباها واقفا مع عبده على انفراد، وكانت تكره هذا العبد كرها شديدا لغلظ طبعه وفظاعة خلقته، فاستعاذت من شرهما بالله.
الفصل العاشر
القتل أو الزواج بالحجاج
عادت سمية إلى هواجسها بعد أن دخلت الخيمة، فأخذت تفكر في حسن وجمله، وتصورت وقوع ما تخشاه عليه من القتل فازداد بلبالها. ثم خرجت أمة الله لمساعدة بقية الخدم في إعداد الأطعمة وظلت سمية في الخيمة وحدها.
وفيما هي على تلك الحال سمعت سعال أبيها، ثم رأته والعبد قنبر قادمين نحو خيمتها، فاستعاذت بالله من شر ذلك القدوم، ثم رأت العبد يبطئ بينما أسرع أبوها حتى وصل إلى الخيمة، فنهضت للقائه، فقال لها: «كيف رأيت هذا النهار؟ إنه جميل أليس كذلك؟»
فتظاهرت بالابتسام وقالت: «إنه نهار جميل، ولكنني سمعتك تقول إننا ذاهبون إلى العقيق، وأرانا ما زلنا بباب المدينة!»
قال: «إن العقيق بعيد فأحببت أن نستريح قليلا ثم نستأنف المسير إلى العقيق. وما أريد إلا أن تكوني مسرورة فرحة وألا أراك منقبضة النفس وقد تهيأت لك أسباب السرور وإنك لتعلمين حبي لك، وأني انقطعت عن العالم لأجلك ... ولا أدخر جهدا في سبيل راحتك وسعادتك.»
فلما رأت مبالغته في التلطف خافت ما وراء ذلك وظلت ساكتة، فعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: «ولقد سرني منك انصياعك إلى مشورة أبيك في شأن ذلك الشاب، ورجوعك إلى ما هو جدير بأمثالك. ويسرني أيضا أن أبشرك بسعادة قد وفقك الله إليها، ويندر أن تنالها فتاة من فتيات المدينة بل هن يغبطنك عليها.»
فازداد قلقها وأحست من وراء ذلك الكلام نذير سوء يزيد في اضطرابها، فظلت ساكتة وقلبها يخفق، ومالت إلى استطلاع ما في نفس أبيها ولكنها خافت أن يكون في علمها بذلك ما يسوءها، فلبثت صامتة لا تدري ما تقول. وكان هو ينظر إلى وجهها خلسة، ويتشاغل بالعبث في لحيته، فتوقع أن يسمع منها استفهاما، فلما بقيت صامتة دنا منها وهي مستندة إلى عمود الخيمة ووقف أمامها وأسند يده إلى العمود وجعل يده الأخرى على كتفها. فاضطربت وازداد قلقها فلم تعد تصبر على السكوت، ثم إذا هو يقول لها: «لماذا لم تسأليني عن تلك السعادة التي أعددتها لك، ألا يسرك أن تعلمي بما يبذله أبوك في سبيلك؟ إنك ستصيرين عما قليل سيدة نساء هذا الجيش.» قال ذلك وأشار إلى المعسكر.
فلما سمعت قوله علمت أنه يعرض بخطبتها لأحد كبار رجال الجيش، فتحققت سوء ما أضمره لها بالأمس وأنها مقبلة على خطر شديد، فارتبكت وحارت في أمرها ولم تدر بماذا تجيب، ولكن الاضطراب بدا على وجهها. ولو أنه تفرس في قرطيها لرآهما يرتعشان ارتعاشا يحاكي خفقان قلبها - وما ارتعاشهما إلا من رجع ذلك الخفقان - واحمرت وجنتاها، فتشاغلت بإصلاح دمالجها في معصميها والنظر إليها في حين أنها لم تكن ترى شيئا لأن الدمع غشي بصرها ثم تساقط كاللؤلؤ على معصميها. فلما رآها تبكي تحقق أنها ما زالت عالقة القلب بحسن، فأراد أن يقطع أملها منه فقال لها: «ما بالك لا تجيبين؟ ألم يعجبك ما دبرته لك من أسباب السعادة؟ أم لم تفهمي مغزى كلامي؟ إنك ستكونين سيدة نساء هذا الجند وجند بني أمية المحاصرين مكة الآن، وإذا أشكل عليك فهم مرادي فاعلمي أنك ستزفين إلى الحجاج بن يوسف كبير أمراء مولانا الخليفة عبد الملك بن مروان، وهو من ثقيف مثلنا، وله ما لا أزيدك بيانا عنه من علو الشأن.»
فلما سمعت تصريحه لم تعد تتمالك نفسها، فغطت وجهها بكمها وأسندت رأسها إلى العمود وظلت صامتة وقد حبست نفسها عن البكاء أو التنهد حتى كادت تختنق وهي لا تدري بماذا تجيب، مخافة أن يفتك بها، فلم تر سبيلا غير البكاء. فلما رآها تبكي أمسك يدها وأبعدها عن العمود بلطف فطاوعته وهي تبالغ في الإطراق فقال لها: «أحسب صورة ذلك الغلام في ذهنك، مع أنه قد مضى وانتهى أمره فلم يبق لك سبيل إليه. فإذا كان في قلبك بقية أمل فيه فانزعيها واطرحيها جانبا.»
فأجفلت سمية، ورفعت رأسها ونظرت إلى أبيها وعيناها تقطران دمعا وكأنها في شك من قوله، فابتدرها قائلا: «صدقيني إنه لم يعد لك سبيل إلى حسن، ولا سبيل له إليك أيضا؛ لأن أمره قد انقضى وأصبح في عداد الأموات.»
فلما سمعت قوله صاحت صيحة سمعها كل من في الخيام، ولطمت وجهها وقالت: «حسن مات؟ مات؟! لا. لا. إنه لم يمت، إنه حي.» قالت ذلك واستغرقت في البكاء، وجلست على حصير من سعف النخل كانوا قد فرشوه في أرض تلك الخيمة وجعلت رأسها بين كفيها وأطلقت لدموعها العنان وأبوها ما زال واقفا وقد بغت لما رآه منها، على أنه قال لنفسه: «إنها لا تلبث أن تفرغ من البكاء، فمتى تحققت موت حسن عادت إلى رأيي.» فصبر هنيهة وهو يظهر الاستخفاف بما بدا منها، ثم عاد فقال لها: «أراك كأنك لم تصدقي قولي مع أنك تعلمين أني لم أكذبك قط. صدقيني إن حسنا قتل في أثناء خروجه من المدينة فلا سبيل إلى رجوعه. أم تريدين أن تقتلي نفسك من أجله؟»
فصاحت مولولة وقالت: «نعم أقتل نفسي، ولا غرض لي في الحياة بعده. لقد قتلتموه ظلما وغدرا! ويلك يا ظالم! كيف قتلته؟ اقتلني معه ... اقتلني.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء، فلما رأى عرفجة تصلبها عمد إلى الملاينة فقال لها: «أنا لم أقتله ولكنه قتل بذنبه، ولا فائدة من البكاء عليه، فاشكري الله على أنه مات قبل أن يقترن بك، وإلا ما وجدت حظوة في عيني الحجاج.»
فقطعت كلامه وقالت: «ما لي وللحجاج؟ إني لا أريد غير حسن. حسن خطيبي. هو وحده حبيبي حيا أو ميتا.» ثم أجفلت وقالت: «لا لا، لم يمت حسن، بل هو حي، وأيدي الظلمة اللئام تقصر عنه.»
فقال عرفجة: «ألا تزالين تنكرين قتله؟ هل أريك جثته لكي تصدقي؟» فوثبت سمية من مجلسها وقالت: «لا. لا. لا تريني إياه ميتا. ويلاه! قتل حسن. قتلته أنت يا ظالم! فاقتلني وأرح نفسك مني وأرحني من الحياة. اقتلني كما قتلت رجلا أنقذك وأنقذ أهل بيتك من القتل. ويل لك من مشهد يوم عظيم!» قالت ذلك وقد أحست بقوة عجيبة ويئست من الحياة. فلما سمع عرفجة تقريعها صاح بها: «أقصري يا فاجرة ، أبمثل هذا الكلام تخاطبين أباك؟! والله لولا حرمة البنوة ولولا أن يقال إني قتلت فتاة لمزجت دمك بهذه المياه ... ولكني أعاملك معاملة صبية حمقاء، وسأصبر عليك قليلا فإذا أبيت إلا ما بدا من وقاحتك فإني قاتلك بهذا الخنجر!»
قال ذلك واستل من منطقته خنجرا لمع نصله كالبرق، فلما رأت النصل تعرضت له وقد حسرت ثوبها عن صدرها وهي تقول: «اضرب. اغمد خنجرك في هذا القلب. اطعن. أتخوفني بالموت؟! إن الموت أحب إلي من الحياة.»
فلما رأى منها ذلك العناد صاح قائلا: «أهذه نتيجة تعبي في تربيتك يا فاجرة؟! لقد حل لي قتلك، ولكني لا ألوث يدي بدمك وسترين قبل موتك جميع أصناف العذاب.» ثم صاح: «قنبر.» فأقبل ذلك العبد بأسرع من لمح البصر كأنه كان في جيب عرفجة وأخرجه بيده، وقال: «لبيك يا مولاي.» فقال: «شد يدي هذه الخائنة بالأمراس وقيد رجليها بالحبال وسأريها عاقبة العناد.»
فلما رأت سمية قنبر مقبلا نحوها وثبت من مقعدها وصاحت به: «اذهب يا عبد السوء، لا تدن مني. اغرب من وجهي، لا تدن مني. اذهب قبح الله وجهك.» قالت ذلك وهي لا تعي ما تقول.
أما قنبر فأخرج من جيبه حبلا كان قد أعده لمثل هذا الغرض، وهجم عليها وهو لا يبالي صياحها فقبض على يدها وهي تحاول التخلص منه، وقد اشتد ساعداها حتى صارت مثل أشد الرجال ونسيت حزنها، ودفعته عنها وهو يحاول إخضاعها بلا عنف، فلما رآها تدفعه وتقاومه عزم على استعمال العنف فصاح فيها صيحة دوت دويا عظيما وجذبها من يدها فلطم رأسها عمود الخيمة، فوقعت مغشيا عليها، فأخذ في شد وثاقها غير مكترث لحالها.
وكان الخدم قد سمعوا صياح سمية، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب من الخيمة إلا أمة الله جاريتها فإنها هرولت خلسة واستترت وراء نخلة حولها عشب العليق ولبثت تسترق السمع. فلما رأت هجوم قنبر على سيدتها علمت أنه لن يحجم عن قتلها، ثم سمعت لطمة عقبها سكوت فخافت أن يكون قد أصاب سمية سوء، فلم تر سبيلا إلى نجدتها إلا بالحيلة ، فأسرعت إلى عرفجة وترامت على قدميه وقبلتهما وقالت: «بالله ألا أشفقت على سيدتي وأغضيت عن جرأتها وأنا أضمن لك كل ما تريده منها.»
وكان عرفجة يعامل سمية بذلك العنف لكي يحملها على قبول الزواج بالحجاج؛ لأنه يرجو من وراء ذلك منفعة كبرى لنفسه. وقد ذكرنا ما فطر عليه من حب الذات والطمع من سوء النية. وقد بلغ منه الطمع حدا هون عليه تقديم ابنته ضحية على مذبح أغراضه، ومات ضميره فلم يعد يهمه ما يرتكبه في سبيل بلوغ مقاصده. وكان يعلم أن الحجاج يرغب في الزواج بسمية ويبذل لها مهرا كبيرا، ولكنه كان يخاف أن تشكوه لعبد الملك بن مروان بوساطة سكينة بنت الحسين أو غيرها من أهل الوجاهة والنسب في المدينة. فلما اطمأن إلى مقتل حسن أخبر طارقا بن عمرو أمير المدينة بأن مثل ابنته لا تليق بغير الحجاج بن يوسف وأنه يعلم برغبته فيها. وكان طارق أيضا مثل عرفجة قسوة وطمعا ولا سبيل له إلى غرضه إلا إذ تقرب إلى الحجاج بما يرضيه، فرأى أن يتقرب إليه بسمية فيخطبها له ويحملها إليه، فوافق عرفجة وساعده على التخلص من حسن ودفع إليه بعض مهر سمية، على أن يأخذ بقية المهر بعد وصولها إلى الحجاج بالقرب من مكة.
وكان عرفجة يعلم ميل ابنته إلى حسن، ونفورها من الحجاج وغيره، ويتوقع إباءها فهيأ الأسباب لإقناعها بأية وسيلة، وتواعد مع طارق على أن يخرج بها إلى قرب المعسكر ويحاول إقناعها بالحسنى فإذا لم تقتنع عمد إلى العنف فيحملها إلى الحجاج مكرهة ولم يكن هو ينوي الذهاب معها لغرض له بالمدينة يتعلق بتلك المحفة السرية، فأراد إقناعها خارج المدينة وإرسالها توا إلى مكة مخافة أن تفر إلى سكينة وتلتجئ إلى بيتها في المدينة فتحميها أو تساعدها في إبلاغ أمرها إلى عبد الملك بن مروان قبل وصولها إلى الحجاج. أما بعد أن تسير إلى مكة ويتزوجها الحجاج فلا يعود هناك محل للشكوى. ولا يهمه أن تشكو سمية؛ إذ يكون قد نال بغيته، ولذلك أوصى طارقا بأن يعقد الحجاج قرانه بها حال وصولها حتى ينقطع لديها كل أمل في النجاة. ثم احتال في إخراجها إلى المعسكر كما تقدم. فلما رأى نفورها مما عرضه عليها من أمر الحجاج أصدر أمره إلى قنبر بشد وثاقها وخرج هو من الخيمة لا يلتفت إليها.
فلما لقيته أمة الله وترامت على قدميه ووعدته بإقناعها، نادى عبده فخرج، وأمر أمة الله فدخلت الخيمة وحدها، فرأت سيدتها مغمي عليها، فبادرت إلى ركوة من الجلد فيها ماء فرشت سمية به حتى أفاقت، وأخذت في حل وثاقها. فلما رأت سمية جاريتها فوق رأسها تقبلها وتحاول إنعاشها، ارتدت روحها إليها، وسمعت أمة الله تقول لها بصوت منخفض: «ماذا فعلت بنفسك يا سيدتي؟ ما هذا الذي أرى؟!»
فعادت سمية إلى البكاء وقالت: «أتسألينني يا أمة الله عما ترينه! لقد مات حسن، قتله الظالمون - قبحهم الله.»
فقطعت أمة الله كلامها ووضعت يدها على فمها وهمست في أذنها وقالت: «اخفضي صوتك لنتدبر الأمر بالحكمة؛ لأن العنف لا يجدي.»
قالت سمية: «دعيني يا أمة الله، فإني لا أريد الحياة بعد مقتل حبيبي ومنية فؤادي حسن. لقد قتلوه لعنهم الله! ليتهم قتلوني عوضا عنه.»
فتقطع قلب أمة الله حزنا على سيدتها، ولكنها كانت عاقلة حكيمة صاحبة دهاء، فتجلدت وقالت: «من قال لك إنهم قتلوه؟»
قالت: «أتسألينني؟ أما رأينا معا جمله مكسورا مهجورا؟ وهبي أن ذلك لم يكن يدل على قتله فما قولك وقد أخبرني بقتله أبي الظالم الخائن، وعرض على أن يريني جثته رأي العين؟ هل بعد ذلك من شك؟ وهل تلومينني إذا ندبت حياتي ونحت على شبابي؟ وهل ترين سبيلا إلى راحتي غير الموت؟!»
فقالت الجارية: «إن أمر القتل لا يمكن أن نعده يقينا حتى الآن، وليس يخفى عليك رغبة أبيك في تزويجك بالحجاج، فلعله ادعى أن حسنا قتل لكي يحول قلبك عنه، ومع ذلك فإن قتلك نفسك أمر مستدرك ولا يجوز لك ذلك إلا بعد أن تتيقني أنهم قتلوا حبيبك، فعليك أن تصبري، ثم إذا لم يفتح الله عليك بابا للفرج ورأيت الحجاج أوشك أن يبلغ مرامه منك، فليس أسهل من أن تقتلي نفسك بتجرع السم قبل وصوله إليك.»
قالت: «ومن أين آتي بالسم؟»
قالت: «أنا آتيك به، فاشترطي على أبيك أن أكون في خدمتك، وأنا أهيئ لك السم، ومتى تحققت انقطاع الأمل، أسعفتك به، وتجرعت منه معك، أما الآن فدعي العناد وتظاهري بالرضا، ولا يبعد أن يفتح علينا قبل وصولنا إلى هذا المعسكر، أو قبل وصولنا إلى مكة، أو لعلنا نجد حسنا في الطريق فتذهبين إليه. وليس يليق بك أن تطلقي لنفسك عنان اليأس؛ إذ ماذا يكون الشأن إذا قتلت نفسك وكان حسن لا يزال حيا.»
فلما سمعت سمية كلام أمة الله أحست بانشراح صدرها وارتاح بالها وعادت إليها الآمال. والإنسان سريع الرجوع إلى الأمل لأن طبيعة الوجود تبعده عن اليأس، وحب ذاته يهون عليه الرجوع عن الانتحار حبا في البقاء، ويندر أن يرتكب أحد جريمة الانتحار بعد إعماله الفكرة والتبصر. وما لبثت سمية أن استحسنت رأي جاريتها فقالت لها: «افعلي ما بدا لك، فأنت تعرفين ما في قلبي، فعسى أن يأتيني الله بالفرج على يدك.»
فسرت الجارية لنجاحها في إقناع سيدتها، ولكنها شعرت بهول الموقف، وكانت ترجح موت حسن. على أنها عمدت إلى الصبر وخرجت إلى سيدها وكان واقفا مع عبده تحت نخلة. فلما رآها أومأ إليها أن تدنو منه، فمشت منحرفة عن موقفه ففهم أنها تريد الاختلاء به، فمشى وحده حتى التقيا. فقالت: «إني رأيت سمية مطيعة لك في كل ما تريد، لكنها استوحشت معاملة قنبر فلا تدعه يخاطبها أو يكلمها، ولا يخفى على مولاي أن من كان في حال سمية لا يؤخذ بالعنف، وقد خاطبتها الآن باللين فرأيتها لانت، ولا بد من جلسة أخرى أتمم بها المراد، فإذا كان لا بد من إرسالها إلى معسكر طارق اليوم فدعني أكن في خدمتها حتى نأتي الحجاج ولك علي كل ما يسرك.»
فاطمأن بال عرفجة وهان عليه إبعاد قنبر عنها، وأطاع أمة الله في إرسالها معها وقال لها: «لا بد من ذهابها إلى خيمة أعدوها لها في معسكرهم ولا آمن أن تسير وحدها، فاذهبي أنت معها وأكدي لها أني لم أفعل ما فعلته إلا رغبة في راحتها.»
فقبلت أمة الله يده وقالت: «بارك الله فيك، ولكن سمية تحتاج إلى إحضار ثيابها وأدواتها.»
فقطع عرفجة كلامها وقال: «كل شيء معد لها في خيمتها بالمعسكر وما عليها إلا الرجوع إليه.»
فقالت أمة الله: «ادخل الآن عليها في الخيمة، وكلمها كلاما لينا.» قالت ذلك ومشت فمشى عرفجة حتى دخل الخيمة فرأى سمية جالسة باكية، فدنا منها وأمسك بيدها وقال: «لقد ساءني ما ألجأتني إليه من الكلام الجافي، ولكني علمت من أمة الله أنك فعلت ذلك بالرغم منك، فانهضي وسيري معها إلى خيمتك في المعسكر، وقد أوصيتها بأن تكون في خدمتك.»
فنهضت سمية مطرقة، فأسرعت أمة الله إلى يد عرفجة وقدمتها إلى سمية وهي تقول: «قبلي يد أبيك ليتم رضاؤه عنك.» فقبلتها. وكان الهودج لا يزال معدا فقبلها وأركبها، وأمة الله معها، وركب هو بغلته وسار أمامهما حتى أوصلهما إلى المعسكر وسلم الجمل إلى عريف الجند، فتسلمه العريف وسار معهم إلى خيمة في بعض أطراف المعسكر. •••
كانت سمية في أثناء الطريق غارقة في هواجسها وقد زال أثر كلام أمة الله عن نفسها. ولما مرت بالمكان الذي كان الجمل المكسور فيه رأت بعض العبيد قد نحروه وأخذوا في سلخ جلده، فتصورت أنهم قتلوا حسنا ونحروا جمله، وعظم عليها الأمر ولكنها تجلدت، وكانت أمة الله تراقب حركاتها خلسة. وبعد هنيهة وصلوا إلى المعسكر، فتحققت سمية أنها وقعت في الشباك، وعز عليها أن تزف إلى رجل فظ غليظ القلب بدلا من حبيبها، فاستوحشت وزاد قلقها - والفتاة إذا زوجوها برجل تعرفه وترضاه لا بد من استيحاشها في أوائل أيامها، إلا إذا كان زواجها عن غرام متبادل، فكيف بسمية وهي ترجح قتل حبيبها ظلما، وترى أن أباها قد باعها لرجل لا تحبه والناس يتحدثون بقساوته وشدته وبأن أمره نافذ لا مرد له!
فلما وصل بعيرها إلى الخيمة المعدة لها أناخوه وأنزلوها وأمة الله معها، ثم دخلتا الخيمة، فرأت سمية صندوقها وفراشها وكل معداتها هناك، فجلست على بساط كانوا قد فرشوه لها، وجلست أمة الله إلى جانبها تحادثها وتلاطفها، وسمية تنظر إلى خارج الخيمة تتشاغل بما تراه من حركات الجند والعبيد والخيل والجمال وهي مستغرقة في الهموم. وكان أشد ما شغل ذهنها أن رأت كلبا ينهش خرقة سوداء ويلاعبها بين يديه فيقذفها ثم يعدو في أثرها عدوه إلى فريسة، وتلك عادة الكلاب إذا لم تكن جائعة، ثم اتفق أن قذف الكلب تلك الخرقة فوقعت بين يديها، فما كاد بصرها يقع عليها حتى أجفلت وخفق قلبها ومدت يدها إليها ففر الكلب من أمامها.
فأمسكت الخرقة بأنملتين ورفعتها وتفرست فيها فإذا هي ملوثة بالدم. وما لبثت أن قلبتها وصاحت: «ويلاه هذا هو القباء. هذا قباء أبي قتل حسنا به!»
فتناولته أمة الله من يدها وقد عرفته، ولكنها راحت تغالط سمية لتخفف عنها فقالت: «كيف عرفت أنه قباؤه والأقبية تتشابه؟»
فقطعت سمية كلامها وقالت: «قد عرفته من هذا الوشي على هذا الكم فإنني طرزته بيدي وأنا أعلم الناس برسمه.» قالت ذلك وشرقت بدموعها ولم تنتظر جوابا من أمة الله وأخذت تبكي وتقول: «قتلوه. لم يبق عندي شك في قتله.»
فقطعت أمة الله كلامها وقالت: «وما علاقة هذا القباء بقتله؟»
قالت: «ألا تتذكرين أن أبي أهداه إليه يوم عزمه على السفر، وألح عليه أن يلبسه للوقاية من البرد؟ ويل له من مشهد يوم عظيم. لقد ألبسه القباء وأوعز إلى أحد من صنائعه أن يقتله، وكأنه اتخذ القباء دليلا عليه فأصابوا غرضهم منه، وهذه هي بقية القباء وعليها الدم. فهل من بعد هذا شك في أنهم قتلوه؟ وما العمل؟ كيف أسلم نفسي إلى قوم قتلوا حبيبي؟» قالت ذلك وغصت بريقها.
فقالت أمة الله: «سلمي أمرك إلى الله ولا تيأسي من رحمته، واعلمي أن ما يقدره الله واقع. فاصبري والله مع الصابرين.»
فلم تر سمية غير الصبر فصبرت نفسها. والمرء قبل وقوع المصيبة يتوهم أنها إذا وقعت يستحيل عليه احتمالها، وقد يتوهم ذلك أيضا أهله وذووه، ولكنه متى وقعت لا يعدم سبيلا لاحتمالها والصبر عليها، وأمثال هذه الحوادث كثيرة نراها كل يوم. فلا غرو إذا صبرت سمية بعدما تحققته من مقتل حبيبها.
وفي أصيل ذلك اليوم نودي الجند: «الخيل الخيل.» فركبوا بعد أن قوضوا الخيام، وساروا والفرسان في مقدمتهم وأصحاب الرايات بينهم وفيهم رؤساء القبائل يحيطون بطارق بن عمرو، وكلهم بلباس أهل البادية إلا هو فإنه لبس درعا فارسية كان قد جاء بها من العراق.
أما سمية فحملوها على هودج ومعها خادمتها، وكان يقود الجمل عبد، ويسوقه عبد، وإلى كل من الجانبين حارس على هجين. وكان طارق يتردد على الهودج يتعهده ويسأل أهله هل يحتاجون إلى شيء. ثم يركض فرسه إلى أطراف الجند ويتفقده ويدير شئونه. •••
فلنترك سمية في هودجها تفكر في مصيرها ولنرجع إلى المدينة للبحث عن عبد الله خادم حسن فقد تركناه راجعا من بيت سكينة بعد أن أوصل سمية إليه. ثم أخبرت أمة الله سمية أنه جاء إلى المنزل للسؤال عنها فلم يجدها فرجع على أعقابه.
وكان عبد الله لما رجع من بيت سكينة قد أسرع لملاقاة سيده خارج باب المدينة، وهو قلق لما سمعه من حديث سمية مع حسن في تلك الليلة، وتصور ما يحدق بسيده من الأخطار، فسار وهو يفكر في الأمر، ونسي نفسه فأخطأ الطريق وخرج من غير الباب الذي خرج منه حسن، ثم سار من طريق آخر يؤدي إلى الجهة الأخرى. وكثيرا ما يتفق ذلك في مثل هذه الحال فيتجه الرجل شرقا وهو يرى أنه يسير غربا. وبعد أن سار ساعة وهو لا يرى راكبا ولا يسمع صوتا وقد اشتد الظلام وقف ونظر إلى ما حوله فإذا هو بين النخيل لا يتبين الطريق ولا يدري أين هو، ولكنه لم يكن له علم بطريقة الاستدلال بالكواكب، فحول سيره إلى جهة أخرى، ولكنه لم يصل إلى المكان المقصود، على أنه كان كلما بعد عن المدينة استدل عليها ببعض ما يبدو فيها من الأنوار فيرجع إلى جوارها. وحدثته نفسه بدخولها ولكنه خاف أن يكون سيده في انتظاره ببعض ضواحيها، ثم بدا له أن سيده ربما قد عاد إلى بيت سمية لسبب ما، فرجع إلى المدينة وجاء منزل عرفجة فلم يجد سمية هناك كما تقدم، فعاد إلى خارج المدينة وقضى ليلته في هذا الاضطراب.
وقبل الفجر سمع جعجعة جمل يتألم فولى وجهه شطر جهة الصوت، وقد خيل إليه أنه جمل سيده، فاستأنس به، وأخذ ينادي الجمل بما تعود أن يناديه به من الأسماء والأصوات فازداد الجمل جعجعة ولكنه بقي في مكانه حتى بلغه عبد الله فعرف أنه جمل سيده حقا غير أنه لا يستطيع النهوض كأنه معقور، فغاص عبد الله في الماء حتى دنا منه فأدار الجمل رأسه إليه كأنه يحييه ويستنجده.
ولما تحقق أنه معقور، ولم يجد حسنا عنده، اضطرب وشغل باله، فأسرع إلى الرحل فنزعه عنه، ووقف مدة وهو يفكر فيما عسى أن يكون قد حدث لحسن. واشتد به الاضطراب والقلق. ولم يجد فائدة من أن يسأل عنه في بيت عرفجة؛ لأنه لم يجده هناك بالأمس، وقد خشي إذا سأل سمية عنه أن يزيد في بلبالها. فخطر له أن يقصد إلى المكان الذي باتا فيه ليلة وصولهما إلى المدينة مع ليلى الأخيلية، فسار إليه، ومر أثناء مسيره بمنزل عرفجة فتنسم الأخبار، ولما لم ير أثرا لحسن واصل السير حتى أتى البيت فلم يجد به أحدا، فجلس وقد أخذ التعب منه مأخذا عظيما، ووضع الرحل بين يديه وجعل يفتشه فوجد أسطوانة مختومة وعليها اسم عبد الله بن الزبير فعلم أنها الرسالة التي يحملها حسن إلى مكة. فلما رآها ازداد قلقه وقال في نفسه لو أن حسنا ترك الجمل باختياره لحمل هذا الكتاب معه؛ لأنه إنما جاء هذه الديار من أجله؛ فترجح لديه أنه قتل أو أصيب بمكروه، فقضى نهاره لم يذق طعاما، وأخذ يندب مولاه تارة ويعلل نفسه بلقياه تارة أخرى. ولم يغادر سوقا ولا دربا من دروب المدينة إلا مر به وهو يتفرس في وجوه الناس ويتنسم الأخبار، فلم ير إلا انهماك الناس في إعداد النجدة للحجاج عملا بما حمله البريد إليهم. وبات ليلته بالمدينة وهو يفكر في الأمر، فقر رأيه أخيرا على أن يحمل كتاب خالد إلى عبد الله بن الزبير في مكة فيتم المهمة التي جاء حسن من أجلها، على أن يبحث عنه في أثناء ذلك.
الفصل الحادي عشر
عبد الله بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة، وكان قد رفض المبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي، وخرجا من المدينة إلى مكة، ودعا كل منهما إلى بيعته هو، على أن عبد الله رأى ألا يتظاهر بذلك والحسين في مكة لعلمه أنه أولى منه بالبيعة. فلما كان شخوص الحسين إلى الكوفة ومقتله في كربلاء، خلا الجو لابن الزبير فبايعه الناس واستفحل أمره، وجعل مكة عاصمته، وبايعه أهل الحجاز واليمن، وحاربه بنو أمية ولكنهم لم يبلغوا منه وطرا، فلما كانت خلافة عبد الملك بن مروان، وكان الحجاج يومئذ أحد أمراء عبد الملك، ولهذا ثقة في شجاعته رغب الحجاج في قتال عبد الله، وقص على عبد الملك رؤيا قال إنه رأى نفسه فيها وقد أخذ ابن الزبير وسلخه، وطلب من عبد الملك أن يشخصه لقتاله، فأشخصه في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وأعطاه كتاب أمان إلى ابن الزبير ومن معه إن أطاعوه، وأوصاه بأن يرفق بالكعبة.
فسار الحجاج سنة 72ه. وحدثت بينه وبين ابن الزبير مناوشات لم يتم الفوز فيها لأحدهما، فمل الحجاج، وأرسل إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم وحصر ابن الزبير، فأذن له وأنجده بخمسة آلاف آخرين، فاشتد بذلك أزر الحجاج، وحاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق. فعظم ذلك على المسلمين وأنبوه، ولكنه أصر على رأيه. وطال الحصار على أهل مكة حتى قل زادهم وأصابهم جوع شديد. وكانت مكة يومئذ قليلة العمار ليس فيها غير المسجد وفي وسطه الكعبة وبعض الأبنية، وكانت الكعبة قد تهدمت في حصارها قبل قدوم الحجاج فأعاد ابن الزبير بناءها على أوسع مما كانت عليه.
ونصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس المشرف على مكة من جهة الشمال والشرق.
وكان ابن الزبير مقيما مع أهله بالمسجد الحرام، ومعه جماعة من رجاله قد بايعوه حتى الموت وصبروا معه صبر الرجال. وأما الحجاج فكانت خطته أن يستمر في تضييق الحصار على عبد الله، وبعث بسراياه يطوفون حول مكة يمنعون الدخول إليها والخروج منها. ولما طال أمد الحصار دون أن يستسلم المحاصرون استنجد الحجاج طارقا أمير المدينة كما تقدم. •••
ولنرجع إلى حسن وقد خرج من المدينة على جمل أهداه إياه أبو سليمان، ومعه العبد بلال. وبعد مسيرة أيام أشرفا على مكة عند الغروب فرأياها محاطة بشراذم من الفرسان يطوفون حولها. فقال بلال: «إني أرى الطلائع الأموية حول مكة، ولا آمن إذا واصلنا السير أن يمنعونا، فهل تأذن لي في الخروج إليهم للاستطلاع ثم أعود إليك؟»
فوافقه حسن على ذلك، وأوصاه بالرجوع إليه عند حائط انتظره فيه بعيدا من الطريق العام.
وسار بلال، واتجه حسن إلى ذلك الحائط، وهو من آثار بناء قديم هناك، وترجل وعقل جمله وراء الحائط ثم اتكأ بجانبه بحيث لا يراه أحد من المارة. ولبث مدة وقد طاب له الاتكاء لعظم ما قاساه من الجهد في أثناء ركوبه الطويل من المدينة إلى مكة فأحس براحة، ولكنه ما لبث أن رأى الشمس تغرب والظلال تتقلص وبلال لم يرجع. فلما آن العشاء استبطأه وحسب لتأخره ألف حساب، ثم وقف وتسلق الحائط وجعل ينظر إلى الأفق لعله يراه قادما.
وفيما هو في ذلك سمع سعال بلال، فالتفت فرآه قادما يعدو عدو الغزال والأرض رملية لا يسمع وقع الخطى عليها، فلما وصل إليه قال: «لا سبيل لنا إلى مكة الليلة؛ لأن رجال الحجاج مضيقون عليها الحصار من كل ناحية حتى لا يدخلها أحد ولا يخرج منها أحد.»
قال حسن: «وما الحيلة؟ لا بد من دخولنا.»
قال: «ليس لنا يا مولاي إلا أن نصبر إلى الغد؛ لأبحث عن سبيل إلى دخولنا.»
فقال : «أنبقى وراء هذا الحائط إلى الغد؟»
قال: «كلا يا مولاي، فقد دبرت وسيلة أظنها تريحك وتسهل عليك الدخول.»
قال: «وما هي؟»
قال: «أتعرف محمدا بن الحنفية؟»
قال حسن: «كيف لا وهو ابن الإمام علي، وأخو الحسن والحسين من أبيهما؟»
قال: «إن له حرمة عند الحجاج وعند ابن الزبير، فإذا وسطناه دخلنا مكة على أهون سبيل.»
قال: «كيف تكون له هذه الحرمة وهو عدو لابن الزبير ولعبد الملك؛ لأنه يزاحم الأول على الخلافة في الحجاز، ويزاحم الآخر على الخلافة في الشام! ألم تسمع بحديث المختار؟»
فقال بلال: «كيف لم أسمع به؟!»
فقال حسن ولم ينتظر إتمام جوابه: «لقد كان المختار يطالب بالخلافة لمحمد بن الحنفية، ثم قتله مصعب أخو عبد الله بن الزبير المحصور في هذا الحرم الآن، وجاء عبد الملك بن مروان فحارب مصعبا وقتله وأخذ العراق منه.»
قال: «صدقت يا مولاي، ولكن المختار طلب من تلقاء نفسه البيعة لابن الحنفية دون أن يكلفه هذا بذلك ولا أراده، وقد لجأ المختار إلى هذه الخطة تمهيدا لاستقلاله بالأمر لنفسه، وعلى هذا حمل الكرسي المشهور أمره عند الناس، وزعم أنه كرسي الإمام علي، كما ادعى ما يشبه النبوة؛ حتى كرهه الناس ونفروا منه.»
فقال حسن: «هل رأيت ذلك الكرسي؟ وهل تعرف أصله؟»
قال: «إن سر هذا الكرسي عندي، وطالما جلست عليه قبل أن يصبح مقدسا كما ادعى المختار.»
قال: «وكيف ذلك يا بلال؟ إنك والله لواسع الاطلاع.»
قال: «إن الذي يعيش طويلا يرى كثيرا. فقد اتفق لي منذ بضع سنين وأنا في المدينة أني اصطحبت رجلا اسمه الطفيل بن جعدة بن هبيرة، وكانت جدته أم جعدة أخت علي بن أبي طالب. وكان يتردد إلى جار له زيات كنت أتردد إليه أحيانا، فأصيب الطفيل يوما بضيق ولم يبق معه ما ينفقه على نفسه. وكان المختار يومئذ قد قام لمحاربة قتلة الحسين، فأراد الطفيل أن يحتال عليه ليكسب منه مالا، فاشترى من جاره الزيات كرسيا قديما كان مهملا عنده ثم غسله وسقاه الدهن حتى لمع، وذهب به إلى المختار وقال له: «إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره لك؛ إن أبي جعدة كان يجلس على كرسي عندنا، ويروي أن فيه أثرا من علي.» فقال له المختار: سبحان الله لماذا كتمت خبره، ابعث به إلي. فبعث به إليه وقد غشاه بملاءة، فدفع له اثني عشر ألف درهم، فأخذها الطفيل وانصرف، ثم غشي المختار الكرسي بالديباج وزينه بأنواع الزينة، ودعا الناس إلى المسجد حيث أراهم إياه بعد الصلاة وقال لهم: «إن هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي - عليه السلام. وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل.» فصدقوه، وصار إذا حارب خصومه حمل الكرسي معه إلى ميدان القتال وقال لمن معه: «قاتلوا ولكم الظفر والنصر، هذا الكرسي محله فيكم محل تابوت بني إسرائيل، وفيه السكينة والبقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددا لكم» ...»
فقال حسن: «لعلك تعرف ابن الحنفية؟»
قال: «نعم يا مولاي، وقد شهدت كثيرا مما يتناقله الناس من أحاديث قوته البدنية، وأذكر أني رأيته في حياة أبيه علي، وكنت غلاما، وفي يد أبيه درع طويلة فأراد أن ينقص بعض حلقاتها فدفعها إلى محمد وأمره أن ينقص منها كذا حلقة، فقبض محمد بإحدى يديه على ذيلها وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حدده أبوه. وهو يعرفني أيضا.»
فقال حسن: «وماذا ترى أن نصنع الآن؟»
قال: «إن ابن الحنفية مقيم الآن بالشعب في جوار مكة، فإذا شئت نزلنا عنده الليلة ثم نرى ما يكون في الغد.»
فقال: «وهل تعرف الطريق إليه؟»
قال: «عرفته في أثناء غيابي عنك الآن، وقد أوصاني بك مولاي أبو سليمان خيرا أراك أهلا له ... فأنا خادمك حتى تبلغ مأمنك.»
فقال حسن: «بورك فيك.» وأخذ يهيئ رحله للركوب وبلال يساعده ويقول: «إني أرى مكة في ضيق شديد، وأخاف على ابن الزبير من عاقبة هذا الصبر، فإن الأمويين غالبون آخر الأمر على ما أرى.»
فتذكر حسن ما هو قادم لأجله وخاف الفشل، ولكنه صبر ريثما يدخل مكة في الغد.
سار حسن وبلال حتى أتيا أرضا صخرية مشيا بين شقوقها، ثم صعدا تلالا أشرفا منها بعد قليل على شعب بعيد أوقدت به نار لهداية الضيوف كما هي العادة عند العرب. وهم حسن بأن يسأل بلالا فإذا بهذا يقول له: «إننا على مقربة من الشعب. وعما قليل تبدو لنا الخيام ونسمع صهيل الخيل، فهل تريد أن ننزل في دار الأضياف رأسا أم نقصد خيمة محمد نستأذنه ونخاطبه في أمر دخولنا مكة؟»
قال: «أخشى أن يكون في ذهابنا الآن إلى خيمته ما يزعجه، فلنترك ذلك إلى صباح غد.»
قال: «إذن نذهب إلى دار الضيافة؛ فإنهم لا يسألون القادم إليها عن سبب قدومه، ومتى أصبحنا نرى ما يكون. وربما خرجت أنا الليلة لأدبر الأمر.»
فأثنى حسن على غيرته. وبعد قليل لاحت لهما خيام عديدة منصوبة على غير نظام يتوسطها فسطاط كبير عرفا من اتساعه ووقوف بعض الخدم ببابه أنه فسطاط محمد بن الحنفية، فوقف بلال برهة وهو يتفرس في الخيام حتى تبين خيام الأضياف وعرفها من انفرادها عن سواها وقربها من النار. فسارا حتى اقتربا منها فسمعا لغطا وكلاما. ثم ترجل حسن، وسبقه بلال إلى أقرب الخيام فلقيه رجل رحب به وسأله عما يريد، وطلب إليه أن ينتسب، فانتسب، وقال: «إننا أضياف غرباء.» فأنزلهما على الرحب والسعة، وأفرد لهما خيمة ليس فيها أحد. فدخل حسن، وأعطى بلال الجمل لأحد الخدم ليأخذه إلى المعالف، ثم عاد إلى حسن فوجد عنده طعاما أعده القوم، فأكلا، ثم خرج بلال على أن يعود بعد قليل، وتوسد حسن على فراش من جلد فرشوه له، وكان التعب قد أخذ منه مأخذا عظيما فغلب النعاس عليه فنام، ولكن هواجسه لم تنم معه فتحولت إلى أحلام مزعجة رأى فيها أنه دخل مكة وقد دخلها الحجاج وقبض عليه وحبسه وقيده، فشق ذلك عليه وانزعج، ثم أفاق من نومه مذعورا فشكر الله لأن ذلك كان حلما، ولكنه تشاءم وغلب عليه الأرق فجعل يتقلب والنوم لا يأتيه. فأراد رؤية بلال لعله يقص عليه ما يتسلى به ريثما يطلع النهار، وخرج للبحث عنه عند باب الخيمة حيث ظن أنه نام هناك، وناداه فلما لم يجب ظنه مستغرقا في النوم، ثم ما لبث أن تبين أنه لم يعد بعد، وتفرس في النجوم فعلم أنه في الهزيع الأخير من الليل، فقلق على بلال، ثم التف بردائه اتقاء البرد، وخرج ليبحث عنه حول الخيام.» •••
وفيما هو في ذلك سمع جعجعة جمل قادم نحو الخيام فالتفت فإذا هناك جملان على أحدهما ما يشبه الهودج ويقوده رجل ماش لم يستطع تبين وجهه لاشتداد الظلام، فتبادر إلى ذهنه أن رجلا وامرأته وخادمه قادمون للمبيت هناك إلى الصباح. ولكنه استغرب مسيرهم في أواخر الليل بجوار مكة وهي في حصار شديد. فعاد إلى خيمته وفي نفسه أن يستطلع حقيقة القادمين، فجعل ينظر من شقوق في الخيمة تطل على الطريق، فرأى أن الجملين قد أنيخا ونزل راكب أحدهما وهو رجل قصير القامة، ملثم بعمامته وقد التف بعباءته. ثم رأى الرجل الذي كان ماشيا يقود الجمل فإذا هو عبد كبير الجثة سريع الحركة، تسلم جمل الراكب الأول وعقله بجانب الجمل الآخر وهو يقول: «أترى يا مولاي أن أبقى هنا مع الجملين، أم أسير في خدمتك؟»
فرد عليه الرجل بصوت منخفض قائلا: «امكث أنت هنا واحتفظ بما على الجمل فإنه أعز شيء عندي كما لا يخفى عليك.»
قال: «هل أسير في خدمتك إلى خيمة الأضياف؟»
قال: «لست ذاهبا إلى هناك، فامكث أنت هنا ريثما أعود إليك.» قال ذلك ومشى.
وكان حسن يتوقع أن يرى زوجة الرجل الأول تنزل من الهودج، ولكنه رآه ما زال مجللا بغطائه، ثم رأى العبد عاد إلى الجمل الذي يحمل الهودج وجلس بجانبه مستندا إلى بطن الجمل، وما لبث أن نام نوما عميقا وعلا شخيره. فاستغرب حسن ما رآه، وكان قد تعب من الوقوف، فعاد إلى فراشه وفكره مضطرب. وبعد أن جلس قليلا عاد إلى باب الخيمة للبحث عن بلال وقد ازداد قلقه لغيابه، فأطل برأسه من الباب وتلفت يمنة ويسرة فلم يجد أحدا ، وحال الظلام بينه وبين الأشباح البعيدة فعاد إلى فراشه وقد أحدقت الهواجس به، فحدثته نفسه بأن يخرج إلى ذلك العبد ويسأله عن سر الهودج، ولكنه أحجم وقال في نفسه: «لو كان بلال هنا لكلفته بهذه المهمة.»
وفيما هو في ذلك سمع وقع أقدام خارج الخيمة تقترب من بابها، فأدرك أن بلالا قادم، ولم يشأ أن يناديه لئلا ينتبه العبد الآخر النائم بجانب الجمل. فوقف ومشى إلى الباب، فرأى بلالا يهم بالاتكاء، ورآه بلال فوقف وقال: «ما الذي أيقظك في آخر الليل يا مولاي؟»
قال وهو يشير إليه أن يخفض صوته: «لقد استيقظت من زمن فقلقت لغيابك، ثم رأيت بعض الناس حطوا رحالهم وراء خيمتنا، وظهر لي من أمرهم ما أقلقني.»
فقال بلال: «وما الذي تبغيه منى فأفعله، إني رهن إشارتك.»
قال: «هل مررت من وراء هذه الخيمة؟»
قال: «كلا وإنما جئت من هنا.»
قال: «تعال إذن.» وأمسكه بيده فأدخله الخيمة وأراه الجملين والعبد النائم تحت الهودج، وقص عليه ما كان من أمرهم إلى أن قال: «فهل تستطيع مخاطبة هذا العبد لتعرف منه الغرض من قدومهم؟»
قال: «ذلك شيء يسير.» ثم خرج من باب الخيمة ودار حتى دنا من الجملين وحسن ينظر إليه من شق الخيمة فرآه يقترب من العبد رويدا رويدا حتى دنا منه وتفرس في وجهه والعبد نائم ثم انكفأ راجعا مسرعا حتى دخل الخيمة، فبادره حسن سائلا: «لماذا لم تخاطبه؟!»
قال: «لأني أعرفه وأعرف حكايته.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «اجلس لأقص عليك ما يغنيك عن كثرة البحث: لقد نمت أول الليل بباب هذه الخيمة ولكنني ما لبثت أن استيقظت وأخذت أفكر في حيلة نستطيع بها مقابلة محمد غدا حتى لا يطول مكثنا. وخفت أن يكون علينا بأس إذا عرفوا مدخلنا ومخرجنا وغرضنا فرأيت أن أذلل العقبات وأنت نائم، فنهضت وسرت إلى رجل من المقربين إلى الأمير كنت قد عرفته أيام كنا بالمدينة ولي عليه دالة. فلقيت الرجل في خيمة له بقرب خيمة ابن الحنفية وبينهما طريق مفتوح، يدخل عليه صاحبي منه من باب خاص دون سائر الناس، فلما أتيته رحب بي وأكرمني وسألني عن أمري، فقلت له إننا جئنا نلتمس من الأمير وسيلة ندخل بها مكة. فوعدني خيرا ثم أجلسني وجعل يسألني عن حوادث مرت بنا قديما وأمور يهمه الاطلاع عليها، وكلما هممت بالنهوض أقعدني حتى طال بي الجلوس. وبينما أنا أهم بالنهوض سمعنا وقع أقدام خارج الخيمة على غير انتظار فأقعدني صاحبي وخرج وهو يقول: «من الرجل؟» وسمعت من يجيبه قائلا: «أنا عرفجة.» ولما كنت أعرف رجلا اسمه عرفجة كان يتردد على عامل المدينة وكثيرا ما رأيته في دار الإمارة خرجت لأحقق أمره فرأيت الرجل ملثما ولكنني عرفت أنه هو صاحبي هذا من صوته وقامته.»
وهنا تذكر حسن أن الصوت الذي سمعه لما أناخ الرجل الجملين يشبه صوت عرفجة، فبغت واستغرب مجيئه في هذا الليل، وتبادر إلى ذهنه أنه ربما علم بقدومه فجاء للوشاية به لدى ابن الحنفية، ولكنه استبعد ذلك لعلمه أنه ليس على وجه البسيطة رجل عرف بخروجه من المدينة غير سليمان وأبيه وخادمه بلال. ثم على فرض أن عرفجة عرف بمسيره إلى مكة فكيف يعرف أنه في هذا الشعب؟! ولكن إذا كان هو عرفجة فمن عسى أن تكون التي جاءت معه في الهودج؟ إنه غير متزوج وليس عنده من النساء إلا ابنته سمية، فهل هي التي في الهودج؟ وخفق قلبه وتصاعد الدم إلى وجهه. كل ذلك وبلال واقف بين يديه ينتظر إشارته لإتمام حديثه.
فقال حسن: «هل عرفت الغرض من قدوم هذا الرجل في هذا الليل؟»
قال: «كلا يا مولاي؛ لأني رأيته يحدث صاحبي همسا فرأيت أن أنصرف لأخلي لهما المكان. ولما استأذنت صاحبي ناداني إليه وقال: «موعدنا غدا إن شاء الله.» فعلمت أنه لا يزال على وعده فأتيت وآثرت النوم بباب الخيمة إلى الصباح.»
فقال حسن: «وما الذي عرفته من أمر العبد النائم بجانب الجمل؟»
قال: «عرفت أنه قنبر خادم عرفجة، وهو عبد سمج الخلق فظ الطبع يعرفه كل أهل المدينة.»
قال حسن : «وما ظنك بمن في الهودج؟»
قال: لا أظنه هودجا وإنما هو محفة. ولا يبعد أن يكون فيها بعض النساء أو ربما كانت فيه ابنته سمية لأنه ليس له سواها.»
فلما سمع حسن اسم حبيبته تجددت أشجانه، وتذكر أن بلالا لا يعلم شيئا من أمره مع سمية، فضاقت نفسه عن كتمان سره ولكنه تجلد وقال: «أتظنه يحمل ابنته معه إلى هنا في مثل هذه الظروف؟»
قال: «لا أخاله يفعل ذلك، وهب أنه حملها فلا أظنه يبقيها محبوسة لا نسمع لها صوتا، ولا سيما أن المحفة ضيقة لا تكفي لكي تنام فيها.»
فاطمأن قلب حسن على سمية ولكنه بقي مشغول الخاطر بأمر المحفة، وهم بأن يعود إلى سؤال بلال في شأنها، فإذا بهذا يبتدره قائلا: «ليس في المحفة فتاة ولا امرأة، فقد تذكرت الآن أن لهذا الرجل محفة قد احتفظ بها في منزله لا يطلع أحدا على ما فيها، وأهل المدينة مشتاقون لمعرفة سرها. فلعلها هي هذه.»
فازداد حسن شوقا إلى معرفة سر المحفة، ولكن القلق عاوده من جهة ما حمل عرفجة على القدوم في هذا الليل، فقال بلال: «متى نذهب إلى ابن علي؟»
قال: «عند طلوع الشمس.»
فعاد حسن إلى فراشه، واضطجع بلال بباب الخيمة. وقضيا ما بقي من الليل بين نوم وتقلب وهواجس، ولما طلع النهار نهضا وخرجا فما كاد حسن يلتفت إلى موضع الجملين وراء خيمته حتى بغت إذ لم يجد لهما أثرا، وظن أن عرفجة قد سافر.
وواصلا سيرهما بين الخيام، وهي على مرتفع من الأرض متشعب، به للخيل والجمال مسارح وقد خرج الخدم ليقدموا لها علفها. فلما بلغ خيمة محمد، وكانت رحبة عالية قائمة على عمد عديدة، رأيا بابها مسدلا فعلما أن محمدا في شاغل، فتحولا إلى خيمة صاحب بلال وهي ملتصقة بها، فلما دخلا عليه رحب بهما وأدخلهما وهو يشير ألا يتكلما، فدخل حسن ونظر من كوة في الخيمة تطل على خيمة الأمير فرأى محمدا جالسا وبين يديه رجل قصير القامة عرف أنه عرفجة، فقال في نفسه هذه فرصة لا ينبغي أن نضيعها ويجب أن نطلع على سر هذه المقابلة. وتفرس حسن في محمد فإذا هو كبير الوجه وقد بانت ملامح الشيخوخة وهو لا يزال كهلا، ولكنه كان يخضب لحيته بالحناء والكتم فلا يظهر فيها الشيب، على أن دلائل القوة لا تزال ظاهرة في كفيه ووجهه وعينيه.
وخاف حسن أن يكون في تطلعه هكذا ما يؤاخذ به صاحب بلال، فأراد أن يعتذر فتظاهر بالرغبة في الخروج فقال له الرجل: «تفضل يا مولاي واجلس فإني أحب الاطلاع على غرض هذا الرجل من هذه المقابلة السرية التي يزعم أنها ذات بال، ولقد ساءني بخشونته حتى صرت لا أبالي كتمان سره.»
فنزل هذا القول بردا وسلاما على قلب حسن، وفرح لتمكنه من نيل بغيته، ولكنه تظاهر بعدم اكتراثه للاطلاع على السر، وجلس بحيث يرى ولا يرى، فرأى عرفجة جالسا بين يدي ابن الحنفية ويخاطبه متهيبا، وسمعه يقول له: «أنت تعلم أيها الإمام أنك أولى الناس بهذا الأمر بعد الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة. إن الخلافة بعدهما لك فأنت وحدك ولي هذا الأمر وليس بنو أمية سوى معتدين.»
وظل محمد صامتا لا يتكلم، فظنه عرفجة راضيا بما يقول، فاستأنف الكلام قائلا: «وأنت تعلم يا مولاي أن المختار قام بالدعوة لبيعتك، ولكنه لم يثبت على عهده فلم يوفقه الله، كما نعلم أن السر الذي كان يستعين به على بث الدعوة جدير بأن يقوم به من تندبه لذلك.»
وظل محمد صامتا مطرقا كأنه يفكر في أمر آخر، في حين مضى عرفجة في حديثه فقال: «ولا يخفى على مولاي الإمام أن بني أمية الآن في شغل بعبد الله بن الزبير، وأكثر جندهم منهمكون في حصاره، والعراق خال ممن يدعو أهله إلى الحق، فإذا ندبت أحدا وسيرته إلى العراق ليدعو إلى بيعتك كان ذلك من سداد الرأي.»
فرفع محمد رأسه وقال: «إن الفشل لم يأتنا إلا من العراق، ففيه قتل أبي وأخي غدرا وخيانة.»
فزحزح عرفجة نفسه على البساط وقال: «إن السبب في ذلك الفشل لم يبق منه شيء الآن. وإني أرى السبل قد تمهدت والوقت دنا لظهور الحق.»
فقال محمد: «ومن تراه يليق لهذه المهمة؟»
قال: «إنك أنت الذي ستضع سرك بين يديه وتعهد إليه في النداء بصوت الله، فأمر اختياره إليك.»
قال: «وبمن تشير؟»
فسكت عرفجة وأطرق، وكأنه يخشى أن يصرح بترشيح نفسه لهذه المهمة لئلا يساء الظن به ثم قال: «إن هذا الانتداب لا يكون إلا بإلهام من الله، فاختر من يلهمك الله اختياره.»
قال: «وإذا لم يلهمني الله؟»
فارتبك عرفجة في أمره وتهيب التصريح له بغرضه. وكان غرضه الأول من هذا الأمر كسب المال فباع بنته للحجاج وجاء لنصرة عدوه.
وكان محمد بن الحنفية يومئذ على الحياد وقد طلب الحجاج منه أن يبايع لعبد الملك، وطلب منه ابن الزبير أن يبايع له، فأبى البيعتين ولبث في انتظار ما يكون من أمر مكة وحصارها؛ وذلك لأنه كان عاقلا لا يجهل عجزه عن القيام بدعوة جديدة إلى بيعته هو بعد ذلك الفشل. على أنه ظل يساير عرفجة وهو لا ينوي ترك الحياد.
أما عرفجة فلم ير بدا من الإجابة فقال: «إذا لم تلهم اختيار أحد لهذه المهمة فاختر صاحب الكرسي.»
فقال محمد: «وأي كرسي؟»
فنهض عرفجة وتحول إلى باب الخيمة ونادى قنبر عبده، ثم رجع، وبعد هنيهة دخل قنبر وعلى كتفه المحفة وعليها ستار، فوضعها بين يدي محمد وخرج. فقال محمد لعرفجة: «ما هذا؟»
قال: «هذا تابوت العهد!» ثم أخرج مفتاحا ورفع الستار عن المحفة وجعل يعالجها بالمفتاح حتى فتحت فرفع سقفها وحسن ينظر ويتطاول بعنقه وهو يعجب من غدر عرفجة وخبثه. ثم ما لبث أن رآه مد يده إلى داخل المحفة وأخرج شيئا مغشي بالديباج فرفع الديباج عنه فإذا هو كرسي خشبه يلمع كالمرآة.
وتقدم عرفجة بالكرسي حتى وضعه بين يدي محمد وهو يقول: «أليس هذا كرسي الإمام علي الذي انتصر به المختار؟»
فابتسم محمد وقال: «ولكنه فشل بعدئذ.»
قال: «لقد فشل لأنه لم يخلص النية في سعيه.»
فقال محمد : «وهل تخلص أنت النية إذا ندبناك لهذه المهمة؟»
قال وقد بان السرور في وجهه: «كيف لا، وهذه بغيتي وأكون قد نصرت الحق وأهله؟!» •••
عجب حسن لقبول محمد هذا الأمر ولكنه ما لبث أن سمعه يقول لعرفجة: «ولكن دعوة أهل العراق تحتاج إلى المال؛ لأن بني أمية إنما غلبوا أخوي بالمال، وسيغلبون اللائذ بالكعبة بالمال أيضا، فإن ديارهم غنية وعندهم المال كثير ينفقونه في ابتياع الأحزاب والأتباع. فإذا كنت صاحب مال فإني أرجو لك النجاح.»
فلما سمع عرفجة كلام محمد سقط في يده، وخاب ما أمله، ولم يدر بماذا يجيب. ولكن محمدا لم ينتظر جوابه فقال له: «إن هذا الكرسي الذي تزعم أنه كرسي أبي ليس سوى كرسي قديم لأحد الزياتين. وقد زعمت أني ندبت المختار ليدعو إلى بيعتي، وهذا وهم باطل لأن ذلك الثقفي إنما ندب نفسه لتلك المهمة ليشبع بطنه. فإذا كنت أنت جائعا فالتمس بابا آخر غير هذا!» قال ذلك وقد ظهر الغضب والجد في وجهه.
فارتبك عرفجة وتحقق ضياع أمله بعد أن قضى بضعة أعوام في تنميق ذلك الكرسي وصقله، وكتمان أمره عن أهل المدينة. وكان لا يشك في أنه إذا عرض الأمر على محمد بن الحنفية وجد منه قبولا، وبذلك يبتز منه المال ليشبع مطامعه وشرهه، ويضيف ذلك المال إلى ما قبضه ويقبضه مهرا لابنته من الحجاج.
وكان عرفجة من أصحاب الإحساس الأصم والعواطف المائتة، لا يحجم عن عمل مهما يكن خطيرا، إذا وجد فيه ما يشبع نهمه إلى المال، فلما تبين الغضب في عيني محمد عمد إلى الخديعة؛ فوقف بين يديه وهو يظهر الاستغراب وقال: «لقد عجلت يا مولاي بالحكم علي، وأنا إنما أدعوك إلى أمر عائدته لك ولأهل بيتك، ولا ألتمس على ذلك أجرا ولا شكورا.»
فقطع محمد كلامه وهو ينظر إليه شزرا وقال: «أتظن أمرك يخفى علي؟ لقد قرأت المكر والخديعة في عينيك. ولولا حرمة الجوار لألحقتك بالمختار وألحقت بك بني ثقيف!» ثم نادى: «سعيد.»
فنهض صاحب بلال وهو يكاد يطير من الفرح ، وأسرع حتى دخل على محمد، وحسن وبلال ينظران وقد غلب عليهما السرور.
فلما وقف سعيد بين يدي محمد قال له: «ألق هذا الكرسي في النار، وأخرج هذا الثقفي من خيمتي، وليقم حيثما يشاء، وإذا رحل فزودوه بما يحتاج إليه.»
فلما سمع عرفجة ذلك خرج من تلقاء نفسه وهو يظهر الأسف، وتبعه سعيد حتى خرج من الفسطاط، فوجده يبحث عن عبده قنبر، فلما لم يجده التفت إليه وقال: «إني راحل إلى بلدي وقد أسفت لأن الإمام محمدا لم يفهم مرادي.» قال ذلك متلطفا خوفا على حياته. فعجب سعيد للفرق العظيم بين هذا التزلف وبين مقابلته الخشنة ساعة وصوله بالأمس - وذلك شأن أهل الكبرياء يستبدون بالضعفاء من الناس، فإذا لقوا قويا استولى عليهم الذل وصغرت نفوسهم؛ لأن ما كان يبدو من كبريائهم واستبدادهم لم يكن عن نفس كبيرة وإنما ضعف رأي وصغر نفس.
وكأنما رق قلب سعيد لتزلف عرفجة، فعرض عليه النزول في دار الأضياف فاعتذر برغبته في الرجوع، وكان قنبر قد عاد فناداه وأمره بإعداد العدة للرحيل، ثم ركب عرفجة جملا وقنبر الجمل الآخر وخرجا من الشعب يلتمسان معسكر الحجاج. فلما بعدا عن الخيام أخذ عرفجة يتوعد محمدا بالسوء عند الحجاج ويذكره بكل قبيح من الشتم والسباب ليستر ما بدا لعبده من فشله.
أما سعيد فإنه عاد إلى فسطاط محمد وتناول الكرسي وألقاه في النار وعاد إلى حسن وبلال في خيمته فأخبرهما بخروج عرفجة من الخيام، وهنا عاد حسن إلى التفكير في دخول مكة فسأل سعيدا في ذلك فأجاب بقوله: «سألت مولاي الإمام في هذا الشأن فأمر بذهابي معكما؛ لأني تعودت الذهاب على مكة خلال الحصار وأكثر الطلائع يعرفونني.» قال ذلك ودخل على محمد يستأذنه في الذهاب معهما، فأذن له.
وعاد سعيد إليهما بالإذن فخرجا إلى دار الأضياف ليتأهبا للسفر، وبعد قليل جاءهما سعيد على جواد، فركبوا وساروا يلتمسون مكة من طريق يعرفه، والشمس قد تكبدت السماء. •••
وفيما هم يسيرون وحسن يفكر في مهمته وكيف يدخل على عبد الله بن الزبير وليس معه كتاب خالد، رأوا غبارا يتصاعد في الأفق من جهة طريق المدينة، ثم انقشع الغبار عن أعلام تخفق وخيول تركض وجمال تجعجع، فلما اقترب الركب تفرس حسن في الأعلام والناس، فأدرك أنهم من أنصار بني أمية وأنهم قادمون من المدينة بنجدة الحجاج.
ولكنه استغرب وصولهم في ذلك اليوم مع أنه أقلع قبلهم، والسيارة كلما زاد عددهم ثقلت خطواتهم، فظن نفسه مخطئا في حكمه عليهم فأعاد النظر إلى الرايات والملابس فتحقق أنها لأهل المدينة والقبائل القاطنة بجوارها، وعلم من عظم السرعة التي مشت بها تلك الحملة ما يدل على اضطرار الحجاج إليها. فترجل حسن ورفيقاه والتجأوا إلى مكان يرون الركب منه ولا يراهم أحد، وجعل يتفرس في وجوه الناس.
ومر الفرسان وحملة الرايات أولا، ثم تبعهم المشاة، فأحمال الزاد والمئونة.
وأخيرا رأى هودجا يقوده عبد ويسوقه عبد وإلى كل من جانبيه فارس. ولم ير في تلك الحملة هودجا غيره وكان من عادة العرب في الجاهلية وأوائل الإسلام أن يحملوا معهم النساء والأولاد حين يخرجون إلى القتال. فاستغرب حسن أمر هذا الهودج وتبين من الاحتفاء بأمره أنه لبعض الأمراء. وما درى أنه يقل حبيبته التي سلبت لبه وأنهم يحملونها إلى سواه. ولو درى ذلك لطارت نفسه شعاعا إليها. ولو صح ما قاله الشعراء من تواصل القلوب عن بعد لاضطرب حسن وخفق قلبه ودله على ساكنة الهودج.
وظلوا وقوفا يراقبون مسير تلك الحملة حتى رأوها اتجهت إلى جبل أبي قبيس، فتحققوا أنها نجدة المدينة إلى الحجاج، لعلمهم بأن الحجاج مخيم هناك.
الفصل الثاني عشر
رمي الكعبة بالمنجنيق
سار حسن وصاحباه حتى أقبلوا على مكة فرأوا الطلائع من الفرسان والهجانة تجول حولها، وجاء إليهم بعضهم، فتقدم سعيد لاستقبالهم وأخبرهم بأنهم ذاهبون في شأن يخص ابن الحنفية، فأذنوا لهم في الدخول.
ونظر حسن إلى جبل أبي قبيس فرأى فيه خياما وحولها الناس وقد صغرت أشباحهم لبعد المسافة. وبعد قليل وصلوا إلى تل فيه بعض المدافن فقال سعيد : «إننا في الحجون.» فوقف حسن على مرتفع ونظر إلى مكة فأشرف على المسجد الحرام والكعبة في وسطه. وكان قد زار مكة من قبل ورأى الكعبة لكنه رآها اليوم أكبر مما عهدها، ورأى على سطحها أشياء غريبة كالفرش والأثاث، فوقف هنيهة يفكر في الأمر، ثم قال لسعيد: «إني أرى الكعبة على غير ما أعهدها فيه، وكأنها اتسعت، وكأن عليها فرشا وأثاثا، وكأن على أرض المسجد خياما! ألست ترى ذلك؟»
فقال سعيد: «لقد صدق ظنك، فالكعبة الآن أكبر مما تعهدها؛ لأنها احترقت في الحصار الماضي على عهد يزيد بن معاوية، فأعاد ابن الزبير بناءها ووسعها إلى ما كانت عليه في الزمن الأول قبل أن تبنيها قريش. وأما ما تراه على سطحها فهو ألواح من الساج وضعها عبد الله هناك ووضع فوقها الفرش والقطائف وقاية لها من حجارة المنجنيق؛ لأن الحجاج نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس وجعل يرمي الكعبة بالحجارة نكاية بابن الزبير.»
فقطع حسن كلامه وقال: «أعوذ بالله! أيرمون بيت الله بالحجارة؟»
فقال: «هذا عمل الحجاج، فإنه رجل ظالم لا يبالي شيئا في سبيل مقاصده، فقد رأيناه يرمي الكعبة بالمنجنيق والناس يطوفون حولها. واتفق في الحجة الماضية أن عبد الله بن عمر حج، وكان مولاي الإمام محمد في جملة الحجاج، فكنا نطوف والحجارة تتساقط علينا، فبعث ابن عمر إلى الحجاج يقول له: «اتق الله واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك في شهر حرام وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرا، وإن المنجنيق قد منعهم من الطواف والسعي.» فلما فرغوا من طواف الزيارة نادى منادي الحجاج: «انصرفوا إلى بلادكم، فإنا نعود إلى رمي الحجارة على ابن الزبير الملحد.» وسمعت أنه أول ما رمى الكعبة بالمنجنيق أرعدت السماء وأبرقت وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم رجاله الأمر وأمسكوا أيديهم. فأخذ الحجاج حجارة المنجنيق بيده فوضعها فيه ورمى بها معهم. فلما أصبحوا جاءت الصواعق فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا فقال الحجاج لرجاله: «يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها ، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا.» فلما كان الغد جاءت الصاعقة فأصابت نفرا من أصحاب ابن الزبير، فقال الحجاج: «ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة وهم على خلافها!» ...»
فعجب حسن لدهاء الحجاج وعتوه وساق جمله حتى نزلوا أسواق مكة فقال لسعيد: «لقد بلغنا مأمننا، فإذا رأيت الرجوع فارجع، جزاك الله خيرا.»
فقال: «بل أوصلكما إلى المسجد فأطوف طوفة وأعود.»
ولما دنوا من المسجد سمعوا صدمة قوية، فقال سعيد: «هذا صوت حجر من حجارة المنجنيق وقع على جدار الكعبة. انظر إلى حمام الحرم كيف تطاير إجفالا من صوت وقوعه.»
وكان حسن قد أحس بالجوع؛ لأنهم خرجوا من الشعب ولم يأكلوا، فقال لسعيد: «بالله ألا أخذتنا إلى أحد باعة الأطعمة فنأكل شيئا!» فضحك سعيد وقال: «إن الأطعمة قليلة في مكة، والناس في ضنك شديد من الجوع، فقد بيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد من الذرة بعشرين درهما، وقد سمعت أن ابن الزبير اضطر لما أصاب رجاله المجاعة أن يذبح فرسه ويقسم لحمها فيهم.» قال ذلك وأدنى فمه من أذن حسن وقال بصوت منخفض: «ولكنني أعلم أن بيوت ابن الزبير مملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا اختزنها خوف المجاعة، ولولا ذلك لما استطاع الصبر على هذا الحصار، والحجاج ورجاله ينتظرون فراغ ما عنده من المئونة ليستسلم.»
فقال حسن: «لا بد من ابتياع شيء نأكله ولو كان غاليا.» وأشار إلى بلال فانصرف إلى السوق وعاد بشيء من خبز الشعير والسويق فأكلوا على عجل، وساروا حتى أتوا المسجد الحرام، فدخل حسن وسعيد إلى المسجد وهما يتظاهران بالرغبة في الطواف، ثم سأل حسن عن ابن الزبير فقيل له: «إنه يصلي بجانب الكعبة.» فسأل: «وأين يذهب بعد الصلاة؟» فقالوا: «إنه يذهب إلى بيته.» ثم دله سعيد على بيت ابن الزبير وودعه وعاد إلى الشعب.
وبعد أن صلى حسن ركعتين وطلب إلى الله أن يرشده إلى الصواب، جلس في بعض أطراف المسجد ينتظر فراغ عبد الله من صلاته، وجعل يفكر في أمر المهمة التي جاء لأجلها، والوقت ليس وقت خطبة ولا زواج. ثم تذكر ما كان من أمر سمية وانتظارها رجوعه ليقترنا، وانتقل به التفكير إلى ما كان من أمر عرفجة في ذلك الصباح، وخيل إليه أن الفشل الذي أصابه سيحمله على العودة إلى المدينة؛ لأنه لا يستطيع الغياب عنها طويلا وليس عند سمية أحد، ولعله يعدل بعد ذلك عن رفضه تزويجها له.
ولاحظ أن من يدخلون المسجد قليلون، ثم ما لبث أن سمع قرقعة وأحس شيئا هوى بالقرب منه وسمع رفرفة أطيار فالتفت فرأى حجرا كبيرا أصاب الكعبة وسقط على الأرض، فعلم أنه من أحجار المنجنيق وقد أجفل حمام الحرم من وقعه فتطاير ثم عاد فوقع على جوانبها وعلى جدران المسجد. ولم ير الناس يهتمون لتلك الحجارة؛ لأنهم ألفوا سقوطها بينهم.
وتذكر أن عبد الله يصلي بجوار الكعبة فاستغرب تعريضه نفسه لحجارة المنجنيق، وخاف أن يكون ذلك الحجر قد أصابه ولا سيما أن وقت صلاته طال، فقلق عليه، ونهض فسار في فناء المسجد يلتمس الكعبة حتى مر بالحطيم وحجر إسماعيل، ودار نحو بئر زمزم فرأى وراء الكعبة من الجهة الأخرى بضعة رجال وقوفا، فأقبل عليهم ليسألهم عن عبد الله، فلما دنا منهم رأى بجانب الكعبة رجلا ساجدا قد استقبل الأرض بوجهه، ورأى على ظهره حمامتين من حمام المسجد كأنهما واقفتان على حائط والرجل لا يتحرك، فخيل له أنه ميت، واستغرب وقوف الناس هناك دون أن يهتموا له. فاقترب من أحدهم وحياه، وسأله ما شأن ذلك الساجد؟ فابتسم الرجل وقال: «ألا تعرف من هو؟! إنه أمير المؤمنين.»
فأدرك حسن أنه عبد الله بن الزبير، وزاد استغرابا وقال: «وما للحمام يقع على ظهره فلا يتحرك.»
قال: «إنك غريب فيما يبدو، فلا تعلم أن مولانا أمير المؤمنين أكثر الناس صلاة وسجودا، وكثيرا ما رأينا الطير على ظهره في أثناء الصلاة تظنه حائطا لسكونه وطول سجوده.»
فقال حسن: «إنه سجود طويل.»
وجاء رجل آخر كان واقفا هناك وقال: «إنكم لا تعلمون من تقوى أمير المؤمنين إلا قليلا. أما أنا فقد صحبته طويلا فرأيته يقضي لياليه على ثلاث: ليلة يقضيها قائما إلى الصباح، وليلة راكعا، وليلة ساجدا. ناهيك بصومه؛ فإنه يصوم الدهر كله إلا ثلاثة أيام يفطرها في كل شهر.»
فدهش حسن وقال في نفسه: «يجدر بمن كان هكذا أن يكتب له النصر.»
وفيما هم وقوف سمعوا صوتا كهزيم الرعد، أدركوا أنه صوب المنجنيق فتنافروا ووقع الحجر على حائط الكعبة وسقط إلى الأرض بجانب ابن الزبير فنفر الحمام عنه وهو لا يزال ساكنا لا يتحرك. فذهل حسن وقال لصاحبه: «ألا تخافون على حياة أمير المؤمنين؟»
قال: «لقد طالما نبهناه إلى ذلك، وكثيرا ما وقع له مثل ما تراه وهو لا يبالي.»
فقال حسن: «أرجو أن يحرسه الله.»
فقال الرجل: «إن الله حارسه لفرط تقواه وكثرة عبادته، وقد وقع هنا في العام الماضي سيل طبق البيت ومنع الناس من الطواف فطاف أمير المؤمنين سابحا!»
الفصل الثالث عشر
فشل ابن الزبير
تأمل حسن في وجه مخاطبه وهو يتكلم والاهتمام باد في محياه لا يدري بماذا يعبر عن منزلة ابن الزبير عنده ولا مقدار حبه له، ورآه موجها نفسه إليه كأنما يتوقع أن يسأله عن ابن الزبير ليشرح له ما يعلمه من تقواه وشجاعته وصدق دعوته. قرأ حسن كل ذلك في عيني الرجل فأدرك أنه من أشد أنصار ابن الزبير غيرة عليه، وتبين له من قيافته وهندامه أنه من وجهائهم. وزاد اعتقادا في وجاهته لما آنسه من لطفه ودعته؛ لأن الإنسان يزداد لطفا ووداعة بازدياد منزلته رفعة، فإذا رأيت جفاء وكبرياء من أحد الناس وأنت لا تعرفه فاعلم أنه دنيء الطبع، ولا عبرة بما قد يكسوه من اللباس الفاخر، ولا بما في خزائنه من الأموال الطائلة.
وبينما حسن يفكر في ذلك ومخاطبه واقف إلى جانبه، سمعا عبد الله ينادي: «أين ابن صفوان؟» ثم رأى الرجل الذي كان يخاطبه بغت وأسرع إلى عبد الله يقول: «لبيك يا أمير المؤمنين.»
ففهم حسن أنه عبد الله بن صفوان الجمحي، وكان قد سمع عن حبه لابن الزبير وتفانيه في نصرته، وهو أصلع في نحو الستين من عمره، عريض الجبهة خشن الملامح عريض الفكين، مما يدل على الثبات والقوة. ثم التفت حسن إلى ابن الزبير وتهيأ للسلام عليه إذا مر بجانبه فإذا هو طويل القامة عريض الكتفين لحيته غزيرة في أسفل ذقنه خفيفة في عارضيه. وتفرس فيه وهو يصلح عمامته عند نهوضه من الصلاة فرأى شعره جمة مفروقة طويلة. وتأمل في وجهه فرأى الهرم قد بدا في ملامحه لفرط ما قاساه من أمر ذلك الحصار وشدة ما أحاط به من الضيق، وهو في الثالثة والسبعين من عمره؛ لأنه أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة.
وهم حسن بالسلام عليه وتقبيل يده، ولكنه رآه اتجه إلى موضع آخر دون أن يلتفت إلى أحد، وأعجب بمشيته الثابتة التي تدل على جلال ووقار، ورأى ابن صفوان يسير في أثره مراعيا إياه بعينيه وكل جوارحه، وفي مشيته عرج، فعلم أنهما سائران إلى البيت، فاقتفى أثرهما وهو يفكر في مخاطبة عبد الله بالأمر الذي جاء من أجله لكنه تهيب واستحيى لما رآه فيه من الاضطراب والضيق، ورأى أن يتحين لذلك فرصة أخرى.
وخرج عبد الله من المسجد وابن صفوان يتبعه وحسن في أثرهما. وكان الناس يقفون في الطريق لتحية عبد الله، حتى أشرفوا على دار واسعة قد غصت بالواقفين من الناس، وخارجها مرابط الخيول والمعالف. فلما أقبل عبد الله على الدار توجهت أبصار الناس إليه ووسعوا له، فاخترق الصفوف وهو مطرق حتى أشرف على مقعد في صدر القاعة فجلس عليه الأربعاء، وجلس إلى يمينه شاب كبير الشبه به. فأدرك حسن أنه أحد أولاده. ثم جاء شابان آخران فجلسا عن يساره، وجلس بقية القوم بين يديه لا يفوه أحدهم بكلمة لفرط ما أحاط بهم من الأمر العظيم، ولبثوا هنيهة كأن على رءوسهم الطير. أما حسن فرأى نفسه غريبا بين هذه الجموع، وهم بالخروج فرأى ابن صفوان يشير إليه من بعض جوانب القاعة داعيا إياه إلى الدخول، فمشى إليه وجلس إلى جانبه وقال له: «يسرني أني عرفتك اليوم وقد طالما سمعت باسمك.» فقال ابن صفوان: «فهلا انتسبت لأعرفك أنا أيضا.»
قال: «سأطلعك على أمري فيما بعد، فلا غنى لي عن معونتك.»
وكانا يتكلمان همسا والناس سكوت، وربما أدرك أحدهم السعال فأمسك عنه. فالتفت حسن إلى ابن صفوان وقال له: «أي أبناء أمير المؤمنين هؤلاء؟»
قال: «إن الذي تراه إلى يمينه هو أخوه عروة بن الزبير. أما الجالسان إلى يساره فولداه حمزة وحبيب، وترى على مقربة منهما شابا مطرقا هو الزبير ولده الثالث، وإن هذا الشاب لجدير بأن يكون ابن أمير المؤمنين.» ثم تهيأ للنهوض قائلا: «لا بد لي من مفارقتك الآن لأمر يدعو إلى ذلك، فإننا في مجلس ذي بال اليوم، وستسمع وترى فإن هؤلاء من قريش وهم رؤساء القبائل.» ثم سار حتى وقف على مقربة من عبد الله فأشار إليه عبد الله أن يقعد.
وبعد قليل، وقف أحد الجالسين وخاطب عبد الله قائلا: «يا أمير المؤمنين، إننا بحمد الله نؤمن بصدق دعوتك وأنك على الحق، وقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقيلا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج.»
فلما سمع حسن ذلك الكلام تحقق ضعف القوم وأنهم صائرون إلى الفشل. ثم سمع ابن الزبير يقول: «ألم تبايعوني على أنفسكم وأموالكم؟»
فقال الرجل: «بلى ولكنا نرجو أن تقيلنا بيعتنا؛ إذ لا نرى فائدة من البقاء عليها.»
فقال عبد الله: «إنني عاهدت الله على ألا يبايعني أحد فأقيله بيعته إلا ابن صفوان.»
فالتفت حسن إلى ابن صفوان فرآه قد وقف بغتة والحمية والغيرة تنبعثان من عينيه وقد ظهر التأثر في وجهه وقال: «أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت ولا أسلمك في مثل هذه الحالة.»
ولم يتم صفوان قوله حتى علت الأصوات وضج الناس، وانقسموا شيعا وأحزابا، وبدا أن أكثرهم لا يرون رأي ابن صفوان. فشق ذلك على حسن ودبت الحمية في عروقه فوقف وقال: «بورك فيك يا ابن صفوان، بورك في رجل بايع وثبت على بيعته، إن أمير المؤمنين كما تعلمون أولى الناس بهذا الأمر؛ وذلك لأن عثمان استخلفه على داره يوم مقتله فهو ولي عهده من ذلك اليوم. وإنكم لتعلمون أنه نعم الخليفة لا تغره بهارج الدنيا. ألا ترون عبد الملك بن مروان كيف يستعين على هذا الأمر بالمال والرجال؟ في حين يستعين أمير المؤمنين بالصوم والصلاة! تلك هي خلافة الراشدين رحمهم الله أجمعين. ألم تسمعوا ماذا فعل عبد الملك يوم جاءه الخبر بالبيعة بعد موت أبيه مروان؟ أنتم تعلمون أن عبد الملك كان من فقهاء المدينة، ولكثرة ما كان يظهره من التدين والتقوى سموه حمامة المسجد، فلما مات أبوه وبشر بالخلافة كان المصحف في يده فأطبقه وقال: «هذا فراق بيني وبينك!» فأين هذا من سجود أمير المؤمنين وصلاته وصيامه مما لا يخفى على أحد. هذا وإن لأمير المؤمنين بيعة في أعناقكم، وأنتم جماعة قريش أهل الحماسة والنخوة، فكيف تغادرون أمير المؤمنين في مثل هذه الحال؟ أما لكم أسوة بابن صفوان؟!»
وكان حسن يتكلم والعرق يتصبب من جبينه وقد امتقع لونه وأيقن أن القوم قد نكصوا على أعقابهم، ولكنه لم يستطع غير الانتصار لما رآه حقا، وكانت الأبصار شاخصة إليه؛ لأنه غريب لم يعرفه أحدهم. وكان عبد الله بن الزبير ينظر إليه ويعجب بغيرته. فلما فرغ من الكلام علت الضوضاء فوقف رجل آخر وقال: «لقد نطقت بالصواب، وإن البيعة في أعناقنا لا ننكرها، وما نحن خارجون من بين يديه إلا بأمره. ولكننا نرى القتال أصبح عبثا، ومعنا من الرجال عشرة آلاف، وقد جعنا جميعا وعطشنا وقلت مئونتنا وذخيرتنا. وهذه منجنيقات الحجاج ترمينا من فوق الكعبة لا يبالي حرمة هذا البيت. وقد نصب لنا الحجاج الآن راية الأمان فمن خرج إليها سلم. فما بالنا لا نختار الطريق الأسلم!» ثم التفت الرجل إلى عبد الله بن الزبير وقال: «اكتب إلى عبد الملك بن مروان لترى رأيه، فلعلكما تنتهيان إلى أمر فيه صلاح الحال.»
فلما سمع عبد الله اسم عبد الملك بن مروان أجفل وتغير وجهه وقال: «كيف أكتب إليه؟! أبدأ بنفسي أو أبدأ به؛ أأكتب «من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟» فوالله لا يقبل هذا أبدا، أم أكتب «لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟» فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من ذلك.» قال ذلك وعاد إلى إطراقه، وسكت الناس ينتظرون رأيا جديدا فإذا بعروة بن الزبير أخي عبد الله التفت إليه وهو جالس بجانبه على المقعد وقال له: «يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة.»
فقال عبد الله وقد ظهر الغضب في جبينه: «من هو؟»
قال عروة: «حسن بن علي، فإنه خلع نفسه وبايع معاوية.» ولم يتم عروة قوله حتى رفع عبد الله رجله وضربه بها حتى ألقاه عن المقعد. فأجفل الناس من سقوط عروة وأعظموا غضب عبد الله فتهيبوا، ثم سمعوه يقول له: «يا عروة، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا ولا أخذت إلى الدنية. وإن ضربة بسيف في عز لخير من لطمة في ذل.» ثم وقف والتفت إلى الجموع ولحيته ترقص في وجهه من شدة التأثر وقال لهم: «أنتم مخيرون فافعلوا ما تشاءون، وإن رجلا يجر إلى الحرب بحبل لا يحارب، وإن الله وليي ونعم النصير.» قال ذلك وأراد الانصراف، فوقف ولداه حمزة وحبيب وقالا: «هل نحن مخيران أيضا؟»
فعجب حسن لما سمعه وقال في نفسه: «حتى أولاده تخلوا عنه.» والتفت إلى عبد الله فرآه ينظر إليهما وعيناه تلمعان بما يتجلى فيهما من الدمع ثم قال: «نعم وأنتما أيضا في حل، امضيا واطلبا الحياة ولا تموتا.» ثم اختنق صوته فسكت ريثما ابتلع ريقه ونظر إلى ابنه الثالث الزبير وقال له: «يا بني اطلب لنفسك أمانا مع أخويك فوالله إني لأحب بقاءكم.»
فوثب الزبير من مجلسه وقال ولم يبد على وجهه شيء من الخوف: «حاش لله أن أتخلى عنك فما كنت لأرغب بنفسي عنك.» •••
انصرف عبد الله من باب يؤدي إلى دار النساء، وظل حسن واقفا يسمع ما يدور بين الحاضرين، فعلم أنهم أجمعوا على الخروج إلى الحجاج يلتمسون أمانه، وأدرك أن أشد ما أبعدهم عن عبد الله أنه يقتر عليهم، في حين يسخو عبد الملك على بني أمية ويبذل الأموال لمناصريه، فساءه ذلك لاعتقاده أن هؤلاء إنما أرادوا الخروج رغبة في العطاء، وإن صبر ابن الزبير لا يفيده شيئا ولكن الإنسان لا يعيش في هذه الدنيا عمرين وإنما هي موتة فلا كانت عيشة تشرى بالشرف والمروءة.
وأحس حسن بيد أمسكته، فالتفت فإذا بابن صفوان يدعوه إليه، فتبعه حتى دخلا حجرة بجانب تلك الدار وابن صفوان يقول: «إن أمير المؤمنين يدعوك وقد أحب أن يراك.» قال ذلك وتركه هناك وخرج.
فسر حسن لهذه الدعوة ورآها فرصة لأداء المهمة التي جاء لأجلها، وإن كان الكلام فيها لا يجدي نفعا.
ثم عاد إليه صفوان وأشار إليه أن يتبعه، ومضى به إلى حجرة رأيا عبد الله يتمشى فيها وحده وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما، وهو تارة يمسح جبهته وطورا يحك لحيته، وآونة يشمر عن ساعده أو يرسل كمه مما يدل على عظم البلبال. وتأمل حسن في تلك الحجرة فإذا هي لا شيء فيها من الأثاث غير حصير ومقعد. فلما أقبلا عليه تقدم حسن إليه وسلم بالخلافة، فرحب به ودعاه إلى الجلوس على المقعد، فلم ير الجلوس وابن الزبير واقف، فألح عليه هذا بالجلوس وقال: «دعني واقفا وسأجلس بعد هنيهة.»
فجلس حسن وبقي صفوان واقفا مكانه يراعي عبد الله ويراقب حركاته ولا يتكلم.
ثم التفت عبد الله إلى حسن وقال: «من أين قدمت؟»
قال: «من الشام.»
فبغت عبد الله عند سماع اسم الشام؛ لأن فيها أعداءه ومناظريه، والتفت إلى ابن صفوان كأنه يطلب مشاركته في الاستغراب فرآه لا يقل عنه استغرابا، فقال عبد الله: «وما الذي جاء بك إلينا ونحن في هذه الحال. لعلك جاسوس؟»
قال: «معاذ الله يا مولاي! كيف أكون جاسوسا وأفعل ما فعلته اليوم؟»
فجلس عبد الله على جانب المقعد وأمر ابن صفوان بالجلوس فجلس، ثم قال عبد الله: «لا غرابة فيما ظهر منك إن كنت جاسوسا؛ لأن الجواسيس يتلونون تلون الحرباء. على أني لا أبالي مهما يكن من أمرك فما أنا ممن يستعينون بالجواسيس وأنا لا أخافهم وإنما أستعين بالحق والعدل.»
فوقف حسن وهو يقول: «العفو يا مولاي، إني أجل نفسي عن الجاسوسية في هذا السبيل، وإنما أنا رسول إليك في مهمة لا أرى مسوغا للكلام فيها الآن.»
قال: «وماذا تعني؟ وكيف لا مسوغ لها؟ قل ... لا بأس مما تراه من الأحوال. من أرسلك إلينا من الشام؟ لعلك قادم من عبد الملك بنصيحة؟»
قال: «لا يا مولاي، بل أنا قادم من عند خالد بن يزيد بن معاوية.»
قال: «وهو أيضا أموي، وشأنه عندنا مثل شأن عبد الملك وإن يكن أعرف منه بالكيمياء والشعر وما إلى ذلك.»
فقال حسن: «ما كنت أحسب الحقيقة تخفى على مولاي أمير المؤمنين فإنها عكس ذلك على خط مستقيم.»
قال: «كيف يكون هذا وكلاهما أموي وقد اتحدا وقاما لحربنا؟»
قال: «أما الحرب فقد نصبها عبد الملك وليس خالد، ولو عرفت ما بينهما من الدخائل لتحققت أن خالدا أرغب في بيعة أمير المؤمنين من آل العوام أنفسهم.»
فقال عبد الله وهو يبتسم ابتسامة الاستخفاف: «وكيف يكون ذلك وهو ابن يزيد الذي أمر بحصار هذا البيت وقاتلنا حتى هدم الكعبة بمنجنيقاته ثم احترقت وأعدنا بناءها؟!»
فقال حسن: «صدقت يا مولاي إنه ابن يزيد بن معاوية، ولكن لا يخفى عليك أنه لما مات يزيد كان الحصين بن النمير لا يزال محاصرا البيت الحرام وأنتم فيه، وهو لا يعلم بموت خليفته يزيد، وقيل إنكم عرفتم بموته قبله، وإذا صح ما سمعته عما دار بينكم وبينه في شأن الخلافة ...»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «أظنك تعني أنه عرض علي البيعة بعد موت يزيد؟»
قال حسن: «نعم يا مولاي ذلك ما أعنيه، ولو أنك أجبته إلى هذه البيعة لما كان على منصة الخلافة سواك.»
فتقطب حاجبا عبد الله بغتة كأنه تذكر أمرا يؤلمه ذكره وقال: «ولكنه أراد أن أذهب معه إلى الشام، وأبى إلا أن تكون البيعة هناك.»
قال: «وما منع مولاي أن يذهب إلى الشام؟! إنك لو ذهبت معه إليها وقربته منك لم يختلف عليك أحد.»
فأسرع عبد الله في قطع الكلام لأنه لا يحب أن يتذكر الخطأ الذي ارتكبه في ذلك ولولاه لكان بنو العوام خلفاء الإسلام بدل بني أمية؛ لشدة اضطراب حال بني أمية في ذلك الحين. وقال لحسن: «ثم ماذا؟ أوصلنا إلى حديث خالد.»
قال: «لما مات يزيد بايع أهل الشام ابنه معاوية (الثاني) كما تعلمون، وهذا لم يكن يرى لبني أمية حقا في الخلافة كما صرح جهارا في خطابه بعد أن تولاها بأربعين يوما، فإنه أمر فنودي: «الصلاة جامعة.» فلما اجتمع الناس وقف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم، فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا. ما كنت لأتزودها ميتا وما استمتعت بها حيا.» ثم دخل داره وتغيب حتى مات. فلما مات معاوية هذا اختلف الناس فيمن يولونه، واضطربت الأحوال حتى آل الأمر إلى مبايعة مروان بن الحكم؛ لأنه أكبر بني أمية سنا. وكلنا نعلم شأن هذا الرجل في أمر عثمان وكيف أنه قد أوقد جذوة تلك الفتنة التي لم نتخلص من عواقبها إلى اليوم. وهكذا تولى الخلافة مروان دون خالد بن يزيد الذي كان أحق بها منه، بحكم نظام الوراثة الذي وضعه جده معاوية. على أن بني سفيان لم يرضوا ببيعته حتى عاهدهم على أنه يجعل الخلافة بعده لخالد. فلما تولاها مروان حدثته نفسه أن يخرجها من نسل معاوية إلى نسله، فتزوج أم خالد حتى تصغر نفس خالد عن طلب الخلافة، واتفق بعد بضعة أشهر أن مروان ناظر خالدا في شأن وشتمه وأهان أمه، فخرج خالد إلى أمه وأطلعها على ما كان فقالت له: «دعه فإنه لا يقولها بعد اليوم.» وفي المساء جاءها مروان وسألها: «هل أخبرك خالد بما جرى بيننا؟» فقالت: «يا أمير المؤمنين، خالد أشد تعظيما لك من أن يذكر لي خبرا جرى بينك وبينه.» فلما أمسى المساء وضعت مرفقة على وجهه وقعدت عليها هي وجواريها حتى مات ولم يتم السنة في خلافته، والناس يظنونه مات حتف أنفه. فخلفه ابنه عبد الملك وهو يعلم بالأمر، ولكنه خشي إذا انتقم لأبيه أن يفتضح أمره ويقال إن امرأة قتلته، فظل حاقدا على خالد، وظل خالد ينظر إليه نظره إلى مختلس. ولهذا قلت لمولاي أمير المؤمنين إن خالدا أرغب من آل العوام في خلافتك.» •••
لما فرغ حسن من كلامه، أطرق عبد الله طويلا، وشعر حسن وابن صفوان بما يجول في خاطره في أثناء ذلك الصمت الطويل، ثم رفع رأسه بغتة ونظر إلى حسن وقال: «لقد فات الوقت، ما يقدره الله فهو كائن. على أني ما أظن خالدا يرضى بخروج هذا الأمر من بني أعمامه إلى رجل حاربه أبوه عليه، ولا أرى ثمة مسوغا لذلك.» ثم استدرك فقال: «ولكنك لم تذكر بعد ما هو الأمر الذي جئت لأجله؟»
فقال حسن: «إنه أمر لا يستحسن الخوض فيه الآن؟»
قال: «بل قل.»
قال: «لقد بعثني خالد إلى أمير المؤمنين خاطبا.»
قال: «من؟ ولمن؟»
قال: «مولاتي رملة أخت أمير المؤمنين، إلى مولاي خالد بن يزيد. وقد كتب بذلك كتابا فقدته في المدينة لسبب يطول شرحه.»
فوقع الطلب موقع الاستغراب عند عبد الله لما بينه وبين بني أمية. على أنه لما تذكر ما سمعه من حسن مال إلى تصديق الأمر، وإن بقي مرتابا في حقيقة مهمته، فقال له: «إذا كان خالد كما وصفت فإني أرحب بمصاهرته، وكنت أود الاطلاع على كتابه. وليس هناك ما يدعو إلى العجلة والحال على ما ترى، فلنصبر حتى يقضي الله بيننا وبين هذا الطاغية الذي يرمي بمنجنيقاته بيت الله ولا يخاف عقابا.»
فقال حسن: «ذلك ما دعاني إلى التردد في تبليغ الرسالة، ولكن يكفيني ما علمته من رضاكم، رغم أني لا أحمل كتاب خالد ، وسأكتب إليه لأطمئنه بالقبول ولكي يرسل كتابا آخر في هذا الشأن. ثم إني أعرض على مولاي أن أكون في خدمته لعلي أستطيع أمرا يكون فيه مصلحة له. فهل ترى أن أذهب إلى الحجاج فأكلمه في شأن الهدنة أو الصلح فربما كان لكلامي وقع عنده؛ لأني أعد من أنصار بني أمية فلا يرتاب في إخلاصي؟»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «لا ... لا ... دعهم وما يفعلون، إني لا أريد وساطة لدى عبد ثقيف.» قال ذلك ووقف، فوقف حسن وحياه ثم انصرف من غير الباب الذي دخل منه، وكان الليل قد أرخى نقابه فتبعه ابن صفوان وناداه قائلا: «رويدك يا أخا العرب.»
فوقف حسن حتى اقترب ابن صفوان منه، فأمسك هذا بيده وأدنى فمه من أذنه وقال همسا: «تعال معي.»
فمشى معه حتى دخلا دارا بجانب دار ابن الزبير، فأدخله غرفة خالية وقال له: «سمعتك تعرض على أمير المؤمنين التوسط لدى الحجاج في المهادنة أو نحوها، وأمير المؤمنين لم يقبل ذلك أنفة منه، ولكنني أعلم ما نحن فيه من الضنك، وإن المهادنة تفيدنا في لم شعثنا؛ لأننا قد تشتتنا. لا أقول ذلك خوفا من الموت فإننا لا رغبة لنا في هذه الحياة، وإنما نحن نطلب الآخرة وبنو أمية يريدون هذه الحياة الفانية ويسفكون الدماء من أجلها. فإذا رأيت أن تقوم بهذه المهمة فافعل.»
قال: «سأسعى في ذلك جهدي، ولعلي أوفق إلى ما فيه الخير إن شاء الله.»
فقال ابن صفوان: «انزل الآن في دار الأضياف إذا شئت، أو انزل في داري.»
فقال حسن: «بل أنزل في دار الأضياف ريثما أدبر الأمر.»
قال: «ولكن الليل أدركنا، فامكث عندنا الليلة، فإذا أصبحنا خرجت إلى حيث تريد.»
فتذكر حسن بلالا والجمل، وكان قد تركهما بباب المسجد فقال: «إن خادمي ينتظرني بباب المسجد والجمل معه، وأخاف أن يستبطئني فيظن أن قد مسني سوء.»
فقال ابن صفوان: «إنه إذا استبطأك، فسينام حيث هو، وفي الغد نراه.»
فأطاعه حسن وبات عنده. وقضى معظم الليل يفكر في أمر ابن الزبير وفي مسيره إلى الحجاج، ثم أدركه النوم فرأى في منامه أنه لقي الحجاج وجادله في أمر الكعبة وكيف يرميها بالمنجنيق، فسمع من الحجاج كلاما غليظا، فأفاق في الصباح وهو منقبض النفس.
ثم جاءه ابن صفوان بالطعام فأكل، وعرض عليه أن يسير معه إلى بيت الأضياف فقال حسن: «أرى أن أبحث عن الخادم والجمل.»
فقال: «لا خوف عليهما، هلم بنا إلى دار الأضياف لتعرفها فإنها بجانب بيت أمير المؤمنين، ثم تذهب بعدئذ إلى حيث تشاء.» •••
سار ابن صفوان مع حسن حتى أدخله دار الأضياف، واتجه هو إلى بيت عبد الله. ورأى حسن في الدار أناسا لم يعرف أحدا منهم، فجعل يتفرس في الوجوه لعله يرى خادمه بينهم، فلما لم يجده هم بالخروج إلى مواقف الدواب عسى أن يجده مع جمله هناك، ثم رأى بلالا مقبلا والبغتة بادية في وجهه وعيناه شائعتان كأنه يفتش عن ضائع، وما كاد بلال يراه حتى سارع إليه وقال: «أين كنت يا مولاي. إن سيدي أبا سليمان يبحث عنك.»
فبغت حسن لذكر أبي سليمان لعلمه أنه فارقه في المدينة وقد عهد إليه في تنسم أخبار سمية. فقلق لمجيئه ونهض وقال: «أين هو؟»
قال: «تركته في المسجد وجئت للبحث عنك، فهل أدعوه إليك؟»
قال: «بل أذهب إليه.» وهم بالخروج فرأى أهل الدار في هرج ومرج يزاحم بعضهم بعضا كأنهم يوسعون الطريق لقادم عظيم، فوقف مع الواقفين وسأل أحدهم عن القادم، فقال له: «إن ذات النطاقين قادمة إلى دار الأضياف.»
فعلم أنها أسماء بنت أبي بكر، أم عبد الله بن الزبير، وكان يحسبها قد ماتت لكبر سنها؛ لأنها ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة. فهي يومئذ قد بلغت المائة من عمرها. وكانت مشهورة بكبر العقل وسعة الصدر وصحة الدين. فأحب أن يراها، فجعل يتطاول حتى أقبلت فإذا هي قد احدودب ظهرها وعميت، وجاءت تتوكأ على عكاز، وبجانبها رجل يسندها ويرشدها إلى الطريق. ورأى الناس يدنون منها ويقبلون أطراف ثوبها تبركا بها. حتى إذا أقبلت على موقف خدم الدار قالت لهم: «خافوا الله ولا تبخلوا على عباده بالطعام وإن كان قليلا في الأسواق فإن الله كفيل بطعام الغد.»
فعجب حسن لاهتمام أم الخليفة بأمر الأضياف على عجزها وضعفها، ولكنه تذكر ما يقال عن بخل ابنها عبد الله فظنها جاءت تحث الخدم على إكرام الضيوف لاعتقادها أن ذلك يدفع البلاء عن أهلها. ولا شك في أنها كانت قلقة على ابنها عبد الله لعلمها بما يتهدده من الخطر العظيم.
وبعد أن مر موكب ذات النطاقين، خرج حسن ومعه بلال وسارا إلى المسجد، وسارع حسن إلى لقاء أبي سليمان. فحياه وقال: «ما وراءك يا عماه؟»
قال: «إن ما ورائي ذو بال يا بني.»
فبغت حسن وقال: «وما هو؟ قل يا عماه. هل أصاب سمية سوء؟»
قال: «لم يصبها سوء ولكنها جاءت إلى مكة.»
قال حسن: «جاءت إلى هنا؟ وأين هي؟»
قال: «اصبر ريثما نجلس في بعض جوانب المسجد على انفراد وأقص عليك الخبر.» وكان المسجد خاليا من الناس خوفا من حجارة المنجنيق، فانتحيا ركنا فيه، وحسن في قلق شديد، فلما جلسا قال: «قل يا عماه أين سمية الآن فقد نفد صبري؟ وكيف جاءت مكة؟»
قال: «إنها جاءت مكة، ولكنها الآن خارجها.»
فانتبه حسن وقال: «لعلها عند الحجاج؟»
قال: «نعم يا بني إنها عنده.»
فصاح وهو لا يعي ما يقول وما في المسجد من يسمعه غير أبي سليمان: «وكيف كان ذلك؟ أفصح بالله.»
قال: «أخذها زوجة له؛ لأن أباها عرفجة زفها إليه يوم سفرك، وأرسلها مع الحملة التي بعث الحجاج يطلبها من طارق بن عمرو عامل المدينة.»
فلما سمع حسن ذلك أطرق كأنه أصيب بذهول، وتذكر أنه شاهد تلك الحملة بالأمس مارة قرب مكة ومعها هودج يحرسه فارسان فارتعدت فرائصه وهز رأسه وقال: «أعوذ بالله! أأرى سمية تساق إلى الحجاج وأبقى واقفا أنظر إلى هودجها ولا أنقذها؟ ولكنني لم أعرفها ولا بد من إنقاذها من يد ذلك الظالم، ومن يد أبيها الخائن الغادر - قبحه الله.» ثم التفت إلى أبي سليمان وقال: «وهل سيقت إلى الحجاج برضاها؟»
فقال أبو سليمان: «ما أظنها إلا سيقت مرغمة؛ فقد علمت أن أباها احتال في إخراجها من المنزل إلى ضواحي المدينة وسلمها للجند المعسكرين هناك.»
قال حسن: «إذن هي الآن أمامنا في هذه الخيام قرب جبل أبي قبيس. لا بد لي من الذهاب إليها، فإما أن أنقذها أو أموت في سبيلها.»
فقال أبو سليمان: «اعلم يا بني أني رهين إشارتك وقد قلت لك إني وقفت حياتي على خدمتك، فإذا رأيت أن تبعثني في شأنها فافعل.»
فصمت حسن مفكرا ثم قال: «إنني أحتاج إليك يا عماه في إبلاغ رسالة إلى مكان بعيد.»
قال: «إني على استعداد للذهاب إلى السند في خدمتك.»
قال: «لا ... بل إلى الشام، إلى خالد بن يزيد، فهل تقبل؟»
قال: «أفعل إن شاء الله، أين الرسالة؟»
قال: «أكتبها إليه الآن وهي خاصة بالمهمة التي جئت لأجلها.»
قال: «اكتب وأنا بين يديك.»
فأخرج حسن من جيبه منديلا من القباطي (نسيج مصري) وكان قد أعد دواة وقلما في جيبه لمثل هذه الغاية. وجلس على حجر بجانب إحدى عضادات المسجد فكتب أسطرا قال فيها:
إلى خالد بن يزيد من حسن، أما بعد فقد جئت البيت الحرام بعد أن مررت بالمدينة وأضعت فيها كتابك، ولهذا حديث سأقصه عليك عند اللقاء، على أني واصلت السفر إلى مكة ولقيت ابن الزبير وأبلغته الأمر خلال اشتغاله بالحصار وضيق ما حوله، فأجاب بالرضاء. ولكنه رأى أن تبعث إليه بكتاب آخر في هذا الشأن، فإذا شئت فافعل، وابعث الكتاب مع حامل هذا إليك، وأنا باق هنا لأمر يهمني كثيرا، والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم سلم الكتاب إلى أبي سليمان وقال له: «امض على عجل، واحذر أن يعترضك الحراس حول مكة.»
قال: «لقد دخلت ولم ينالوا مني مأربا، وسأترك بلالا في خدمتك لعلك تحتاج إليه في شيء.»
فأثنى عليه وودعه، وعاد إلى ما كان فيه من الاهتمام بأمر سمية، فرأى أن يذهب إلى معسكر الحجاج يبحث عنها ويستطلع خبرها. وكان كلما فكر في الأمر، وتصور أنها زفت إلى الحجاج اضطرب وثارت أشجانه واشتد قلقه ، حتى لم يعد يستطيع صبرا، فعزم على الذهاب إلى معسكر الحجاج بحجة أنه مندوب من قبل ابن الزبير للمخابرة في شأن وقف الحرب، ولكنه لم ير بدا من استشارة ابن صفوان لئلا يغضب ابن الزبير، فنهض لساعته وأسرع إلى بيت ابن صفوان فلم يجده، فالتمسه في دار ابن الزبير، فلم يجد أحدا في القاعة التي كان الاجتماع فيها بالأمس، وبينما هو مار بالقرب من مرابط الخيل والجمال وبينها الخدم والجمالة وقع نظره على رجل كان في خدمة ليلى الأخيلية، فتوسم فيه الخير وناداه وقال له: «ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟»
قال: «جئت مع مولاتي.»
قال: «ليلى هنا الآن؟ وأين هي؟»
قال: «هي عند أمير المؤمنين في بيته، وأظنها في حجرة أمه ذات النطاقين.»
قال: «ومن أين أتيتم؟»
قال: «من معسكر الحجاج.»
فاستبشر بذلك الخبر لعلمه بأن ليلى لا بد أن تكون قد رأت سمية هناك وسمعت منها شيئا، لم يعد يصبر على لقائه ليلى وأخذ يتمشى خارج البيت، وكلما سمع حركة أو صوتا ظنها خارجة، حتى مل الانتظار فعاد إلى الخادم وقال له: «هل أقمتم بمعسكر الحجاج طويلا؟»
قال: «أقمنا يوما وليلة، ثم رأيت مولاتي أسرعت إلى مكة، وأرسل الحجاج معنا من أوصلنا إليها لئلا يعترضنا الحراس المحيطون بها.»
فأدرك حسن أنها جاءت بإشارة الحجاج فزاده رغبته في مقابلتها واستطلاع حقيقة الأمر. وفيما هو يفكر في ذلك رأى ابن صفوان خارجا من الدار مهرولا. فلما تلاقت نظراتهما أقبل عليه ابن صفوان وقال: «أحمد الله على أني رأيتك هنا، فقد كنت ذاهبا للبحث عنك مخافة أن تكون قد مضيت في الأمر الذي ندبت نفسك له بالأمس.»
قال حسن: «وماذا تعني؟»
قال: «أعني مقابلة الحجاج.»
قال: «وما الذي حدث؟»
قال: «لقد جاءت ليلى الأخيلية من عنده، لمثل هذا الغرض. وقد سمعت من أمير المؤمنين أنه لا يرى صلحا ولا هدنة؛ لأن الحجاج لا يريد منه غير الاستسلام، وهذا أمر مستحيل عندنا والموت أهون منه.»
فقال حسن: «وأين هي ليلى الآن ؟»
قال: «في دار النساء وقد نزلت عند مولاتي ذات النطاقين، ورملة بنت الزبير عندها أيضا.»
قال: «هل من سبيل إلى مقابلتها؟»
قال: «ذلك يسير. هل أخبرها بأنك تطلب مقابلتها؟»
قال: «افعل.»
الفصل الرابع عشر
سمية في بيت الحجاج
دخل ابن صفوان، ثم عاد وأشار إلى حسن أن يتبعه، فدخل وراءه غرفة رأى فيها ليلى وحدها في انتظاره. فلما أقبل عليها قالت: «إذن أنت حسن حقا؟ كيف إذن أكدوا لي أنك قتلت؟»
فابتسم وقال: «كدت أقتل. ولكنني حي الآن فأخبريني هل كنت في معسكر الحجاج؟»
قالت: «نعم.»
قال: «وهل رأيت سمية هناك؟»
قالت: «نعم رأيتها.»
فخفق قلبه عند سماع جوابها وعاد يسألها قائلا: «هل رأيتها حقيقة؟»
قالت: «رأيتها ورأتني، وكلمتها وكلمتني!»
قال: «بالله كيف حالها؟ وما الذي جرى لها؟»
قالت: «أراك غائبا عن الدنيا؟ ألم تعلم أنها حملت إلى الحجاج لتزف إليه؟»
فلما سمع ذكر الزفاف صعد الدم إلى وجهه وقال وهو يظهر التجلد: «نعم علمت، ولكن هل زفت إليه حقا؟»
قالت: «زفت إليه منذ يومين، وهي الآن في داره مع نسائه.»
قال: «في داره مع نسائه؟ إذن صارت زوجة له؟!»
قالت: «نعم.»
قال: «وهل ذكرتماني في حديثكما؟»
قالت: «ذكرناك وبكينا عليك وهي التي أخبرتني بموتك.»
قال: «وهل هي آسفة على موتي؟»
قالت: «أما قلبها فمعك، فهي لا تفتر عن ذكرك لحظة مع حبها من لقائك، لا يهنأ لها العيش مع أحد غيرك.»
فأبرقت أسرة حسن عند سماعه ذلك وقال: «إذا كان الحجاج عقد قرانه بها كما تقولين، ويئست من لقائي فكيف ألقاها؟»
قالت: «الحب كله رجاء يا حسن، بل الحب يضع الرجاء في موضع اليأس.»
قال: «أباقية هي على حبي؟»
قالت: «نعم وهي مع ذلك لا ترجو لقاءك فكيف إذا علمت بأنك حي؟! فهل أنت تحبها مثل حبها لك؟»
قال: «كيف لا؟!» وهاجت أشجانه ولم يعد يستطيع صبرا على الذهاب إليها وأحس أنه مقصر في حق سمية، وهان عليه أن يضحي بنفسه لإنقاذها . وكلما تصور أنها زفت إلى الحجاج عظم الأمر عليه وكادت الغيرة تحرقه، فأطرق برهة ثم قال: «وهل زفت إلى الحجاج حقيقة؟»
قالت: «قلت لك إنها زفت إليه وهي في داره مع سائر نسائه.»
قال: «أعوذ بالله! ولكن قلبي لا يصدق أنها في بيته مثل إحدى نسائه. وهل يحبها هو؟»
قالت: «يحبها حبا شديدا، ولم يكن يحلم بحصوله عليها لأنها لا تريده، ولكن المقادير ساعدته فحملوها إليه قسرا.»
فاضطرب وجمد الدم في عروقه وقال: «إني أطير إليها وأختطفها من وسط بيته ومن بين مخالبه!»
فقطعت ليلى كلامه وقالت: «تبصر يا حسن، إن دون الوصول إليها عقبات لا يستطاع تجاوزها إلا بالحكمة.»
قال: «وأي حكمة؟ كيف يمسها الحجاج وأنا حي؟ ليس في الحب حكمة. الحب شيء والحكمة شيء آخر. إن الرجل إذا أحب خضع لقوانين الحب وحدها، وما في الحب حكمة ولا سياسة ولا رياء.»
فلما رأت ليلى شدة هياجه أشفقت على حياته مما يعترض السبيل إلى سمية من الأخطار، ولا سيما أنها عند الحجاج الذي اشتهر بالظلم والجبروت، فإذا وقع حسن بين يديه فلن يعفيه من القتل، فقالت له: «إني معك في أن الحب لا سياسة فيه ولا حكمة، ولكن المحب ينبغي أن يحرص على حياته لأجل حبيبه، فيجب أن تحرص على حياتك لأجل سمية. تبصر في الأمر يا بني، وسأكون في عونك حتى تبلغ ما تريده، فإني أعرف قيمة الحب ويسوءني أن يفرق أحد بين حبيبين، بل إني لأنقم على من يسعى في التفريق بينهما!» قالت ذلك وتنهدت وأشرق الدمع في عينيها.
فأدرك حسن أنها تنطق عن إحساس صادق؛ لأنها أحبت توبة ومنعوها منه فقال: «بورك فيك يا ليلى، فلقد خففت من شدة بلواي، فأشيري علي بما ترين.»
فقالت: «إني وفدت على الحجاج في معسكره، على عادتي في الوفود على الأمراء، فرحب بي وأنزلني في دار أعز نسائه عليه، وهي هند بنت النعمان. ولعلك تعلم أنها جميلة ذات حسب ونسب ولكنها لا تحبه ولا تحترمه، فلقيت سمية عندها، وتحدثت معها في شأنك فلما أنبأتني بفقدك شق ذلك علي، واعتزمت أن أستطلع خبرك في مكة، فعرضت على الحجاج أن آتي إليها وأحاول إقناع ابن الزبير بالاستسلام، مع أني أعلم أن استسلامه مستحيل. فلما جئت مكة علمت أنك جئتها بالأمس، وخطبت رملة لخالد فقبل ابن الزبير ولكنه استمهلك ريثما تنقضي الحرب. فكان سروري مزدوجا بسلامتك ونجاحك في المهمة التي جئت لأجلها. وأرى أن أعود الآن إلى معسكر الحجاج وأجعلك راويتي، وأنت تعلم أن لكل شاعر عربي راوية يرافقه فيحفظ أشعاره ويرويها عنه. والحجاج لا يعرفك، فلن يخطر بباله أنك مناظره على سمية، ومتى وصلنا إلى المعسكر وأقمنا به، تفكرنا في أمر سمية، وأسأل الله التوفيق.»
فاستحسن حسن رأيها وقال: «إذن هلم بنا الآن، فإني لا أصبر على هذه الحال.»
قالت: «اسبقني إلى المسجد ريثما أودع ذات النطاقين وألحق بك.»
قال: «لقد أنساني حديث سمية استطلاع ما دار بينك وبين ابن الزبير في أمر الصلح أو الاستسلام.»
قالت: «كنت على يقين من أنه لن يقبل، وقد رأيت أمه أسماء ذات النطاقين أكثر منه تشددا، وإني لأعجب لهذه العجوز وصبرها على المكاره فقد رأيتها مع يأسها من نجاح ابنها تشجعه وتحرضه على الثبات في دعوته. على أني وقد رأيت معسكره ومعسكر الحجاج، لا أشك في أن ابن الزبير مغلوب، فالفرق كبير بين المعسكرين في العدد والعدة وكل شيء.»
فابتدرها حسن قائلا: «لقد رأيت بعيني أصحاب ابن الزبير وإخوته وأهله يتخلون عنه، وقد نفدت قواته وأقواته، فالأمر خارج من يديه لا محالة.»
قالت: «القوة هي الغالبة يا حسن، والخلافة صائرة إلى بني أمية؛ لأن عندهم الرجال والأموال، وقد ساعدتهم الأقدار من كل ناحية.»
فقطع حسن كلامها وقال: «ليس يهمني الآن إلا أمر سمية، وسأسبقك إلى المسجد فأتهيأ للسفر.» قال ذلك وتركها وأسرع إلى المسجد، فوجد بلالا جالسا بباب حانوت لرجل فارسي يبيع الأقمشة بجوار الصفا. فلما رآه بلال نهض وتبعه حتى دخلا المسجد، فقص حسن عليه عزمه على الذهاب إلى معسكر الحجاج وأسر إليه الغرض من ذلك.
فقال بلالا: «ألا أستطيع أن أكون في خدمتك يا مولاي؟»
قال: «بورك فيك. ولكنني ذاهب في مهمة لا تخلو من الخطر، وإذا انكشف أمري فيها فلن ينفعني الرجل والرجلان، على أني أرجو التوفيق. فابق أنت هنا بضعة أيام، فإذا لم أعد فاطلبني في معسكر هذا الطاغية.»
تنكر حسن في ثياب غير ثيابه، وحمل جرابا فيه أدراج من الرق كتب فيها بعض القصائد. ثم مكث ينتظر ليلى حتى عادت وقد تلثمت وركبت جملا يقوده خادم، فركب حسن جمله، وسارا والخادم يمشي وراءهما حتى مروا ببيت ابن صفوان وكان واقفا بالباب فرأى ليلى وعرفها، وتفرس في حسن فعرفه كذلك رغم تنكره. فحياهما وقال: «إلى أين؟» فقال حسن: «لقد عزمت على أن أبدأ السعي في سبيل التوفيق.»
فهز ابن صفوان رأسه وتنهد وقال: «أسأل الله لكما السلامة.»
وما لبث حسن وليلى أن ابتعدا عن بيت ابن صفوان وخرجا من مكة حتى لقيهما رجال الحجاج، فعرفوا ليلى ولم يعترضوهما، فواصلا السير حتى أقبلا على معسكر الحجاج.
نظر حسن إلى المعسكر والأعلام تخفق فوقه والخيام ممتدة على مسافة بعيدة، فعظم أمر الحجاج في عينيه وقال: «يا ليلى إن الأمر صائر إلى هذا العاتي لا محالة، وإني لينفطر قلبي كلما تصورت مصير عبد الله بن الزبير. أتظنينه مغرورا بنفسه؟»
قالت: «كلا، ولكنه يعتقد أنه على الحق.»
قال: «ما الذي أراه على جبل أبي قبيس؟»
قالت: «ألم تر وقوع الأحجار على الكعبة. إن الحجاج نصب منجنيقاته على الجبل وهو يرمي الحجارة منها على الكعبة. ومع المنجنيقات فصيلة من الجند.»
قال: «وأين خيام النساء التي تقيم بها سمية؟»
فقالت: «نحن سائرون الآن إلى خيمة الحجاج، وهي الكبيرة القائمة في وسط هذه الخيام، وسأدخل أنا ثم أخرج وأسير بك إلى مكان أعرفه، وأذهب إلى هند بنت النعمان فأرى سمية هناك وأقص عليها قصتك، وأتفق معها على موعد تلتقيان فيه خارج المعسكر.» وما زالا سائرين حتى أقبلا على خيمة كبيرة قائمة على بضعة عشر عمودا أمامها أناس بالحراب ، وآخرون بالسيوف، وهم أشبه بالحراس عند الروم - وكان بنو أمية قد اقتبسوا نظام الحرس من الرومان وتوخاه عمالهم إرهابا للناس - وقبل وصولهما إلى الباب أناخا الجملين، ونزلا فمشت ليلى والناس يوسعون لها وحسن يسير في أثرها حتى وقفت بباب الخيمة، فدخل أحد الحراس يستأذن لها ثم عاد يدعوها إلى الدخول، فدخلت وظل حسن مع الواقفين بالباب وهو في شوق شديد لرؤية الحجاج، وقد طالما سمع به وبعظم أعماله، فوقف بحيث يستطيع رؤيته من باب الخيمة. فإذا هو جالس في صدرها على سجادة ثمينة وقد تربع ووضع السيف على فخذيه تحت مطرف من خز ألقاه على كتفيه وأداره على جنبه. ورآه لما دخلت ليلى رحب بها بصوت أرق مما كان يتوقعه، وكان الحجاج رقيق الصوت إلا إذا استفاض في الخطابة فيرتفع كثيرا. وتفرس حسن فيه وهو يخاطب ليلى فإذا هو أخفش العينين، مقطب الوجه، ولم يجد في وجهه قبولا للابتسام أو الضحك. •••
لاحت من حسن التفاتة إلى جلساء الحجاج، فرأى رجلا لم يكد يتبينه حتى اضطربت جوارحه واستعاذ بالله من رؤيته؛ فقد كان عرفجة أبا سمية، وقد جلس بجانب الحجاج يقضي ويمضي وله الحول والطول. وأدرك حسن أن عرفجة لم ينل هذا المنصب إلا بتضحية ابنته سمية، فهاجت عواطفه وحدثته نفسه بأن يفتك به انتقاما منه، ولكنه ما لبث أن عاد إلى رشده وعلم بما يحيط به من الأخطار، فأشاح بوجهه إلى خارج المعسكر لئلا يلاحظ أحد عليه شيئا. كما خشي أن يراه عرفجة فيعرفه ويدبر له مكيدة أخرى، فمشى متظاهرا بأنه يسير على غير هدى حتى بعد عن خيمة الحجاج.
ثم سمع ليلى تناديه فسار إليها وتبعها والجراب معلق في كتفه بوصفه راويتها. وبعد أن قطعا مسافة في المعسكر قالت: «انظر إلى هذه الخيمة بجانب هذه الراية إنها خيمة القادمين من الشعراء وغيرهم، فأقم بها ريثما آتيك أو أبعث إليك.»
قال: «وسمية؟! ألا أستطيع رؤيتها الآن؟ خذيني معك بوصفي خادما لك أو تابعا أو أي شيء لأرى سمية.»
فرق له قلب ليلى وقالت له: «سر في أثري حتى ندخل مضرب خيام النساء واجعل كأنك تحمل لي هذا الجراب حتى تضعه في الخيمة التي نحن سائرون إليها، ومتى وصلنا أدبر لك حيلة لمشاهدتها ومخاطبتها.»
فرقص قلبه فرحا ونسي كل خطر في سبيل شوقه لرؤية حبيبته. وبعد هنيهة وصلا إلى خباء له عدة أبواب وحوله خيام أخرى صغيرة، فعلم أنه خباء أهل الحجاج، وقالت ليلى: «امكث تحت هذه النخلة ومتى دعوتك فادخل.» وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فجلس هناك وقلبه يدق وعيناه شائعتان.
ودخلت ليلى الخباء، وهو أقسام لكل امرأة قسم على عادة العرب في بناء الأخبية، فدخلت القسم الذي فارقت هندا فيه فرأتها وسمية جالستين لا تتكلمان. ولما رأتاها رحبتا بها، وآنست في وجه هند انقباضا فقالت: «ما لهند غضبى؟» فأجابت سمية بقولها: «من ذا الذي يقترب من النار ولا يحترق بها! إن ظلم هذا الجبار العاتي ليصل حتى إلى أهل بيته.»
وكانت ليلى تعلم ببغض هند للحجاج، فلم تستغرب ذلك، ولكنها اغتنمت الفرصة وأجابت سمية قائلة: «أراك تشكين من الحجاج وقساوته وأنت لم تعرفيه إلا بالأمس، وهو مغرم بك، ولا يكاد يصدق أنه حصل عليك.»
فقطعت كلامها وقالت: «لم يحصل ولن يحصل على شيء بإذن الله.»
فقالت: «ولكن هذا بعيد وأنت في داره وبين يديه ليلا ونهارا.»
فأشارت بعينيها كأنها تكتم أمرا لا تريد أن تبوح به أمام هند. فاستغربت ليلى قولها وتظاهرت بأنها تريد مخاطبتها في شأن فدخلت بها إلى خيمتها الخاصة، فاستقبلتها أمة الله جارية سمية وكانت تهيئ الطعام، ثم خرجت من الخيمة لبعض شأنها. فلما خلا المكان قالت ليلى: «رأيتك تتوعدين الحجاج وتتبرئين منه وهو زوجك الشرعي، فضلا عما له من السلطان النافذ عليك، فكيف تقولين إنه لم يحصل على شيء؟!»
وكانت سمية قد جلست على حصير من سعف النخل، وبين يديها وسادة تتشاغل بإصلاح ثنياتها وهي تسمع كلام ليلى. فلما سمعت سؤال ليلى بدت الحيرة على وجهها وامتقع لونها امتقاعا شديدا وبقيت تنظر إلى الأرض وليلى تفكر في ذلك وتستغربه ولا تعلم سبب هذا الانفعال فقالت: «ما لي أرى سمية ساكتة لا تجيبني عن سؤالي؟ كيف تقولين إنه لم يحصل عليك وأنت بين يديه؟»
فرفعت سمية رأسها وقد بدا التأثر في عينيها وشفتيها وقالت: «صدقيني يا ليلى، إنه لن يحصل مني على شيء رغم عقد قرانه بي. ولم يكن ذلك تفضلا منه ولكنه أجبر عليه لقسم سبق به لسانه. وأما كونه لن يحصل على فقد أعددت وسيلة أنجو بها منه إلى حبيبي ...» قالت ذلك وشرقت بريقها فاختنق صوتها فأرسلت دموعها وهي صامتة لا تشهق ولا تتكلم، فازداد عطف ليلى عليها، ولكنها استغربت ما سمعته منها عن الوسيلة التي أعدتها للنجاة. فقالت: «وأي وسيلة أعددت؟ وأين هو حسن الآن؟»
فلما سمعت سمية اسم حسن لم تعد تتمالك عن البكاء فكان جوابها الشهيق والنحيب، وهمت ليلى بأن تطمئنها عن حسن ولكنها خشيت أن يصيبها سوء من المفاجأة. فقالت: «إذا كنت تحبينني فلا تخفي على سر هذا الأمر، فقد رأيت مني كل إخلاص وأنا خادمة لك إلى آخر نسمة من حياتي. قولي، ولا تخفي علي شيئا.»
فقالت وهي تمسح دموعها: «أما سبب كونه لم يحصل على شيء مني، فذلك أنه أراد أن يطوف بالكعبة آخر الحجة الماضية فمنعه ابن الزبير من ذلك، فأقسم ألا ينزع سلاحه ولا يقرب نساءه ولا الطيب حتى يقتله.»
فتذكرت ليلى أنها كانت لا ترى الحجاج إلا مدججا بسلاحه حيثما كان ليلا ونهارا، واعتزمت أن تفضي إلى حسن بذلك لعلمها أنه يشرح صدره، ثم قالت لسمية: «وما هي الوسيلة التي دبرتها للنجاة منه في المستقبل؟»
فمدت سمية يدها إلى جيبها فأخرجت منه صرة صغيرة حلت عقدتها فإذا في داخلها قطعة رق ملفوفة على هيئة درج، فتبادر إلى ذهن ليلى أنها كتاب. ثم رأت سمية تناولت ذلك الرق بين أصابعها وقالت: «إن الفرج يأتيني من هذا الدواء!»
فقالت ليلى: «وما ذلك؟»
فقالت: «هو سم احتفظت به حتى إذا تحققت وقوع الخطر تناولته فيذهب بي إلى مكان أرجو أن ألاقي حسنا فيه.»
فرأت ليلى أن تبوح لها بالسر فقالت: «وما قولك إذا لاقيت حبيبك وأنت حية؟»
فتفرست سمية في وجه ليلى وهي تحسبها تمازحها وقالت: «لا تحببي الحياة إلي، فإن لقائي إياه في العالم الآخر خير وأبقى. أما هنا فلا أمل لي في ذلك.»
قالت: «لا تقطعي الأمل يا سمية.»
فأجابت وهي تحسبها تخفف عنها: «لا أبالي أقطعت الأمل أم لم أقطعه، فإن مدة عذابي في هذا العالم أصبحت قصيرة، ولا بد من انقضاء هذه الحرب، فإذا ظل هذا الطاغية حيا كان دوائي في هذه الصرة، وإذا مات ...» ثم تنهدت وأكملت حديثها فقالت: «ولكن ما الفائدة من بقائي حية وحدي؟»
فقطعت ليلى كلامها وقالت والجد في غنة صوتها: «إذا بقيت حية فإنك لا تكونين وحدك؛ لأن حسنا حي!»
فلما سمعت سمية ذلك بغتت وعادت إلى التفرس في وجه ليلى، فرأت الجد باديا في عينيها فوثبت من مجلسها وقالت: «بالله أعيدي ذكره وعلليني ببقائه. قولي إنه حي فإن ذكره يحييني!» قالت ذلك واختنق صوتها فبكت ثم قالت: «ولكن ما الفائدة من التعلل بالأحلام؟!»
فقالت ليلى: «لسنا في حلم، وإنما نحن في يقظة، وقد آن لك أن تري حسنا إنه في انتظارك على مقربة من هذا الخباء وسأدعوه إليك لتلتقيا.» ثم خفضت صوتها وقالت: «وتتواعدا على وقت تفران فيه من هذا المعسكر، ولا خوف من مجيء الحجاج إلى خيام النساء ما دام قد أقسم ألا يقربهن.» •••
وكانت سمية تسمع قول ليلى وهي لا تكاد تصدقه، ولكنها لم تر بدا من تصديقه ولا سيما بعد أن سمعت أن حسنا بقرب خبائها، فهرولت إلى شق في الخباء ونظرت إلى الخارج وكان الليل قد سدل نقابه فلم تر أحدا، فنادت أمة الله فأسرعت إليها وقد أنارت السراج ودخلت حتى وضعته على المسرجة، فقالت لها سمية: «هل رأيت أحدا جالسا حول هذا الخباء؟»
قالت: «كلا يا مولاتي، ولكنني رأيت رجلين مرا معا وخرجا من المعسكر.»
فقالت ليلى: «هل رأيت أحدهما يحمل جرابا ؟»
قالت: «أظنني رأيت مع أحدهما شيئا كالجراب .»
فأسرعت ليلى وسمية في أثرها وأطلتا من باب الخباء فلم تريا أحدا، فتحولت ليلى نحو المكان الذي أجلست فيه حسنا فلم تر له أثرا، فأسقط في يدها، وفكرت في سبب ذهابه ومن يكون الرجل الذي ذهب به فلم تهتد إلى حل.
أما سمية فخامرها شك في قول ليلى، ولكنها تحققت صدقها لما بدا في عينيها من دلائل الاهتمام وما غشي جبينها من أمارات الانقباض، فقالت لها: «أين عسى أن يكون حسن الآن؟»
فقالت ليلى: «إن ذهابه لا بد أن يكون لأمر ذي بال، فقد جاء معي وهو لا يكاد يصدق أنه يحظى برؤيتك، وما أظنه تحول من هذا المكان بإرادته. ولعله يعود الليلة فلنترقب رجوعه. ولكن من يكون رفيقه الآخر وهو غريب في المعسكر وقد جاء إليه متنكرا؟»
ثم دخلتا الخباء، ومكثت سمية مطرقة مستغرقة في الهواجس وهي مرهفة سمعها فإذا هب النسيم ظنت حسنا قادما فيضطرب قلبها. وخرجت ليلى إلى خباء هند وهي تكتم ما في نفسها لعلها تستطلع شيئا جديدا.
أما سمية فنادت أمة الله وكانت أنيستها في وحشتها وعزاءها في أحزانها والمطلعة على مكنونات قلبها. فلما نادتها لم تسمع جوابها ولا جاءتها فأعادت الصوت فلم يجبها أحد، فاستعاذت بالله من تلك الليلة، وخرجت إلى حيث تتوقع أن تراها فرأت في الظلام شبحين عرفت منهما أمة الله، ورأت الثاني بلباس الرجال فخفق قلبها وتوقعت أن يكون حبيبها فلم تعد تصبر عن المناداة فقالت: «أمة الله؟»
فقالت: «لبيك يا مولاتي إني قادمة على عجل.» قالت ذلك وظلت واقفة مع الرجل، فقلقت سمية ولم تعد تستطيع صبرا، وهمت بالمسير نحوهما فرأتهما قادمين فتقهقرت حتى وقفت بباب الخباء ووسعت حتى يقع نور السراج على وجه القادم مع أمة الله فتعرفه، ولكنه ظل واقفا على بضع خطوات من الخباء، ثم تبينت أنه بلباس حرس الحجاج، فتشاءمت منه ودخلت الخباء مسرعة وأمة الله في أثرها. وكانت أمة الله قد أدركت اضطراب سيدتها من منظر الرجل فابتدرتها قائلة: «لا تخافي يا مولاتي إن الرجل رسول خير.»
قالت: «ممن؟»
قالت وقد خفضت صوتها: «من حسن.»
فبدت البغتة في وجهها وقالت: «ليدخل.»
فخرجت أمة الله وعادت والرجل معها وعليه لباس الحرس. ولم تكن ملابس الجند قد تميزت يومئذ عن ملابس سائر الناس تمييزا تاما، غير أن حرس الأمراء الأمويين كان لهم لباس خاص بهم، اقتبسه معاوية من الروم مع علامات خاصة، فوقفت سمية لاستقبال الرجل وركبتاها تصطكان لعظم اضطرابها من منظره.
أما هو فلما دخل حياها باحترام وقال لها بصوت منخفض: «لا يزعجك أمري يا مولاتي ولا يخيفك هذا اللباس، فإني خادم لك ولمولاي حسن.»
فلما سمعت صوته تفرست في وجهه فعرفت أنه عبد الله خادم حسن فصاحت فيه: «أنت عبد الله؟»
قال: «نعم يا مولاتي إني خادمك عبد الله.»
قالت: «وما الذي جاء بك إلى هذا المعسكر؟ وأين حسن؟ هل هو حي كما يقولون؟!» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فقال: «نعم يا سيدتي إنه على قيد الحياة، ولم أكن أعرف ذلك إلا هذه الساعة، وكنت قد يئست من حياته مثلك ولكن الله أنعم علينا بنجاته. فالحمد لله.»
قالت: «وأين هو؟»
قال: «إنه مختبئ على مقربة من هذا المكان حتى لا يراه أحد؛ لأنه جاء متنكرا ولم ينتبه له إلا أبوك، فطلب إلى الأمير أن يقبض عليه. وقد اطلعت أنا على هذه المكيدة فأسرعت إليه وأنبأته بها، وخرجت به إلى مخبأ قرب هذا المعسكر، وجئت لأنبئك بذلك لنتعاون على استنباط حيلة تخرجان بها إلى حيث تشاءان وأنا في خدمتكما.»
فقالت: «سامح الله أبي، بل لا سامحه الله على ما يسومنا إياه من البلاء. لقد أصبحت أكره اسم عرفجة وأكره أن أراه من أجل هذه المعاملة. آه يا ربي! ما العمل؟ ما الحيلة؟ قل لي يا عبد الله هل حسن في مأمن؟»
قال: «نعم يا مولاتي إنه في مكان أمين ولا بأس عليه.»
فقالت: «وكيف أدخلت نفسك في زمرة الحراس، وكيف انطلى أمرك على الحجاج وعلى أبي؟»
قال: «إن حكايتي طويلة ، وخلاصتها أني لما يئست من لقاء مولاي حسن في المدينة وكنت قد عثرت على رحله وفيه كتاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير لا بد من إيصاله إليه، رأيت القدوم به إلى مكة، فإذا كان مولاي حسن قد سبقني إليها لقيته وسلمته إليه، وإذا لم أجده أوصلت أنا الكتاب إلى ابن الزبير، فلما دنوت من مكة علمت أن رجال الحجاج يحيطون بها من كل جانب، ولا يستطيع أحد الدخول إليها، وخشيت أن يقع الكتاب في أيديهم، واحتلت لدخول معسكر الحجاج لعلي أتنسم خبرا عن سيدي، وقد يسر لي الدخول أني من ثقيف قبيلة الحجاج، وهو كثير الثقة في أهل قبيلته ويعرفني من قبل، ولكنني أعلم أنه رجل شديد داهية فربما شك في أمري فيأمر بقتلي، فعزمت على أن أتقرب إليه بأن أعطيه الكتاب، ولا سيما أني لم أر فيه فائدة بعد فقد مولاي، وربما تمكنت باقترابي من الحجاج من استطلاع خبر مولاي، فتظاهرت بأني قادم على الحجاج لأمر ذي بال يهمه، وجئت المعسكر وطلبت أن أقابله في خلوة فأذن لي، فلما عرفته بنفسي عرفني. ثم أخرجت له ذلك الكتاب وأنا عالم أن ليس فيه ذكر لمولاي حسن، وإنما هو خطاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير في أمر خطبة أو نحوها، فتظاهرت بأني عثرت بالكتاب مع رجل قادم من الشام، ولما رأيت عليه اسم عبد الله بن الزبير شككت في أمره فقتلت حامله، وجئت بالكتاب إليه.
فلما سمع الحجاج ذلك مني، مع علمه بأني من قبيلته، أحسن الظن بي وقربني وجعلني من حراسه كما ترين. وفي مساء ذلك اليوم قدم أبوك على الحجاج فأطلعه على ذلك وأنا واقف ببابه. فلما اطلع أبوك على الكتاب ناداني فدخلت الفسطاط فقال: «من أين أتيت بهذا الكتاب؟!» فقصصت عليه الخبر كما ذكرته، فقال: «إن صاحب هذا الكتاب عدو لنا عرفناه في المدينة وحاولنا قتله، ولكن الذي ذهب لاغتياله لم يعد إلينا، فهل قتلته أنت؟» فلما سمعت قوله اطمأننت على حياة مولاي، ومضيت في إتمام الحيلة فقلت: «لا أعلم أهو الذي قتلته أم لا، ولكنني قتلت شابا بلباس كذا.» وذكرت له ما يقرب من صفات مولاي فقال: «لعله هو وقد أحسنت على أي حال.» وأدناني أبوك منه ومكثت في جملة الحراس وأنا أتفقد الأحوال وأستطلع الأخبار حتى جاءنا مولاي في هذا النهار مع ليلى الأخيلية وقد تنكر، فعرفته، ولم ينتبه لي ولا أنا أردت أن يعرفني لئلا ينكشف أمرنا. فتجاهلت حتى دخلت ليلى على الحجاج وخرجت. وكان أبوك مع الحجاج في الفسطاط، فلما خرجت ليلى رأيت علائم الغدر في وجه أبيك، وسمعته يخاطب الحجاج فأصغيت فإذا هو يشير بإصبعه إلى ليلى ويقول: «إن راويتها جاسوس متنكر.» وأشار بالقبض عليه، فعلمت أنه عرف حسنا واحتلت في الخروج حتى جئته وهو جالس بقرب هذا الخباء فأخبرني أنه جاء من أجلك، فذهبت به إلى خربة وراء هذا المعسكر لا يهتدي إليها أحد، ووعدته أن آتي إليك وأطلعك على أمره لندبر حيلة للفرار.»
وكان عبد الله يتكلم وسمية تتطاول بعنقها وتصيخ بسمعها وعيناها شاخصتان فيه. فلما جاء على آخر الحديث اطمأن قلبها وزال قلقها على حبيبها، فانبسطت أسرتها وقالت: «بورك فيك يا عبد الله، إنك لنعم الرجل، وإذا أتيح لنا أن ننجو على يدك فستكون شريكنا في سعادتنا، وإلا فلا حول ولا ...»
فقال: «إن النجاة قريبة إن شاء الله، ولكن لا بد من الصبر، فأذني لي في الانصراف الآن، لأعود إلى موقفي لئلا يشكوا في أمري، فإذا حدث شيء أو احتجت إلى شيء فإني رهين إشارتك، وإذا حدث عندي شيء جئتك به.» قال ذلك وهم بالخروج فاستوقفته وقالت له: «إلى أين؟ وكيف تترك حسنا وحده في تلك الخربة ومن أين يأكل وأين ينام؟!»
فقال: «أتظنين أني تركته ولم أعد إليه؟ كوني مطمئنة فإني أدبر له كل ما يحتاج إليه.» وودعها وخرج.
وتذكرت سمية ليلى، فنادت أمة الله وقالت لها: «أين هي ليلى؟» فقالت: «هي في خباء هند.» وخرجت ثم عادت تقول: «لم أجد في الخباء أحدا.»
فاستغربت ذلك وقالت: «ألم تسألي الخدم عنهما؟»
قالت: «سألت الخادمة فذكرت لي أن هندا خرجت عند الغروب تتمشى بين الأخبية، ثم جاءت ليلى للسؤال عنها فلما لم تجدها اقتفت أثرها، ولم تعودا من ذلك الحين.»
فقالت: «وأين تذهبان في هذا الليل؟ أخاف أن يكون الحجاج بعث للقبض على ليلى لأنها واطأت حسنا على التنكر.» وخافت سمية إذا بالغت في البحث عنهما أن تنصرف الشبهة إليها، فدخلت خباءها وجلست تفكر فيما مر بها في تلك الليلة من الغرائب. وكلما تصورت أنها نجت بحبيبها وخرجت من معسكر الحجاج يختلج قلبها فرحا.
أما عرفجة فإنه عرف حسنا حالما وقع بصره عليه، فتجاهل وانتظر حتى خرجت ليلى ثم طلب القبض عليه كما تقدم. ففوض إليه الحجاج أن يفعل به ما شاء، فلما ارفض المجلس خرج عرفجة إلى كبير الحراس وأوصاه بأن يبعث بضعة عشر من رجاله بالسلاح يقتفون أثر راوية الشاعرة ويقبضون عليه حيثما وجدوه. وكان عبد الله قد سبق إلى حسن وخرج به إلى ذلك المخبأ.
فلما لم يعثر الحراس على حسن هناك، عادوا إلى عرفجة وأنبأوه بذلك فقال: «إلي بليلى فإنها في أخبية النساء.» فعادوا إليها فرأوها تتمشى مع هند بجوار الأخبية فأشاروا إليها أن تأتي إلى فسطاط الحجاج. فلما سمعت ذلك خافت من انكشاف أمرها ولكنها لم تر بدا من الطاعة، فسارت مع الحراس حتى أتوا الفسطاط والظلام قد عقد قبابه، فلم يدخلوا فسطاط الحجاج بل دخلوا فسطاطا آخر رأت في صدره عرفجة جالسا. فلما رأته استعاذت بالله من شر ذلك المساء، ولكنها كانت جريئة لا تبالي بمن تلاقي، فدعاها إلى الجلوس وقال لها: «أين هو راويتك يا ليلى؟»
فلما سمعت سؤاله أدركت أن أمر حسن قد انكشف فلم تشأ أن تشرك نفسها في ذنبه فيقعان معا فلا تعود قادرة على مساعدته، فعمدت إلى الحيلة وقالت: «وأي راوية تعني؟»
قال: «راويتك الذي يحمل جرابك وقد جئت به اليوم.»
قالت: «وهل دخلت على الأمير ومعي راوية؟»
قال: «لم يدخل معك ولكنه بقي خارجا، ولما مضيت اقتفى أثرك.»
قالت: «وهل يدل ذلك على أنه راويتي؟ وكيف يكون راويتي ولا أدعوه إلى الجلوس في حضرة الأمير؟»
قال: «أراك تتنصلين منه ونحن لا نريد به شرا.»
قالت: «لا يهمني ما تريدون به، ولكني جئت إلى المعسكر بالأمس وليس معي راوية.»
قال: «كان معك رجل يحمل جرابا.»
قالت: «أتعني الرجل الذي يحمل الجراب؟ لقد التقيت به عند دخولي المعسكر ورأيته يسير بجانبي فلم أنتبه لأمره، ولا أعرفه ... ومع ذلك فإذا كنتم تسيئون الظن بمن يبذل نفسه في خدمتكم فلا حيلة لنا فيكم.»
فلما رآها غضبت جعل يخفف عنها ويقول: «نحن لم نسيء الظن بك يا ليلى، وأنت شاعرة الأمير ولك عنده المنزلة السامية، ولكن هذا الرجل قد خدعنا وهو جاسوس دخل معسكرنا ونحن نحسبه راويتك.»
قالت: «وهل الأمير ممن يخافون الجواسيس؟ إن من كان مثله حزما وقوة لجدير بأن يخافه الجواسيس، على أني لو علمت بجاسوس في هذا المعسكر لأطلعت الأمير على خبره.»
قال: «بورك فيك، وأرجو أن تكوني عينا على هذا الرجل، فإذا رأيته فأنبئينا بمكانه، فقد بعثنا من يقبض عليه فلم يقفوا له على أثر ولعله يظهر غدا فاكتمي هذا الآن.» قال ذلك ونهض، فنهضت ليلى وخرجت من عنده قلقة على حسن، وإن سرت لنجاته من قبضتهم. ثم عادت توا إلى سمية وقصت عليها الخبر، فأطلعتها سمية على حديث عبد الله فاطمأن بالها.
قضى حسن ليلته في الخربة التي اختبأ فيها بجانب المعسكر، وهي تطل على الطريق المؤدي إلى مكة، ولم يغمض له جفن لشدة قلقه وتشتت أفكاره. وقد عظم عليه أن يخرج من معسكر الحجاج فرارا ولكنه أدرك أنه يستحيل عليه النجاة بغير ذلك، ولبث حتى الصباح وهو يفكر في وسيلة لإنقاذ سمية من الحجاج.
كان عبد الله قد وعده أن يوافيه في مخبئه ليدله على طريقة للفرار، فقضى ليله في هذه الهواجس، وفي الصباح صعد على أكمة أشرف منها على معسكر الحجاج لعله يرى عبد الله أو رسولا منه ، فرأى بينه وبين المعسكر أرضا خالية وتبين المكان جيدا. وفيما هو يتطلع رأى رجلا قادما على هجين من أطراف المعسكر كأنه آت من الصحراء، ثم اقترب الرجل منه فتبين أنه خادمه عبد الله، فاستبشر بقدومه، فلما وصل عبد الله ترجل وأشار إليه أن يعود إلى الخربة مخافة الرقباء، فقال له حسن: «ما وراءك الآن؟»
قال: «أبشرك أولا بأن الحجاج لم يقرب سمية وإن كان قد عقد قرانه بها.» قال: «وكيف عرفت ذلك؟»
قال: «عرفته عن ثقة، فقد أخبرتني به ليلى الأخيلية، وهي التي ساعدتنا في تدبير الحيلة للخروج.» وذكر له أمر القسم الذي أقسمه الحجاج، فانشرح لذلك صدر حسن، ثم قال: «وماذا دبرتموه للنجاة من بطش الحجاج، إني لأستنكف فرارنا على هذه الصورة، ويخيل إلى أن سمية لا ترضى مني هذا الضعف.»
قال: «إنها لما علمت بنجاتك سرت سرورا عظيما؛ لأنهم لو ظفروا بك لفتكوا بكما معا. ثم أي فائدة من بقائك في المعسكر بعد انكشاف أمرك، وهل تستطيع مقاومة الحجاج وجنده؟ وعلى أي حال قد جئتك بما استقر رأينا عليه في هذا الصباح، وهو أن أترك هذا الجمل عندك وأعود، فتتأهب أنت للرحيل في العشاء وتخرج من وراء هذا التل حتى تطل على الطريق التي تراها أمامك، وستجدني وسيدتي سمية هناك وكل منا على هجين ومعنا المئونة اللازمة للسفر في الصحراء أياما. ومتى بعدنا عن مكة صرنا في مأمن.»
فسر حسن لهذا التدبير، على صعوبة تنفيذه، وقال لعبد الله: «احذر أن يطلع أحد على ما دبرتموه، فتكون الثانية شرا من الأولى. وثق بأنني إن وقعت في هذه المرة فلن يسعني إلا أن أناضل عن سمية حتى أموت بين يديها.»
قال: «لقد أعددنا كل شيء، ولا خوف على سمية؛ لأن الحجاج لا يأتي إلى خباء أهله مطلقا في هذه الأيام للسبب الذي ذكرته لك.»
اطمأن بال حسن وجلس في مخبئه بالخربة يتناول طعاما أحضره له عبد الله، ولم تمض ساعة حتى سمع صوت قعقعة اللجم ووقع حوافر الخيل، فصعد إلى الأكمة وتطلع نحو مصدر الصوت فرأى أكثر من عشرين فارسا قد اكتسوا بالدروع، وفي مقدمتهم فارس ضخم أسود، هو قنبر عبد عرفجة. فلما وصلوا إلى المكان أشار قنبر بيده إلى حسن وقال: «هذا هو فأمسكوه.» فأحاطوا به من كل ناحية، ولم ير حسن بدا من التجلد فقال لهم: «ما بالكم؟ وما الذي تطلبونه؟»
فضحك قنبر مستهزئا وقال: «إن الأمير يدعوك إلى وليمة العرس!»
فاستشاط حسن غضبا من استخفاف العبد به، وقال له: «اخسأ يا عبد السوء.»
وما أتم كلامه حتى أحدق به الفرسان وسيوفهم مسلولة، فوضع حسن يده على قبضة سيفه وقد ثارت الحمية في رأسه وقال لهم: «لا يغرنكم عددكم، ولا تظنوا أني أهاب سيوفكم وخيولكم، فإما أخبرتموني بما تريدون بالحسنى، وإما فلن تنالوا مني شعرة قبل أن يقطر حسامي من دمائكم.» قال ذلك وقد أخذ الهياج منه مأخذا عظيما ولم يعد يبالي الحياة.
فتقدم إليه فارس منهم لا يظهر من وجهه غير عينيه خلال اللثام وقد شهر السيف بيده وقال: «نراك تظهر من الضعف قوة، وما أنت إلا جاسوس نذل لا أحسبك تحتمل ضربة من هذا السيف.»
فلما سمع حسن قوله صعد الدم إلى رأسه وصاح في هذا الفارس قائلا: «أتخوفني بسيفك؟ إنما يخاف السيوف من يخاف الموت، ولست ذلك الرجل. فإذا أردت النزال فانزل نتبارز راجلين، فلا يصح النزال وأنت راكب وأنا راجل. وإذا خفت فانزلوا جميعا وأنا أستعين الله عليكم.»
فضحك الفارس بصوت عال سمعه الجميع، قال وهو يحول شكيمة جواده عن حسن: «لو أن الأمير أمرنا بقتلك لأريتك القتل كيف يكون، ولكنه أمرنا أن نقودك إليه أسيرا، فامش.»
قال: «لا أسير ماشيا وأنتم راكبون، فإما أن أركب معكم أو تمشوا معي!»
فلما رأوا هذه الجرأة منه هابوه وحسبوا له حسابا، وجعلوا يتشاورون فيما يفعلونه. فأشار بعضهم بقتله، وعارض آخرون؛ لأن الأمير لم يأمرهم بذلك. ثم قر رأيهم على مسايرته ريثما يبلغون به المعسكر ويقدمونه فيرى الأمير رأيه فيه.
وكانوا يعلمون أنه يندر أن يساق إلى الحجاج متهم وينجو من القتل؛ فإنه كان سفاكا للدماء حتى أحصوا الذين قتلهم في حياته فبلغوا مائة ألف وعشرين ألفا، ووجدوا في سجونه بعد موته ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب. فرأى الفرسان أن يعاملوا حسنا بالحسنى ويتركوا أمر الإيقاع به إلى الحجاج. فتقدم إليه فارس غير الذي كلمه أولا وقال له: «لو كنا قد أمرنا بقتالك لقاتلناك مشاة أو فرسانا، ويحكم الله بيننا وبينك، ولكننا جئنا لنحملك إلى الأمير.»
قال: «قلت لكم إني لا أسير معكم ماشيا وأنتم راكبون.» وكان قنبر واقفا يسمع كلامه وهو يستغرب صبرهم على جرأته، فلما سمع قوله تقدم إليه وقال بلهجة العبيد ورطانتهم: «امش يا حسن وهل أنت أحسن مني؟»
فلما سمع حسن كلامه جرد سيفه وصاح فيه قائلا: «إذا تكلم الناس فاخرس أنت يا عبد النحس. وإلا فإني مطير رأسك بحد هذا السيف.»
فضحك قنبر حتى بانت نواجذه ثم قال: «بعد قليل نرى من المقتول منا. ولكنك غير ملوم لأن سمية خرجت من يديك، تعال وانظرها بين نساء الأمير.»
فلما سمعه حسن يذكر سمية، عز عليه أن يحتقره ذلك العبد ويهزأ به، فهاج غضبه واستغرب سكوت سائر الفرسان عن وقاحته، ولكنه أمسك نفسه وقال له: «لولا خوفي أن يقال لطخت حسامي بدم عبد لئيم لأطرت رأسك عن جذعك، ولكنني أرجو أن يكون ذلك نصيب مولاك الخائن، فاخرس ولا تخاطبني وإلا فأنت الجاني على نفسك.»
فلم يزدد قنبر إلا قحة واستخفافا، واقترب من حسن ويده على قبضة سيفه وقال: «ألمثلي تقول هذا الكلام يا حسن ثم تعرض بذكر مولاي! والله إني ضاربك ضربة أعلمك بها الأدب والحشمة.» قال ذلك وهم باستلال السيف، فعيل صبر حسن لقحة ذلك العبد وسكوت بقية الفرسان، فجرد حسامه وتلقاه بضربة على عنقه فذهب رأسه يتدحرج على الأحجار.
فلما رأى الفرسان ذلك صاحوا فيه: «لقد حل لنا دمك بعد هذه الجرأة، كيف تقتل هذا الرجل بين أيدينا؟!»
فلم يبال حسن ضوضاءهم وقال لهم: «أتعدون هذا رجلا؟ إن من يعده رجلا لجدير بأن ينال ما ناله، ثم إني رأيتكم سكتم عن قحته فلم يسعني إلا قتله، وقد قلت لكم إني لا أبالي الموت فلا تخوفوني به.» قال ذلك والشرر يكاد يتطاير من عينيه، وظل واقفا وسيفه يقطر من دم قنبر وقد اشتفى قلبه بقتله ويئس من الحياة؛ لأنه لم يكن يتوقع من هؤلاء الفرسان إلا الفتك به، فعزم على الدفاع إلى آخر نسمة من حياته، فإذا مات مات كريما.
على أنه ما لبث أن رأى الفرسان يتسارون، ثم تقدم أحدهم وترجل عن فرسه وقدمه له قائلا: «هذا جوادي فاركبه حتى تأتي المعسكر وشأنك والأمير، وسأركب أنا جملك.»
فلما سمع صوت الفارس عرف أنه خادمه عبد الله، فاستأنس به، وأدرك أنه هو الذي حملهم على الإبقاء عليه. فركب الجواد، وساروا جميعا نحو المعسكر.
وكان السبب في معرفة مكان حسن أن عرفجة لما خرجت ليلى من عنده ولم تطلعه على مقره بعث عبده للبحث عنه في المعسكر، فقضى هذا طول الليل في البحث، وفي الصباح رأى هجانا قادما إلى المعسكر من ناحية تلك الخربة، فلم يعرف الهجان ولكنه شك في أمره، فذهب يبحث في المكان الذي رآه قادما منه، وهناك وقع بصره على حسن وجمله فأسرع إلى سيده فأنبأه بما رأى، فأوعز هذا إلى الحجاج فأرسل كوكبة من الفرسان للقبض على الجاسوس الهارب.
وكان عبد الله قد عاد إلى موقفه مع الحراس، فلما علم بالأمر احتال حتى ألحق بأولئك الفرسان، لعله يستطيع مساعدة سيده، وبذل جهده حتى أبقوا عليه بعد أن قام بقتل قنبر، رغم ما له من منزلة رفيعة عند الحجاج مراعاة لسيده، ولأنه ينفع في مثل هذه المهام.
وقد ساعد عبد الله في بلوغ غايته أن الجند لم يكونوا يحبون قنبر لفرط استبداده وقحته - واستبداد العبيد ثقيل على الطباع - فلما قتله حسن فرحوا فيما بينهم وبين أنفسهم، وإن أظهروا الغضب.
وبعد أن أرسل عرفجة الفرسان دخل على الحجاج في خيمته، وجلسا ينتظران ما يكون، وأخذ عرفجة يمهد للفتك بحسن، فأقنع الحجاج بأنه جاسوس وبأنه إذا بقي حيا فلا يؤمن شره. وما كان الحجاج في حاجة إلى من يوصيه بالقتل، وهو بطبعه شديد الرغبة في سفك الدماء.
وآن وقت الغداء، فلم يشأ الحجاج مغادرة الفسطاط قبل مجيء الفرسان ليرى ذلك الجاسوس الذي بالغ عرفجة في وصف خطره، فلما أحس الجوع أمر بأن يؤتى بالطعام إلى الفسطاط، وكان الحجاج من الأكلة المشهورين في الإسلام أمثال: سليمان بن عبد الملك، وميسرة البراش، وغيرهما، حتى قالوا إنه أكل 84 رغيفا مع كل رغيف سمكة في أكلة واحدة! فلما جاءوه بالطعام دعا من في مجلسه إلى مشاركته فيه، فاعتذروا جميعا تهيبا منه إلا عرفجة فإنه أكل معه، وإن ظل طول الأكل قلقا يفكر فيما دبره لحسن من المكايد. فلما فرغ الحجاج من الطعام رفعت المائدة، وجلس الحجاج صامتا. وكان عظيم الهيبة حسن الفراسة فإذا سكت لبث الذي في حضرته سكوتا كأن على رءوسهم الطير. •••
وفيما هم على تلك الحال، دخل الحاجب وقال: «لقد عاد الفرسان وعما قليل يصلون.»
فقال الحجاج: «وهل الأسير معهم؟»
قال: «لم أر بينهم أحدا ماشيا.»
قال: «لعله جاء على جواد.» قال: «إن بينهم رجلا بلباس غريب، فلعله هو الأسير.»
فنهض عرفجة ووقف بباب الفسطاط يتفرس في القادمين، ولما وقع نظره على حسن عرفه، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يراه فيها بعد مقابلتهما في المدينة.
ولما رأى حسن عرفجة ارتعدت فرائصه من الغيظ، وود لو أن سيفه أصاب عنقه بدلا من قنبر. ولاحظ عرفجة أن قنبر ليس بين القادمين فظنه تأخر في الطريق، وعاد إلى الفسطاط وجلس بجانب الحجاج ثم دخل الآذن وأنبأ الحجاج بوصولهم فقال: «أدخلوا الرجل لنراه.»
فأدخلوه عليه وقد نزع سيفه ووقف بين حارسين أحدهما عبد الله وفي يد كل منهما حربة. ولا تسل عن هواجس عبد الله في تلك الساعة لما يعلمه من رغبة الحجاج في سفك الدماء. وأما حسن فإنه وقف بقدم ثابتة كأنه بين بعض الأصدقاء، والتفت إلى من حوله في الفسطاط فرأى في صدره الحجاج وعرفجة، وإلى الجانبين رؤساء الأجناد وكلهم سكوت تهيبا من الحجاج؛ لأنه قلما رئي ضاحكا، وإذا ضحك فإنه لا يزيد على أن يكشر عن أنيابه. وقد تسمع قهقهته فإذا نظرت إلى وجهه لم تجد فيه أي أثر لغير التجهم والعبوس!
وكان حسن يسمع بظلم الحجاج وشدة وطأته ورغبته في سفك الدماء، ولكنه اعتزم الصبر والثبات حتى الموت، وبقي واقفا برهة لا يخاطبه أحد في شيء والحجاج ينظر إليه ويتفرس فيه ثم قال له: «ممن أنت؟»
قال: «ما أنا من ثقيف ولا من أمية.»
قال: «وماذا تعني؟»
قال: «أعني أني لست من قبيلة الأمير ولا من قبيلة أمير المؤمنين، ومهما يكن من أمري بعد ذلك فليس مما يغير رأي الأمير في...»
فقطع عرفجة كلامه وقال: «أبمثل هذا الجواب يخاطب ولي أمير المؤمنين؟! إنها قحة!»
فلم يصبر حسن على سماع ذلك من عرفجة والتفت إليه وقال: «بل القحة أن يتصدى مثلك للجواب عن مولانا الأمير ويقطع الكلام عليه.»
فأراد عرفجة أن يتكلم فرأى الغضب في وجه الحجاج وهو يهم بالكلام فسكت، وقال الحجاج: «لسنا في مقام جدال، فأخبرني ما الذي جاء بك إلى هذا المعسكر متنكرا؟»
فتحير حسن ولم يدر بم يجيب، وخاف أن يصرح بحقيقة غرضه فيهيج غيرة الحجاج عليه، ولا سبيل بعد ذلك للنجاة، فلبث ساكتا. فاستبطأ الحجاج جوابه فأعاد السؤال فقال حسن: «جئت لأمر يهمني ولا يهم سواي ولا علاقة له بأمر الخلافة أو الإمارة.»
فقال الحجاج: «نرى أجوبتك مبهمة فأفصح.»
فلبث حسن ساكتا، فاغتنم عرفجة فرصة سكوته وقال للحجاج: «إن أجوبته مبهمة لأنه يخاف أن يعترف بفعلته، وهو جاسوس من عبد الله بن الزبير على مولانا الأمير. بل هو عدو أمير المؤمنين يتمنى سقوط دولته ويسعى في ذلك جهده. وإذا شئت أن تتحقق ذلك فاطلب إليه أن يلعن الكاذبين.»
فالتفت الحجاج إلى حسن كأنه يستطلع رأيه فيما قاله عرفجة، فقال حسن: «حاش الله أن أكون كما يقول.»
فقال الحجاج: «إذا كان الأمر كذلك، فالعن الكاذبين : عليا بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد.»
فارتبك حسن؛ لأنه لا يعتقد كذب هؤلاء، ولا يريد أن يلعنهم. وكان يعلم أنه إذا لم يلعنهم فإن هذا يكون حجه عليه فقال: «لا أرى علاقة بين صدق نيتي في خدمة أمير المؤمنين عبد الملك وبين لعن هؤلاء.»
فقال عرفجة: «أرأيت يا مولاي كيف هو خائن غادر يكذب على الأمير كذبا صريحا؟ أما قلت لك إنه جاسوس والجاسوس يستوجب القتل. اقتله يا مولاي وأرح نفسك منه.» قال ذلك وأطرافه ترتعش ولحيته تنتفض في وجهه على صغرها، وعيناه ترتعشان كأنهما قد فت فيهما حصرم.
وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا فراسة ونظر، فأدرك أن تمنع حسن عن اللعن لا يدل على جاسوسيته، ولكنه أعاد السؤال عليه وقال: «لقد صبرنا عليك حتى الآن؛ سألناك عن نسبك فلم تجبنا وهذا ذنب وحده يكفي لاتهامك. ثم سألناك عن غرضك في طرق هذا المعسكر متنكرا فأجبت جوابا مبهما، وكلفناك لعن الكاذبين فأبيت. فهل تتوقع أن نصبر عليك أكثر مما صبرنا؟»
فلما سمع كلام الحجاج أيقن بدنو أجله، ولكنه لم يجزع، وعز عليه أن يشمت به عرفجة، فلبث ساكتا يفكر فيما يفعل، واغتنم عرفجة الفرصة فخاطبه قائلا: «أجب الأمير. ألست جاسوسا خائنا جئت لتكيد لأمير المؤمنين؟»
ثم التفت إلى الحجاج وقال: «إني أعجب لصبر مولاي على هذا الخائن وكيف لم يأمر بقطع رأسه؟!»
فلما تحقق حسن بلوغ الأمر غايته وخاف أن تنفذ حيلة عرفجة فيه فيأمر الحجاج بقتله، اعتزم الإيقاع بعرفجة، فالتفت إليه وخاطبه بقلب جسور وقال: «أتدعوني خائنا وما الخائن إلا أنت؟!»
فوثب عرفجة من مجلسه مغضبا وقال: «كيف تجرؤ على هذا الكذب في حضرة الأمير وهو أعلم الناس بصدق طاعتي وإخلاصي! والله لو أذن لي الأمير لقطعت رأسك بيدي، فإني لأعلم الناس بخيانتك، ويعلمها أيضا غلامي قنبر.» قال هذا ثم تلفت حوله متفقدا عبده قنبر، فلما لم يجده صاح: «أين قنبر؟» فأجابه حسن ساخرا وقال: «لن يجيبك قنبر؛ لأنه نال جزاءه!» فالتفت عرفجة إلى الحراس مستفهما، وقبل أن يسألهم أشار أحدهم بيده إشارة فهم منها أن قنبر قتل بيد حسن فأجفل عرفجة وحملق عينيه وصاح فيه: «وهل قتلت غلامي أيضا؟ ثم تقف غير خائف من القصاص؟!» ثم التفت إلى الحجاج وقال: «أتراه لم يستوجب القتل بعد؟»
فابتدره حسن قائلا: «قتلته لخيانته، وسوف تنال جزاءك بأمر مولانا الأمير متى ثبتت خيانتك.»
فقال عرفجة: «أتتهمني بالخيانة وخيانتك ظاهرة للعيان وقد أضفت إليها جريمة القتل؟»
فلما رآهما الحجاج يتجادلان ويحاول كل منهما إثبات الخيانة على الآخر رأى من الحزم والدهاء أن يصبر حتى يستمع لجدالهما، وإن كان هذا على غير ما تعوده جلاسه منه.
أما حسن فلما رأى الحجاج مصغيا التفت إلى من حوله من الأمراء وقال: «أشهدكم على أن دم الخائن مهدور أيا كان!»
فقال عرفجة: «ما الخائن إلا أنت.»
فتجلد حسن حتى ملك نفسه ونظر إلى عرفجة وقال له بصوت هادئ: «من الخائن منا يا عرفجة؟ أأنا الخائن وأنت الأمين الصادق في خدمة أمير المؤمنين؟»
قال: «وهل في ذلك شك؟»
قال: «وماذا تقول في الكرسي؟»
فلما سمع عرفجة لفظ الكرسي ارتعدت فرائصه وبدت البغتة في وجهه، ولكنه تجاهل ولجأ إلى المغالطة، قال وهو يضحك ويظهر الاستخفاف: «أي كرسي؟ لا شك في أنك تهذي.»
فقال حسن: «أنسيت الكرسي ولهيب ناره يلفح وجهك! أفلم تدرك أي كرسي أعني يا عرفجة؟!»
فتحقق عرفجة اطلاع حسن على حرق الكرسي، ولكنه استغرب ذلك وأنكره وعاد إلى محاولته المغالطة فقال: «ما بالك تهذي يا رجل؟ وأي كرسي تعني؟»
وكان الحجاج ينظر في عيني عرفجة، فلم يخف عليه أنه في ورطة، وبقي صامتا يصغي. فقال حسن: «ألم تفهم أي كرسي يا عرفجة؟ هو كرسي المختار بن أبي عبيد الذي كلفتموني لعنه الآن!»
فازداد تغير وجه عرفجة وقال: «وما شأنه؟ وما علاقة المختار بما تقول؟»
فقال حسن وقد رفع صوته: «ألا تعرف علاقته بك؟ إذا كنت لا تعرف تلك العلاقة، فاسأل محمدا بن الحنفية، وهو قريب من هنا. اسأله أو اسأل من شئت. وإذا أنكرت استنطقنا رماد الكرسي .»
فلما سمع عرفجة هذا التعريض أوجس في نفسه خيفة، ولم يجد سبيلا إلى التخلص إلا أن يمضي في تجاهله ومغالطته فقال وهو يضحك: «أتظن مثل هذه المفتريات تنطلي على مولانا الأمير؟ وهل تظنه يصغي لكلام مختلق لا معنى له ولا أصل؟ إن الأمير إن يكن قد مد لك في حبل الحلم، فما ذلك إلا لكي يأخذك بجريرتك ويجعلك عبرة لأمثالك من الخائنين.»
فقال حسن: «للأمير أن يفعل بي ما يشاء، ولكن ذلك لا ينفي كونك خائنا منافقا. وإذا كنت قد أنكرت أمر الكرسي، فإن أمره معروف، وأهل المدينة يعرفون عنك محافظتك بضعة أعوام على محفة لا يعرف أحد ما فيها. ولم يكن فيها إلا كرسي المختار الذي زعم أنه لعلي بن أبي طالب، واستغله في الدعوة إلى قتال بني أمية من ورائه، فلما مات أخذت أنت الكرسي لنفسك، لتخلف المختار في استغلاله لمناصبة بني أمية العداء ومحاولة إخراج الخلافة منهم إلى محمد بن الحنفية الذي كان المختار يدعو له.»
فقطع عرفجة كلامه وقال: «ما هذا إلا اختلاق.»
فقال حسن: «إن ابن الحنفية شاهد على ذلك، ومهما يكن من أمره فيما يختص بالخلافة فلا يشك أحد في صدقه، وإذا كان شعب علي بعيدا من هنا، ففي المسجد بمكة من شهدوا حريق الكرسي معي، وشهدوا الإهانة التي لحقت بعرفجة النزيه الصادق من محمد بن الحنفية حين جاءه مستأذنا في الدعوة إلى بيعته وخلع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان!»
ولم يتم حسن كلامه حتى ضج من في الفسطاط، ومال الحجاج إلى تصديق حسن، وكان الحجاج مع تقريبه عرفجة لا يجهل خبثه ونفاقه، ولكنه إنما قربه لأنه يحتاج إلى أمثاله في بعض أغراضه. فلما رجح ثبوت هذه التهمة عليه صمم على قتله، ولكنه أجل ذلك ليرى ما يكون.
أما عرفجة فلما غلبته الحجة عمد إلى المواربة فقال وهو يظهر التعقل والهدوء: «يلوح لي أن أمير المؤمنين سكت عما سمعه من هذا الرجل كأنه مال إلى تصديقه .»
فقال الحجاج: «وهل تحسبه اختلق ذلك كله اختلاقا؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فقال الحجاج: «لا يعقل أنه يفعل ذلك، ولا سيما أنه يستشهد أناسا معروفين. ثم ما الذي يدعوه إلى هذا الاختلاق؟»
فقال: «يدعوه إلى ذلك أمر أفظع من خيانته، ولو أني ذكرته لك ما ترددت في صلبه!»
فقال: «وما ذلك؟»
قال: «إني لأضن بعرض أمير المؤمنين أن يذكر في مثل هذا المقام، فإذا أذن مولاي في خلوة ذكرت له السبب، وأنا ضامن أنه يقتنع ببراءتي.»
فقطب الحجاج حاجبيه وأشار بيده فخرج كل من في الفسطاط من الأمراء والحراس وبينهم حسن، وقد سر لما رآه في وجوه الأمراء من دلائل نقمتهم على عرفجة لفظاظته وسوء سريرته. وإن أظهروا له غير ذلك خوفا من الحجاج. وفاتهم أن الحجاج نفسه لم يكن يثق به.
فلما خلا عرفجة بالحجاج أخذ يقص عليه حديث حسن مع سمية ثم قال: «وقد كنت أعدها لخدمة مولاي بعد أن طلبها منذ أعوام، فجاء هذا الشاب وخدعها بحبه، وهي فتاة لا تدرك أمور الدنيا، فانخدعت بظاهره، وكادت توافقه على أن تفر معه لو لم أطلع على فعلته، فسعيت في قتله بمساعدة طارق بن عمرو عامل المدينة. وهذا طارق بين يدي مولاي ينبئك بصدق قولي. ولكن الرجل الذي أنفذناه لقتله لم يظفر به، فنجا ثم جاء متنكرا إلى معسكر الأمير بعد أن علم بزفافها إليه ليحاول أن يخدعها مرة ثانية، ولكني رأيته ساعة مجيئه مع ليلى بالأمس، وبعثت من يأتون به، فعلمت أنه سار إلى جهة أخبية النساء، وقد شق على أن أصرح بذلك لمولاي الأمير لئلا أكدره، فاكتفيت بأن ذكرت أنه جاسوس، لعلمي بأنه صاحب الكتاب الذي جاءنا به الفتى الثقفي منذ حين وظنناه قتله. ثم علمت بأنه فر إلى الخربة المجاورة فأرسلنا الفرسان للقبض عليه، ويؤيد صدق قولي، أنك لما سألته عن سبب مجيئه إلى هنا لم يستطع جوابا.»
فرأى الحجاج كلام عرفجة معقولا، ولكنه رأى التهمة الموجهة إليه معقولة أيضا فلم ير خيرا من التريث حتى ينجلي له وجه الصواب. فأمر بسجن حسن ، وتظاهر بأنه اقتنع ببراءة عرفجة.
سيق حسن إلى خيمة أفردوها له في طرف المعسكر، ووقف ببابها حارسان مسلحان. فلما تركوه فيها بعد أن شدوا وثاقه أيقن باستحالة النجاة، وجعل يفكر فيما مر به وما كان من أمر عرفجة معه، فرأى أن الحجاج لم يقتنع كل الاقتناع بخيانة عرفجة، وأدرك أن هذا يستعديه عليه من طريق إثارة غيرته، والغيرة تعمي وتصم.
وقضى حسن في ذلك بقية يومه، وجاءوه بالطعام فلم يتناول منه شيئا، ثم قضى ليلته ساهرا وخيال سمية أمام عينيه، وفكره يبحث عبثا عن وسيلة إلى النجاة بنفسه وسمية.
وفيما هو متوسد على حصير من سعف النخل وقد أثقلته الأغلال، سمع وقع أقدام خفيفة في الخيمة، ثم صوتا يهمس في أذنه قائلا: «لا تخف يا مولاي إني خادمك عبد الله.»
وحاول أن ينهض فأعانه على ذلك عبد الله ثم قال له: «لقد احتلت حتى جعلوني أحد الحارسين المنوط بهما تناوب مراقبتك، وأنا الآن في نوبة السهر على حراستك. وقد نام رفيقي فدخلت لأسألك عما تريد.»
فقال حسن: «لا أريد شيئا ولا رغبة لي في النجاة، إلا إذا نجت سمية معي.»
فقال عبد الله: «وما حيلة الحر الأعزل يا مولاي إذا وقع بين أيدي من لا يتورعون عن قتله ظلما وعدوانا، مستعينين بكثرة عددهم وعدتهم؟! أيسلم نفسه لهم طوعا، أم يحاول الخلاص من أيديهم بأي وسيلة؟»
قال: «أتريد أن أفر من المعسكر وحدي وأترك سمية في بيت الحجاج؟ وهل تحسب أن حياتي بعيدا عن سمية مما أحرص عليه؟»
فقال عبد الله: «لا يا مولاي، لست أعني أن تخرج وحدك، وإنما أعني البحث عن وسيلة تخرج بها أنت وسمية معا. ولا عار في الفرار من وحش كاسر لا يعرف الحق ولا يراعي العدل.»
فسكت حسن، واستأنف عبد الله الكلام فقال: «سأذهب غدا إلى خباء النساء لاستطلاع الأمر، ثم أعود إليك بما يستقر عليه الرأي. فدع القنوط وكل واشرب حتى يأتي الله بالفرج.» ثم ودعه وخرج .
وشعر حسن بالارتياح وأعجب بغيرة عبد الله وصدق مودته، ثم مكث في اليوم التالي ينتظر رجوعه.
وكانت سمية قد واعدت عبد الله على الخروج معه في مساء الأمس، ثم سمعت خبر القبض على حسن والرجوع به إلى المعسكر، وسجنه، وما لبثت أن رأت الجند قد أحدقوا بخبائها ومعهم السلاح، فأيقنت أن الحجاج اطلع على سر قدوم حسن إلى معسكره فتحققت وقوعها في الخطر، ودعت إليها أمة الله جاريتها، وكانت هي التي أخبرتها بسجن حسن، فجاءت وهي تظهر عدم المبالاة، فقالت لها سمية: «هل رأيت الجند المحدقين بنا إحداقهم بالقتلة المجرمين؟»
قالت: «رأيتهم. ولكن ما لنا ولهم؟»
فقالت سمية: «أتتجاهلين يا أمة الله؟ ألا ترين أنهم سجنوني كما سجنوه؟ وهل تشكين في أن ذلك العاتي قد اطلع على ما بيني وبين حسن فلم يبق إلا أن يفتك بنا؟!»
قالت: «لا أظنه يفتك بك.»
فقطعت كلامها وقالت: «تظنينه يستبقيني لمأربه الدنيء! ولكن ما أنا مبقية على نفسي. أين السم الذي حفظته لي؟ لقد آن وقته!» وكانت أمة الله قد أخذته لتحفظه عندها.
قالت: «لا أظن وقته أزف يا مولاتي، وحسن لا يزال على قيد الحياة، ومن يدري ما يأتي به الغد؟»
قالت: «أتتوقعين لحسن البقاء وقد وقع في قبضة هذا الظالم الذي لا يرى فيه إلا مناظره على عروسه؟ آه يا أمة الله! يا ليتني ظللت على يأسي الماضي ولم أعلم ببقاء حسن حيا! إن هذا لن يعفيه من القتل. فكيف أبغي الحياة في بيت رجل قتل حبيبي؟»
فقطعت أمة الله كلامها وقالت: «إنه لم يقتله بعد يا مولاتي. وعسى الله أن ينقذه من بين يديه فإن الله قادر على كل شيء.»
قالت: «نعم إن الله قادر على كل شيء، ولكن أليس حسن في حكم المقتول الآن؟» قالت ذلك وخنقتها العبرات.
فاحتارت أمة الله، ولم تدر بم تعزيها عن توقع قتل حبيبها، ولم تستطع لومها على تفكيرها في الانتحار حتى لا تبقى في بيت قاتل حبيبها، فظلت ساكتة، واستأنفت سمية الكلام فقالت : «أين السم؟ أعطيني إياه.»
فتغير وجه أمة الله وتناثرت الدموع من عينيها وقالت: «دعي السم الآن فإن وقته لم يأت بعد.»
قالت: «أعطيني إياه، وأعاهدك على أني لا أتناوله إلا بعد أن أقطع الأمل من بقاء حسن.» ثم أطلقت لنفسها عنان البكاء، فبكت أمة الله معها، ولكنها أشفقت عليها من الاسترسال في الحزن على هذه الصورة فكظمت ما في نفسها وقالت: «أتعدينني أنك لا تتناولين السم إلا بعد وقوع الخطر حقيقة؟» فلما عاهدتها على ذلك خرجت ثم عادت وناولتها ورقة فيها المسحوق السام. فتناولته منها وقبلته وهي تقول: «أنت هو منقذي من أحزاني ومتاعبي. أنت وحدك معيني على قهر ذلك العاتي وإنقاذي منه.»
وكان الحجاج قد أمر بإخراج النساء من الخباء إلا سمية وخادمتها وأمر الحراس أن يحدقوا به وهم في غفلة عن سبب ذلك، فكانت سمية تصيخ بسمعها من جدران الخباء لما يتحدث الحراس به. وسمعتهم يتحدثون بما أظهره حسن من الشهامة وعزة النفس وما ظهر في كلام عرفجة من التلاعب والغدر. وكانت كلما سمعت ذلك منهم رقص قلبها فرحا، ولكنها لا تلبث أن تعود إلى هواجسها.
أما عبد الله فلما جاء إلى سمية ليخاطبها في أمر الفرار رأى الحرس محدقا بخبائها فعاد ولم يرها، وأخبر حسنا بما كان فازداد الأمر تعقيدا عنده ففزع بآماله إلى الصبر والتسليم للأقدار. •••
قضى حسن أياما على هذه الحال، ثم حدث أن رأى نفسه فيما يرى النائم وكأنه يقول لبلال خادمه الذي تركه في مكة: «إذا استبطأتني فاطلبني في معسكر الحجاج.» فلاح لحسن أن يكون بلال جاء المعسكر ولم يعلم بمكانه. فلما دخل عبد الله عليه ذكر له هذا الأمر ووصف له بلالا وقيافته فقال عبد الله: «رأيت في هذا المعسكر عبدا أظنه هو الذي تعنيه ويظهر أنه يفتش عن ضائع ولم ينتبه له أحد؛ لأن الحجاج وحاشيته وسائر الأمراء يتأهبون للهجوم على ابن الزبير مرة واحدة، ولولا ذلك لكشف عرفجة أمره واتهمه بالجاسوسية.»
فقال حسن: «يهمني أمر هذا العبد، فاستقدمه إلي على عجل.» فخرج عبد الله فرأى بلالا فاغتنم اشتغال الناس بالتأهب وجاء به إلى السجن متظاهرا بأنه يحمل له طعاما، فقال بلال لحسن: «لقد بحثت عنك حتى يئست من لقائك وكدت أرجع خائبا. فالحمد لله على أني رأيتك ولو في السجن ...»
فقال حسن: «وماذا وراءك؟»
قال: «جئت إليك في مهمة مستعجلة وأخشى أن يكون قد فات أوانها.»
قال: «وما هي؟»
قال: «استدعاني ابن صفوان إلى منزل عبد الله بن الزبير في مكة وسألني عنك، فلما أجبته بأنك لم تعد بعد قال: «إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير يحب أن يراك لأمر ذي بال خاطبه في شأنه منذ بضعة وعشرين يوما، وهو يريد الآن أن يعهد إليه في أمر مهم.» فجئت على عجل وقد قضيت ثلاثة أيام في البحث عنك حتى جاءني عبد الله كما رأيت.»
فقال حسن: «ابن الزبير يطلب أن يراني في مكة؟!»
فقال: «نعم يا مولاي وقد ألح علي كثيرا، وقال إن الوقت ضيق.»
فأطرق حسن وأعمل فكرته فتبين له أن ابن الزبير إنما طلبه في شأن خطبة أخته رملة لخالد بن يزيد، وتذكر أنه إنما جاء الحجاز لأجل هذا الأمر، ولكنه لم يدر كيف يجيب الدعوة وهو سجين، فالتفت إلى عبد الله وقال: «إنك عرضت علي منذ أيام أن تخرجني من هذا المعسكر، فهل تستطيع هذا اليوم؟»
قال: «ذلك سهل علي في أي وقت تشاء، وإني أفديك بروحي.»
فقال: «لا أبغي الفرار وإنما أبغي الخروج الليلة لمقابلة ابن الزبير ثم أعود في الصباح إلى محبسي.»
فأعجب عبد الله بعزة نفسه وقال له: «افعل ما بدا لك فإني رهن إشارتك.»
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فقال عبد الله: «تمهل قليلا حتى يجيء الليل فأعطيك ثوبي فتلبسه وتخرج به وألبس أنا ثوبك وأحل محلك هنا ريثما تعود، وسوف لا يشك من يراك أنك من حراس الحجاج. فتظاهر بأنك ذاهب في مهمة إلى ابن الزبير، وإذا رأيت أن تبقى هناك على أن ألحق بك، فافعل.»
فأعجب حسن بمروءة عبد الله وتضحيته في سبيل نجاته، فقال: «بورك فيك من صديق صادق، أخاف أن أصاب بسوء فلا أعود فتقع أنت تحت طائلة العقاب.»
قال: «إذا أصابك سوء، فلن يبقى لي مأرب في الحياة. على أن القوم يعتزمون الهجوم غدا على ابن الزبير، فما أظنهم ينتبهون لخروجك، ولن أجد مشقة في إطلاق نفسي من السجن.»
فقطع حسن كلامه وقال: «أما رجوعي فلا بد منه؛ لأني لا أستطيع أن أترك سمية.» قال ذلك وصمت بغتة كأن فكرا جديدا طرق ذهنه ثم قال: «لا بد لي من الانتقام من أبيها الخائن.» ثم التفت إلى بلال وقال له: «أتذكر ما رأيناه خلسة من خيمة صاحبك سعيد في فسطاط محمد بن الحنفية؟»
قال: «أتعني حكاية عرفجة والكرسي؟»
قال: «إياها أعني، فهل تستطيع الحصول على كتاب من محمد بن الحنفية إلى الحجاج يشهد فيه بأن عرفجة جاء بذلك الكرسي وعرض عليه أن يدعو إلى بيعته أهل العراق ليخلعوا بيعة عبد الملك بن مروان؟»
قال بلال: «ذلك شيء يسير، فإني صديق قديم لسعيد، ولهذا دالة عليه.»
فقال حسن: «إذن اذهب الآن إلى شعب علي، واسلك أقرب الطرق إليه، فإذا حصلت على الكتاب فعجل بالعودة به إلى هنا، حيث أكون قد عدت بعد مقابلة ابن الزبير.»
فخرج بلال وسار في مهمته. وخرج عبد الله إلى المعسكر فوجد القوم يتأهبون للقتال في صباح الغد، ورأى زميله واقفا بباب الخيمة ينظر إليهم متحسرا على حرمانه من الذهاب معهم ليصيب بعض الغنيمة. فقال له: «إذا شئت اللحاق بالجند فافعل وأنا أبقى هنا لحراسة السجين.» فسر الرجل وشكره وانصرف.
ولما غابت الشمس دخل عبد الله على حسن فألبسه ثيابه وسلمه الحربة، ثم لبس هو ثياب حسن وجلس مكانه. فخرج حسن قاصدا إلى مكة، ولم يشك فيه أحد لظنهم أنه من الحراس ولانشغالهم بالتأهب للهجوم على مكة.
الفصل الخامس عشر
أم ابن الزبير
دخل حسن مكة دون أن يعترضه أحد، ولاحظ أن أسواقها خالية من الناس، غير أنه ما كاد يشرف على المسجد حتى وجد الناس قد ازدحموا فيه وفيما جاوره من المنازل، فعلم أنهم يتوقعون شرا ولم يفتهم ما نواه الحجاج. فسار توا إلى منزل عبد الله بن الزبير فرأى الناس يتدافعون عند بابه، وسأل عن ابن صفوان فعلم أنه في خلوة مع ابن الزبير، فوقف مع الواقفين حتى مضى معظم الليل، فمل الانتظار وشق طريقه بين الناس ملتمسا الحجرة التي فيها عبد الله، فلما بلغها سأله الخدم عما يريد، فذكر أنه يريد مقابلة أمير المؤمنين لأمر ذي بال، فأبلغوا أمره إلى ابن صفوان، فخرج إليه وما كاد يراه حتى رحب به، فسأله حسن: «أين أمير المؤمنين؟»
قال: «تركته يصلي الفجر.»
قال: «لقد جئت لمقابلته إجابة لطلبه.»
فقال: «نعم لقد طلب أن يراك لأمر يريد أن يسره إليك. وسوف أدخلك عليه.» قال ذلك وعاد إلى الحجرة ومكث حسن في انتظار عودته في فناء البيت وهو يتوقع أن يطول غيابه لعلمه بطول صلاة ابن الزبير مذ رآه يصلي في المسجد من عهد قريب.
على أن انتظاره لم يطل، وسرعان ما عاد ابن صفوان وأشار إليه أن يتبعه، فمضى وراءه حتى دخل الحجرة فوجد عبد الله واقفا وسطها وقد تقلد الحسام ولبس الدرع تحت جبة خز، وتحتها سراويل ومنطقة، وقد فاحت منه رائحة المسك. فهم حسن بتقبيل يده، فلم يمكنه من ذلك ورحب به، ثم أشار إلى ابن صفوان فخرج، وأقفل عبد الله الباب نفسه، فاستغرب حسن ذلك ولبث واقفا ينتظر ما يبدو منه، فرآه يتجه إلى وسادة على طنفسة هناك فجلس وقد وضع سيفه مستعرضا على ركبتيه وأسند ذراعيه عليهما فوقه، وأشار إليه أن يجلس بجانبه، فجلس صامتا.
وظل عبد الله مطرقا وهو يلاعب لحيته بين أنامله، ثم التفت إلى حسن وقال له: «ما أظنك حصلت على كتاب من خالد.»
قال: «إن الرسول لم يعد بعد.»
قال: «وما أظنني أراه ولو عاد من الغد.»
فقال حسن دون أن يدرك قصده: «كيف لا وهو رهن إشارة أمير المؤمنين؟»
قال: «على أي حال، لقد أيقنت بصدق رغبة خالد في الزواج من أختي، وإنه فيما علمت لأفضل القوم، فإذا لقيته فأوصه عني بها خيرا، واذكر له أن مصاهرته لآل الزبير جاءت متأخرة، ولو أنه عجل بها بضعة أعوام لما استطاع بنو مروان الاستبداد بالأمر، بما لا ينطبق على كتاب الله ولا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» قال هذا وقد ظهر التأثر في عينيه وخشن صوته، ثم واصل كلامه قائلا: «ليت شعري كيف يسود العتاة الظلمة؟ وكيف يتغلب قوادهم المنافقون الذين يرمون بيت الله بالحجارة على رجال يعبدون الله ويعملون بكتابه؟!»
فأدرك حسن أنه يئس من الفوز، وأراد أن يستطلع ما اعتزمه فقال: «لا يخفى على مولاي أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء. ولا عجب في أن تكون الغلبة في الدنيا لمن همهم الدنيا، فقد كانت الغلبة لمعاوية على الإمام علي صهر الرسول وابن عمه، وقد فتك ابن زياد بالحسين وآل بيته؛ ذلك لأن الدنيا شيء والآخرة شيء آخر، وقد انقضى العصر الذي ساد فيه الحق والدين والتقوى، وأصبح الحكم الآن لا يتولاه غير أهل الدهاء والسياسة و...» ولما بلغ إلى هنا بلع ريقه وبدا في وجهه أنه أراد التصريح بشيء ثم توقف خوفا أو حياء. فنظر عبد الله إليه نظرة من يتوقع إتمام الكلام، فأتم حسن كلامه قائلا: «ولا أخفي على مولاي أن آل مروان، وآل أبي سفيان قبلهم، لم يخلص لهم الملك دون بني هاشم وغيرهم إلا بالدهاء والسياسة وبذلهم المال لدعاتهم وأنصارهم.» فلما ذكر المال بدا الانقباض في وجه عبد الله وقال: «لا تذكرني بالمال وأمره فقد كنت شحيحا به لأنه مال بيت الله، ولعلي لو بذلته للأحزاب لم يستطع ابن مروان الاستبداد بالأمر دوني، ولكني لا ألتمس الدنيا بالباطل ولا ابتياع الأنصار بالمال.»
فقال حسن: «لو أن مولاي أصغى لمشورة الحصين بن نمير يوم وفاة يزيد لما صار الأمر إلى بني مروان ...»
فقطع عبد الله كلامه وقال: «سمعتك تذكر هذا الأمر قبل اليوم، ولقد سمعته كذلك من كثيرين، على أني لو أطعت الحصين ورافقته إلى دمشق لما بايعني بنو أمية؛ فهؤلاء شق عليهم أن يبايعونا في ديارنا وبين أهلنا، فكيف لا يكون ذلك أشق عليهم في ديارهم وبين أحزابهم. ومع ذلك فقد قضي الأمر. وما بعثت إليك إلا لأوصيك بأختي خيرا، فأوص بها خالدا، وأبلغه عني أني أوصيه كذلك بأن يدع أمر الخلافة فإنها شاقة على أهل الدين في هذا الزمان، وليشتغل بما هو مشتغل به من العلم والكيمياء فذلك خير له وأجدى عليه. ولا أخفي عليك أني قطعت الأمل في الفوز بعد أن نبذني الأهل والأصدقاء خوفا من الموت، ولو أني طلبت الدنيا لما امتنع علي الحصول عليها، ولكنني أطلب الآخرة، وقد دعوت الناس إلى الحق فلم يصغوا، فلم يبق إلا أن أتركهم وشأنهم. وقد أنبأني الجواسيس بأن الحجاج وقومه عزموا على مهاجمتنا في الغد، ويفعل الله ما يشاء.» قال ذلك وغص بريقه فتشاغل بإصلاح غمد حسامه، ثم وقف وقال: «تعال معي إلى أمي لأخبرها بما استقر عليه الرأي في شأن رملة.»
فوقف حسن ومشى في أثره وقد لاح ضوء الفجر، فدخلا حجرة رأى حسن في صدرها امرأة عجوزا عرف أنها أسماء ذات النطاقين أم عبد الله، وهي بنت أبي بكر الصديق، وأخت عائشة زوج النبي. وكانت قد كف بصرها وبدا الهرم في وجهها، فحياها عبد الله وقبل يدها، فقبلته وتنهدت ثم قالت: «ما وراءك يا بني؟ ما لي أشم منك رائحة الحنوط؟»
قال: «إني أتحنط كل يوم استعدادا للموت. وأما الآن فقد جئتك بحسن الذي ذكرت لك قدومه من عند خالد بن يزيد لخطبة أختي رملة وقد أخبرته بقبول الخطبة فإن خالدا لأهل لذلك.»
فرفعت رأسها وهي تجيل عينيها المطبقتين كأنها تحاول أن تنظر إلى ابنها، ونظر حسن إلى وجهها وقد تغطى جانباه بالنقاب فرأى دمعتين تقطرتا من جانبي أنفها بغير أن يبدو للبكاء أثر في وجهها. فلم يستغرب صبرها وتجلدها لما سمعه من ثبات جأشها وقوة قلبها. ثم قالت: «لقد صنعت خيرا يا بني.» وسكتت وكأن في نفسها شيئا تكتمه ثم قالت: «في أي ساعة نحن من الليل الآن؟»
قال عبد الله: «نحن في الصباح.» وما أتم كلامه حتى سمع في الخارج دوي شديد أعقبته صيحات الاستنكار من الواقفين بالباب الخارجي للمسجد، فأدرك حسن أن الهجوم قد بدأ، وأن ما سمعوه هو صوت وقوع حجارة المنجنيقات على الكعبة. ونظر إلى عبد الله فإذا هو قد تغيرت سحنته وبان القنوط في وجهه ثم التفت إلى أمه وقال: «لقد بدأ أعداؤنا هجومهم الأخير يا أماه، وقد آليت ألا أفعل أمرا إلا استشرتك، فبماذا تشيرين؟»
فنظر حسن إلى أسماء وتفرس في وجهها فإذا هي تزيح النقاب عن وجهها، ثم قالت وشفتاها ترتجفان من الشيخوخة لا من الخوف: «أنت أعلم بنفسك يا بني، فإن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك. ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية. وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت: «كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت.» فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين!»
فقال عبد الله: «إنما أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي.»
فقالت: «يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ، فامض واستعن بالله.»
فقبل عبد الله رأسها وقال: «هذا رأيي الذي أصر عليه حتى اليوم، ووالله يا أماه ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى ذلك الأمر إلا غضبتي للحق، ولقد زدتني برأيك هدى وبصيرة.» ثم سكت قليلا، وقال: «اسمعي يا أماه، إني أشعر بأني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إيثار منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد. ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي.»
فقالت وقد بان الجد في جبينها: «أرجو أن يكون عزائي فيك جميلا. إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك. فامض لشأنك، والله معك، ولئن قتلت ففي سبيل الله.»
ثم اتجه عبد الله إلى حجرة أخرى ليودع أخته، وظل حسن واقفا في انتظار عودته، فسمع أسماء تتأوه وقد رفعت وجهها وقالت:
اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين.
فاستغرب حسن صبرها وقوة إيمانها. ثم عاد عبد الله إليها وهم بتقبيل يدها، فأمسكت بيده وضمته إلى صدرها قائلة: «هذا وداع فلا تبعد.»
فقال: «إنما جئت مودعا فكأني بهذا اليوم آخر أيامي من الدنيا.»
فخفق قلب حسن تأثرا، وترقرق الدمع في عينيه، ونظر إلى أسماء فإذا هي لم يبد في وجهها ما يدل على التأثر، فعلم أن ثباتها فوق ما كان يسمعه عنها، ثم ما لبث أن سمعها تقول لعبد الله: «امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك.» فدنا منها وعانقها فعانقته وأحاطت يديها بخصره وقبلته فوقعت يدها على الدرع فنفرت وقالت: «ما هذا صنيع من يريد ما تريد!» فقال عبد الله وقد بدا الخجل في وجهه: «ما لبسته إلا لأشد به متني.» فقالت: «إنه لا يشد متننا. البس ثيابك مشمرة.» فمد عبد الله يده إلى الدرع ونزعها، ودرج كميه، وشد أسفل قميصه وجبته تحت ثنيات سراويله وأدخل أسفلها تحت المنطقة، ثم خرج.
الفصل السادس عشر
مقتل ابن الزبير
خرج حسن في أثر عبد الله بن الزبير وقد عزم على البقاء معه حتى النهاية. وشعر عبد الله بذلك، فالتفت إليه وقال: «ناشدتك الله ألا تعرض نفسك للقتل.»
وكان حسن على يقين من فوز جند بني أمية، لكثرتهم واتحادهم، ولكنه ظل سائرا في أثره حتى خرجا من المنزل، فلما وقع نظر عبد الله على المنتظرين هناك وقد تهيأوا للقتال وغطت الدروع أبدانهم، قال لهم: «اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم.» ولما كشفوها علم أنهم بقية أهله فقال: «يا آل الزبير لو طبتم بي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله. فلا يفزعكم وقع السيوف؛ فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونوا وجوهكم، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني فمن كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.»
وبقي حسن حائرا لا يستطيع الاشتراك في القتال، نزولا على رغبة ابن الزبير. وحتى لا يراه الحجاج أو بعض رجاله فيثبت لديهم ما اتهمه به عرفجة. فآثر الالتجاء إلى المسجد حتى تنتهي المعركة. فلما مضى عبد الله ومن معه إلى القتال التفت فرأى أعلام بني أمية قد ملأت الطرقات، فسارع إلى المسجد الحرام، ولكنه لم يستطع الدخول؛ لأن الحجاج كان قد أوقف ببابه أناسا ليمنعوا الناس من دخوله، فدخل منزلا إلى جوار المسجد وأطل من كوة فيه فرأى ابن الزبير يناضل مناضلة الأسود، وينتقل في المعمعة من جهة إلى أخرى، وبجانبه ابن صفوان يدافع عنه، ثم سمع عبد الله يقول: «ويلمه فتحا لو كان له رجال.» فقال له ابن صفوان: «أي والله وألف.» فحدثت حسن نفسه بأن يمضي إليهما ويقاتل معهما، ثم لاحت منه التفاتة فرأى الحجاج قد ترجل وأقبل يسوق الناس إلى مقاتلة ابن الزبير بعد أن رآهم لا يقوون على الوقوف بين يديه، وكان حامل علم ابن الزبير يقف بباب شيبة من أبواب المسجد، فهجم الحجاج عليه بمن معه، فرآهم ابن الزبير فسارع إلى صدهم عنه، واستمر القتال على أشده بباب المسجد، ثم دخله الفريقان، ولم يمض قليل حتى استطاع الحجاج ورجاله قتل صاحب العلم وأخذوه منه، فتفرق رجال ابن الزبير من حوله، ولكنه ظل يقاتل حتى قتل هو وابن صفوان، ثم رأى حسن رجلا أسرع إلى جثة عبد الله وحز رأسه وحمله إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج الرأس سجد وأكرم صاحب البشارة. ثم أمر بأن يحمل رأسا ابن الزبير وابن صفوان إلى المدينة، وبأن تصلب جثة ابن الزبير في الحجون - وقد صلبوها أياما - وهكذا أيقن حسن بانتصار الحجاج، وتذكر أن سمية عنده في المعسكر، فرأى أن يسارع إليها فيه ، فإما نجا بها، وإما عاد إلى محبسه، وسرعان ما تسلل إلى المعسكر، وهو يحاذر أن يراه أحد ممن يعرفونه فيحبط مسعاه، وقال في نفسه: «لقد خلا الجو لعبد الملك بن مروان وأصبحت الخلافة لا ينازعه فيها منازع.» وكان حسن كلما دنا من معسكر الحجاج تمثلت له النجاة بسمية هينة، فمشى وهو لا يزال بلباس الحرس والحربة بيمينه فلا يشك الذي يراه عن بعد أنه من حرس الحجاج، فلما دخل المعسكر لم ير فيه إلا نفرا قليلا من الحامية. فالتمس خباء النساء وقلبه يخفق لما يتنازعه من عوامل الرجاء والخوف الحياء والشوق. فبينما هو يرجو السعادة بالفرار بسمية كان يعد الفرار عارا، ولكنه هونه على نفسه؛ لأنه لا يرى غير الفرار سبيلا إلى نجاته وإلا فإنه سيكون سببا لتعاسة سمية أو قتلها. فمشى في طريقه إلى المعسكر، وهو في ملابس الحراس التي أخذها من خادمه، فلما بلغه رأى أن يذهب أولا إلى خيمة السجن ليرى ما تم في أمر خادمه الأمين وليستعين به على إنقاذ سمية، فلما بلغ الخيمة رآها خالية، فوقف برهة يفكر في الأمر، ثم رأى أن يعجل بالذهاب إلى سمية في الخباء لئلا تفوت الفرصة. وفيما هو سائر وقد أوشك أن يبلغ الخباء سمع صوت أبواق، فالتفت فرأى جماعة من الفرسان عائدين من مكة، فأسرع في مشيته ليبتعد عنهم. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فلما أطل على الخباء لم ير حوله أحدا، وخشي أن تحول بغتة سمية دون ما يبغيه من سرعة الخروج بها؛ لأنها لم تره منذ خروجه من المدينة، فتمهل في سيره، وأخذ يبحث لمعرفة مدخل الخباء ومخرجه، وهل سمية وحدها، أم عندها أحد من النساء أو الخدم أو غيرهم.
وفيما هو يدور حول الخباء سمع خفق نعال فيه، فأصاخ بسمعه فرأى شبحا خارجا، وما تفرس فيه حتى أدرك أنه أمة الله جارية سمية، ولم يكن قد رآها من قبل ولكنه سمع بأوصافها، أما هي فكانت قد رأته في دار عرفجة بالمدينة، فلما رأته والحربة في يمينه وعليه ثياب حراس الحجاج، استعاذت بالله، ثم ما لبثت أن تفرست فيه فعرفته وقالت: «حسن؟!»
قال: «نعم. أين مولاتك؟»
قالت: «هنا». وأشارت إلى الخباء الذي خرجت منه.
قال: «وكيف حالها؟» قالت: «إنها في حال تدعو إلى الرثاء حزنا عليك، وخوفا من ذلك الظالم ولا سيما بعد أن فرغ من الحرب، وقتل ابن الزبير، فتحلل بذلك من قسمه.»
فاضطرب حسن وهم بالدخول إلى الخباء ولكنه خشي أن تسيء البغتة إلى سمية فقال لأمة الله: «ادخلي وأنبئيها بقدومي لنخرج معا من هنا الآن.»
فدخلت أمة الله، ولم يصبر حسن إلا قليلا ثم دخل في أثرها فوجد سمية جالسة وهي تفرك عينيها بأناملها وتنظر إلى أمة الله وتقول: «أصحيح ما تقولين؟ حسن هنا؟! حسن جاء؟! لا ... لا ... إنك تمزحين، أو أنا في حلم!»
ولاحظ أنها قد تغيرت وامتقع لونها لفرط ما قاسته، فازداد خفقان قلبه، وأجابها بدلا من أمة الله فقال: «بل أنت في يقظة يا حبيبتي، وها أنا ذا جئت لإنقاذك، هلم بنا نخرج الآن من هذا المعسكر. هيا يا سمية فإن الوقت ضيق والخطر قريب.»
فوقفت وركبتاها تصطكان، ولبست نعالها والتفت بعباءتها، وقالت وهي ما زالت مذهولة: «ما أحسن هذا اللقاء! هلم بنا.»
وكانت أمة الله مشتغلة بأخذ بعض الطعام للتزود به خلال الرحيل، ولكنها كانت أكثر منهما انتباها لما حولها. فسمعت وقع حوافر خيل قادمة من بعيد فأسرعت إليهما وهي تقول: «لقد جاء الفرسان. وأظنهم الحراس الذين كانوا حول الخباء بالأمس.»
فلما سمعت سمية وقع ذلك التفتت إلى حسن وقالت وصوتها يرتجف: «حسن. حسن. لا تخرج فإنهم إذا رأوك خارجا اشتدت شبهتهم فيك ... لا تخرج. وإذا كانوا قد جاءوا للقبض عليك فلنمت معا.»
فثارت الحمية في رأس حسن، وهان عليه لقاء الألوف تفانيا في الدفاع عنها فقال: «لا عاش من يمسك بسوء وأنا حي.»
وشعروا باقتراب الخيل من الخباء، وكان الليل قد سدل نقابه وبدأ الظلام يتكاثف فأمسكت سمية بيد حسن ، وقالت وهي ترتعد: «إما أن نعيش معا ، وإما أن نموت معا.» ولا تسل عن خفقان قلبيهما تأثرا للقاء الفجائي وما صحبه من بواعث الاضطراب لقدوم أولئك الفرسان. فبقيا واقفين صامتين، وقد امتقع لونهما وتصبب العرق من وجهيهما وارتعدت فرائصهما، ومع ذلك كان حسن يشعر بأنه أشد بطشا من الأسد، وبأنه قدير على إنقاذ سمية من جيش بأكمله. وكذلك كانت سمية قد أنساها اللقاء كل خوف على نفسها، وأصبح كل همها ألا يصاب حسن بسوء، فأمسكت به وهي لا تدري أتحرضه على الفرار بنفسه ولا صبر لها على فراقه بعد هذا اللقاء، أم تفر هي معه وفي فرارها خطر عليه، أم تستبقيه في الخباء معها وفي بقائه تهمة كبرى؟
مرت كل هذه الهواجس بهما في لحظة انتظارهما وصول الفرسان القادمين، ومعرفة ما وراءهم، فلما وصل الفرسان إلى الخباء، أحدقوا به من جميع الجهات ولكنهم ظلوا مرابطين خارجه، كما كانوا بالأمس، فاطمأن قلب حسن ورجح أن قدومهم ليس لشبهة أو تهمة جديدة. فأخذ يهدئ روع سمية حتى سكن جأشها، وقضيا ساعة يتبادلان الأحاديث، وقد نسيا الحجاج وفرسانه، وحسبا أنهما في مكان غير ذلك المكان، بل خيل لهما أن أولئك الفرسان إنما هم ملائكة من السماء جاءوا لحراستهما، في تلك الساعة التي تزيد قيمتها عندها على قيمة الحياة كلها. •••
وبينما حسن وسمية سابحان في ملكوت المناجاة، يتشاكيان ما مر بكل منهما من أحداث الفراق سمعا طنين سهم مرسل في الفضاء، ثم سمعا صوت ارتطامه بعمود الخباء من الخارج. وكانت أمة الله مشغولة ببعض الشئون في طرف الخباء بالقرب من موقع السهم فلما سمعت صوت وقوعه أطلت من الخباء فلم تر غير الفرسان. ثم رأت السهم يستقر في العمود، فخفت إلى مكانه وانتزعته فإذا في موضع الريش منه رق مطوي، فعادت به مسرعة إلى حسن ففتحته فإذا هو كتاب من عبد الله خادمه يقول فيه: «اطلع عرفجة على مقركما فوشى بكما وأرسل الفرسان للقبض عليكما فتجلدا والله مع الصابرين.»
فاضطرب حسن وأيقن بوقوعهما في الخطر، ولم ير بدا من تهيئة كل أسباب الاطمئنان لسمية. وكانت قد قرأت الكتاب معه فامتقع لونه لما تملكها الجزع فابتدرها قائلا: «لا بد لي من الذهاب إلى الحجاج بنفسي، فإني لا أظنه أرسل في طلبي إلا معتقدا أني فررت من محبسي بالأمس.»
فقطعت كلامه قائلة: «أتذهب إلى الحجاج وأنت تدري ما يكون منه؟! أعوذ بالله من شر هذا الرجل. إنه لا يعرف غير القتل وسفك الدماء. ولا شك في أن نقمته عليك قد اشتدت بعد أن علم بأنك عندي هنا. يا ليتني مت قبل هذا. دعني أذهب بدلا عنك فداء لك. فإني مقتولة على أي حال.»
فوضع يده على كتفها وقال: «لا أرى الأمر يقتضي كل ذلك، ولئن قتلت فما كنت أنت سبب قتلي، وعسى ألا أقتل، وقد كنت أستطيع الفرار بنفسي من بين أيدي هؤلاء الفرسان، ولكني لا أريد النجاة وحدي، وأخاف إذا خرجت معي أن تقعي بين أيدي أحدهم فتلحقك إهانة، وهي عندي شر من القتل. أما ذهابي إلى الحجاج بنفسي فإنه أحفظ لشرفي وشرفك، وما يأتي به القدر لا مناص منه. هذا ابن الزبير كان إلى صباح هذا اليوم يسمونه أمير المؤمنين فقتلوه وصلبوه وحملوا رأسه إلى المدينة، وقد استقبل الموت باسما وأمه تشجعه على استقباله، فلا توهني عزيمتي، ولا تخوفيني لقاء الحجاج. ولكن إذا قدر لي الموت فاذكري أنني ذهبت شهيدا في سبيل هواك.» قال ذلك واختنق صوته، فتساقطت دموعها على خديها تأثرا، وكانت مطرقة فرفعت وجهها ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة السم وقالت: «ليطمئن قلبك فقد أعددت ما يلحقني بك إذا أصابك سوء. وهب أنك نجوت وأراد هذا الظالم أن يتخذني زوجة له بالفعل، فإن هذا السم كفيل بإنقاذي من ذلك.»
فأعجب حسن بإخلاصها له وأنفتها وقال: «الحق أن مثل عواطفك النبيلة هذه لا تكافأ بأقل من الروح، ولكن عسى الله أن يأتي بالفرج.»
ثم رفع يده عن كتفها وقال: «أستودعك الله يا سمية وموعدنا غدا إن شاء الله.» قال ذلك وخرج ولم ينتظر جوابها لئلا تحاول أن تثنيه عن عزمه بدموعها. فلما صار خارج الخباء صاح بأعلى صوته: «أين عريف هذه الكوكبة؟»
فتقدم إليه فارس منهم وقال: «وماذا تريد منه؟»
قال: «أريد أن يهديني إلى فسطاط الأمير لأذهب إليه.»
فقال: «لم يأذن لنا الأمير في الرجوع إليه، وإنما أمرنا أن نحرس هذا الخباء حتى يأتي هو، ولعله آت الساعة.»
فأدرك حسن أن ذلك تدبير عرفجة، وأنه أراد أن يرى الحجاج حسنا وسمية معا ليثير غيرته، فاعتزم أن يحبط محاولته فقال: «ولكنني في حاجة إلى رؤية الأمير الساعة.»
قال الفارس: «لا يمكنك الخروج من هذا المكان».
قال: «لا بد من خروجي.» ثم هم بالعدو ليذهب توا إلى خيمة الحجاج ويحاول إحباط مكيدة عرفجة، ولكن الفارس حذره قائلا: «خير لك أن تمكث هنا.»
فقال: «وإذا لم أمكث؟»
قال: «إننا مأمورون بإبقائك هنا حيا ريثما يجيء الأمير.»
فأدرك حسن أن الحجاج إنما أراد الإبقاء عليه ليبحث التهمة التي وجهها إلى عرفجة في شأن الكرسي، فتجلد وقال: «أقول لكم لا بد من ذهابي الساعة إلى الأمير، وإلا فخذوني إلى السجن أمكث فيه إلى الصباح.» قال ذلك ومشى فتجمهروا حوله ليمنعوه، وإذا بفارس أقبل من بعيد ووراءه بضعة فرسان، فلما رآه حراس الخباء تهامسوا فيما بينهم ثم ترجلوا. ففهم حسن أن الحجاج وحاشيته هم القادمين. فوقف ينتظر ما يكون.
وكان الحجاج ما زال بثيابه التي حارب فيها ابن الزبير وقد غطته الدروع هو وجواده وعليها بقع الدماء. فلما أقبل قال للفرسان: «ماذا تفعلون هنا؟»
فقال عريفهم: «نحرس هذا الخباء لنمنع من فيه من الخروج.»
قال: «ومن أمركم بذلك؟»
قال: «أمرنا به عرفجة باسم مولانا الأمير.»
فأطرق الحجاج وقد أدرك أن عرفجة لا هم له إلا الإيقاع بحسن ولم يكن الحجاج يعلم بمجيء هذا إلى خباء سمية ولا بما أمر به عرفجة، وإنما جاء إلى خباء نسائه لأنه تحلل من قسمه بعد مقتل ابن الزبير، فلما علم بما أمر به عرفجة، سأل العريف: «وهل حاول أحد الخروج؟» فقال العريف وهو يشير إلى حسن: «وجدنا هذا الرجل خارجا، وطلب الذهاب إلى الأمير.»
ونظر الحجاج إلى حسن، فلما عرفه تحقق صحة ما اتهمه عرفجة به، وعظم عليه أن يراه خارجا من خباء نسائه. فهم بأن يقتله ولكنه تذكر التهمة التي وجهها إلى عرفجة فرأى أن يصبر عليه إلى الغد حتى يثبت التهمة على عرفجة، ثم يقتلهما معا شر قتلة.
وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا دهاء وحكمة، فكظم غيظه ريثما يتحقق الأمر فقال: «خذوه إلى السجن وموعدنا الغد.»
فسر حسن لذلك التأجيل، ومضى مع الحراس وهو يلتفت إلى الوراء ليتحقق ابتعاد الحجاج عن خيمة سمية غيرة عليها منه وإن كان زوجها.
الفصل السابع عشر
محاكمة حسن وعرفجة
قضى حسن ليلته في السجن وعليه الحراس. وفي الصباح ساقوه إلى فسطاط الأمير باكرا وقد أمر الحجاج ألا يحضر المجلس أحد غير عرفجة وحسن. فدخل حسن ووقف وسط الفسطاط، وظل عرفجة جالسا بجانب الحجاج كأنه من خاصته وكان الحجاج إذا نظر إلى حسن كاد يتميز غيظا ولكنه صبر نفسه حتى يثبت التهمة على عرفجة فقال له: «لقد كنت في السجن من قبل، فكيف خرجت منه؟»
قال حسن: «خرجت منه لأمر اقتضى هذا الخروج، ثم عدت إليه طائعا ولو أنني أردت الفرار ما رجعت.»
فقطع عرفجة كلامه وقال ساخرا: «ذهبت لأمر ضروري؟ أما ذهبت إلى عدونا وكنت في منزله طول ليل أمس، وإذا كنت قد رجعت فذلك لكي تذهب إلى الخباء، لا إلى الحبس.»
فالتفت الحجاج إلى عرفجة لفتة ظهر الغضب فيها وأدرك عرفجة منها تغير الحجاج عليه، فأراد تخفيف غضبه فقال: «لا أجهل أني جاوزت الحد بتكلمي في حضرة الأمير، ولكنني لم أستطع الصبر على نفاق هذا الغلام وخداعه، فهو يوهمنا أنه ليس من الأعداء ولا من الجواسيس، ثم يفر من السجن ليلا ويحمل أخبارنا إلى عدونا، ويرجع بعد ذلك لكي يوهمنا أنه رجع إلى السجن بينما الأمير قد رأى بنفسه لأي شيء رجع.»
فأدرك الحجاج أن عرفجة يعرض بوجود حسن في الخباء ليثير غضبه عليه فيأمر بقتله توا قبل استكمال التحقيق، فصبر والتفت إلى حسن وقال: «لا يهمنا السبب الذي خرجت لأجله إلى ابن الزبير، فإنك متهم عندنا في أي حال. وسنبحث أمر دخولك خباء نسائنا فيما بعد. أما الآن فإنك اتهمت صديقنا عرفجة بالأمس، ونريد أن نعلم ما حملك على هذا الاتهام، وأي دليل على صحته لديك؟»
فاضطرب عرفجة لعودة الحجاج إلى التحقيق في تهمته. وخاف عاقبة تملق الحجاج له بذكر الصداقة ولكنه تظاهر بالاستخفاف وجلس يصغي لما سيقوله حسن، فقال هذا: «أما كونه خائنا لدولة بني أمية فأمر لا شك فيه. وقد رأيته بعيني واقفا بين يدي محمد بن الحنفية في الشعب، ومعه الكرسي الذي كان المختار بن أبي عبيد يسميه كرسي علي ويستغله في الدعوة إلى بيعة ابن الحنفية. وقد سمعته يطلب من محمد إمداده بالمال للخروج على بني أمية في العراق، والدعوة إلى بيعته؛ لأنه في زعمه أولى من بني أمية بهذا الأمر.»
وكان الحجاج مصغيا لما يسمعه وهو يتفرس في حسن ويراقب حركاته وسكناته فرجح أنه صادق في دعواه. فقال له: «ثم ماذا؟»
قال: «أما ابن الحنفية فاستخف بطلب عرفجة وردعه عن القيام بهذا الأمر، ثم أمر بإحراق الكرسي، فأحرق بين يديه، وأخرج عرفجة من عنده مهانا.»
ورأى عرفجة أن الحجاج أوشك أن يصدق حسن ضده، فلم ير سبيلا إلى دفع تلك التهمة إلا بالخداع والمغالطة. فوقف ووجه خطابه إلى الحجاج وقال: «إذا كان لكلام هذا الغلام أقل تأثير في نفس مولاي فليأمر بقتلي حالا، ولكن هذا الغلام كاذب في كل ما ادعاه، وقد اختلق هذه التهمة ليخفف بها ذنبه الذي لم يرتكبه أحد قبله.»
فقال حسن: «أما ذنبي فلا أنكره، وسأبسطه لمولاي، وله أن يحكم بعد ذلك بما يشاء، وأما أنت ...»
فقاطعه عرفجة قاصدا أن يشغل الحجاج عن ذنبه هو، وقال له: «إن ذنبك لا يحتمل الإنكار لأنه ظاهر العيان. وأما اتهامك إياي بالمروق من دعوة بني مروان فاختلاق محض لم نسمع بمثله. وأغرب ما فيه أنك لم تستطع إقامة دليل عليه، ويستحيل عليك ذلك.» قال ذلك وجلس وكأنه فاز على خصمه بالحجة والبرهان.
ولكن الحجاج لم يعبأ بذلك فالتفت إلى حسن وقال: «لا تصح دعوى بلا بينة، فما هي بينتك على ما تقول؟»
قال: «لقد كان الحديث بينه وبين ابن الحنفية سرا ولم يكن معهما ثالث.»
فصاح عرفجة: «أسمعت يا مولاي؟ أرأيت تناقض أقوال المنافق الكذاب؟ إذا كان ذلك الأمر حدث سرا بين اثنين كما قال الآن فما الذي أطلعه على هذا السر؟ إن جهله أبى إلا أن يوقعه في شر أعماله لأنه لم يحسن سبك أكذوبته.»
وشك الحجاج في صدق حسن فقال له: «لقد صدق عرفجة، فإنك زعمت أنك عرفت ما دار بينهما وسردته على أنك رأيت وسمعت، فكيف تقول بعد هذا إن الحديث كان سرا بينهما ولم يكن معهما ثالث؟!»
فلما رأى حسن انخداع الحجاج بكلام عرفجة، تجلد وقال: «نعم يا مولاي كان الكلام بينهما في فسطاط مقفل، ولكنني سمعت ورأيت خلسة!»
فقال عرفجة: «لقد بدا من تناقض أقوالك أنك لم تسمع ولم تر، ولعلك تريد أن تستشهد بشريك لك في خداعك وكذبك، ولكني لا أقبل إلا شهادة محمد بن الحنفية نفسه، فإنك اعترفت بأنه وحده الذي سمع حديثي.»
فقال الحجاج: «هذا طلب عادل، ما في ذلك شك.»
وهنا تذكر حسن أنه أرسل بلالا إلى ابن الحنفية ولا يدري ماذا كان من أمره معه فقال: «إن الأمير أدرى مني بما يحول دون الوصول إلى مثل هذه الشهادة؛ لأننا إما أن نستقدم ابن الحنفية إلى هنا، وإما أن نذهب إليه أو نستكتبه ...»
فقطع عرفجة كلامه وقال: «لا أقبل إلا شهادة ابن الحنفية نفسه.»
فقال الحجاج: «ذلك شيء يسير، وإن ابن الحنفية مصدق عندنا وإن لم يكن على دعوتنا.»
قال ذلك وتحرك عن وسادته كأنه يريد استئناف البحث، ثم التفت إلى حسن وقال: «بقي علينا النظر في تهمتك ولكنها ليست تهمة نطلب إثباتها وإنما نحن نسألك عما دعاك إلى هذه القحة؟» •••
وكان حسن قد هم بإخبار الحجاج أنه أرسل من يأتي بشهادة ابن الحنفية، فلما فاجأه بهذا السؤال، اضطرب ولكنه تجلد وهم بأن يجيب، فاعترضه عرفجة قائلا: «أنا أروي لك الخبر كله يا مولاي، فإنه يخجل أن يرويه.»
فلم يعد حسن يصبر على نفاق عرفجة فرفع صوته وقال: «لماذا أخجل؟ أأخجل لأني أنقذتك من الموت أنت وأهل بيتك؟ أم أخجل لأنك خدعتني بوعدك ثم نكثت غير مرة؟ إني لم أعمل عملا أخجل من ذكره.» ثم وجه كلامه إلى الحجاج وروى له باختصار قصته مع عرفجة منذ أنقذه في العراق. وكان الحجاج مصغيا إلى الحديث باهتمام، فلما بلغ حسن إلى سعي عرفجة في قتله قاطعه هذا قائلا: «لقد سعيت في قتله يا مولاي لأني رأيت معه كتابا إلى عبد الله بن الزبير الذي فر إليه بالأمس. وقد أبلغت أمره إلى طارق بن عمرو عامل المدينة فعده جاسوسا، وأرسل من يقتله. أما أني وعدته بابنتي فإن مولانا الأمير خطبها بعد ذلك فكيف أرفض شرفا أولانيه الأمير؟ والعجب كل العجب أنه بعد أن علم بأنها زفت إلى الأمير ما برح يرجو الحصول عليها. وبلغ من قحته أنه جاء إلى هذا المعسكر محاولا إغراءها بالفرار معه. ولكن الله أوقعه في أيدينا وسجناه، ففر إلى عدونا ليوقع بنا، ثم اغتنم اشتغال الأمير وجنده بالقتال وعاد إلى حيث رآه الأمير بنفسه خارجا من خباء سمية، فإذا كان الأمير يرى الصبر عليه حلما، فإني لا صبر لي على مثل هذه الخيانة.»
فوقع كلام عرفجة على قلب الحجاج وقوع النار على يابس العشب، وثارت غيرته فالتفت إلى حسن وقال: «هل تنكر أنك تحب سمية؟»
قال: «كلا.»
قال: «تقول ذلك بين يدي وأنت تعلم أنها من نسائي؟!»
فظل حسن ساكتا، فقال الحجاج: «وهل هي تحبك؟»
فأدرك حسن أنه إذا صرح بحبها له جر عليها الموت كما جره على نفسه فأراد الرفق بها فقال: «لا أدري ...»
فقال عرفجة: «إنها لا تحبه، ولكنها فتاة ساذجة استغل طيبة قلبها ليخدعها. ولا شك في أنها تفاخر كل نساء المدينة بما نالته من الحظوة لدى أمير جند عبد الملك وفاتح الحجاز وحامي ذمار بني أمية.»
فاستاء حسن من ذلك التدليس القبيح ولم يسعه إلا توبيخ عرفجة فقال له بصوت ملؤه الرزانة والتعقل: «لا أنكر أن سمية نالت أحسن ما تتمناه فتاة بزواجها من مولانا الأمير، ولكنك يا عرفجة لم تزف ابنتك إلى الأمير إلا رغبة في المال، ولو مهرك هذا المال زنجي لزففتها إليه!»
فصاح عرفجة: «يا للقحة! أتقول ذلك في حضرة الأمير وتذكر عروسه بين يديه على هذه الصورة؟!» ثم التفت إلى الحجاج وقال: «لقد كفاك يا مولاي صبرا وحلما على من لا يستحق غير القتل والعذاب الأليم.»
فالتفت حسن إليه وقال: «أتحرض الأمير على قتلي يا عرفجة وإنك لأكثر استحقاقا للقصاص؟ إنك ملاق حتفك عاجلا جزاء خيانتك للدولة التي تدعي أنك تدافع عنها. وأما أنا فإذا قتلت فإني أذهب شهيد الأمانة والحب الصحيح!»
فالتفت عرفجة إلى الحجاج وقال: «أسمعت يا مولاي؟ إنه ما زال يذكر الحب.»
فقال حسن: «وهل الحب عار؟ نعم إني أحب سمية حبا شديدا، كما أني أكره أباها كرها شديدا. ولا أبالي أن أصرح بذلك ولا أن أقتل في سبيله. أما أنت فإنك ستقتل لأن شهادة ابن الحنفية آتية عما قليل، وهي قاطعة بخيانتك للدولة ولأمير المؤمنين.»
وحانت منه التفاتة إلى باب الفسطاط، فرأى بلالا قادما من بعيد وقد علاه الغبار. فخفق قلبه، والتفت إلى الحجاج وقال: «أرجو أن يأذن مولاي في إدخال هذا القادم، فهو رسولي إلى ابن الحنفية، وعسى أن يكون قد عاد من عنده بكتاب يثبت صحة دعواي.»
فقال الحجاج: «وأي رسول؟»
قال: «رسول كنت أنفذته إلى ابن الحنفية في شعب علي ليستكتبه شهادة بما دار بينه وبين عرفجة من حديث الكرسي. وهذا الرسول كان معي يوم حريق الكرسي، فليأمر مولاي بإدخاله لنرى ما جاء به.»
فنادى الحجاج: «يا غلام.» فدخل أحد غلمانه فقال له: «ترى رجلا قادما برسالة فأدخله إلينا.»
فعاد الغلام ومعه بلال. وأخرج هذا عقدة من القصب الغليظ سلمها إلى الحجاج مختومة، فقرأ الختم من الخارج فإذا هو ختم ابن الحنفية، ثم أخرج من العقدة لفافة من الرق فتحها وقرأها وعرفجة جالس وقد بانت البغتة في وجهه ورقصت لحيته على صدره، ولكنه عمد إلى الاستخفاف والمغالطة فصار ينظر إلى الحجاج ويبتسم كأنه واثق بأن الكتاب يتضمن براءته. فلما فرغ الحجاج من قراءة الكتاب التفت إلى عرفجة وقال له: «لقد صح الصحيح ولم يبق مجال للمكر والخديعة؛ وهذا خط محمد بن الحنفية وختمه يثبتان صحة ما اتهمك به هذا الشاب.»
فهم عرفجة بأن يتكلم، ولكن الحجاج انتهره وقال: «لا تتكلم ولا تدافع فقد كفانا ما سمعناه من خلطك.» ثم صفق فجاءه الغلام فقال له: «إلي بالجلاد.» فخرج وعاد برجل عليه قميص من جلد وعلى رأسه عمامة مستطيلة وبيده سيف حاد. فأشار الحجاج بسبابته إلى عرفجة وحسن وقال للجلاد: «ائتني برأسيهما.» فصاح عرفجة: «كيف تأمر بقتلي ولم تتحقق تهمتي؟! إن هذه الرسالة مزورة.» وأخذ في الصياح حتى سمع صوته كل من في المعسكر، فغضب الحجاج وصاح في الجلاد: «هات رأس هذا أولا.» وأشار إلى عرفجة.
فجره الجلاد حتى أركعه في الفناء ونزع عمامته عن رأسه، فأخذ يلتفت إلى الحجاج وهذا معرض عنه، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى طار رأسه من بين كتفيه والناس ينظرون.
ووقف الجلاد بين يدي الحجاج وسيفه يقطر من دماء عرفجة، فأشار الحجاج إلى حسن وقال للجلاد: «وهذا أيضا.»
فأمسك الجلاد بطوق حسن وأراد جره إلى الخارج. فقال حسن للحجاج: «أتقتلني بعد أن رأيت صدقي وإخلاصي؟»
فصاح فيه الحجاج صيحة الغضب وقد احمرت عيناه وتجلى الغدر فيهما وقال: «أتسألني لم أقتلك وأنت مستحق الصلب منذ أيام؟! إنما صبرت عليك حتى تحققت خيانة ذلك الغادر.»
فقال حسن: «إذا لم يكن بد من قتلي فاقتلوني داخل هذه الخيمة وليس على مشهد من الناس.»
فقال الحجاج: «أتشترط علينا؟» ثم التفت إلى الجلاد وصرخ فيه قائلا: «اقتله يا جلاد وإلا قتلتك!»
فعاد الجلاد إلى حسن وهم بجذبه، فقال حسن: «لا تجذبني هكذا فما أنا بخائف من الموت ، رغم أني واثق ببراءتي.» قال ذلك ومشى نحو الباب.
وفيما هما يهمان بالخروج، علا صوت قعقعة وسمع الحاضرون معها قائلا يقول: «البريد ... البريد ... بريد أمير المؤمنين.»
وكان عادة الولاة إذا جاء البريد ألا يمنعوه أو يؤخروه لحظة واحدة فلما سمع الحجاج بوصوله صاح قائلا: «أدخلوه.»
ولم يتم كلامه حتى دخل عليه رجل كهل قد أنهكه التعب وتعفرت ثيابه، فترامى عند قدميه وسلم إليه كتابا مختوما. وكان حسن مشغولا بنفسه عن كل تلك المشاهد ولكن عينه ما كادت تقع على ذلك الكهل حتى بغت؛ إذ عرف أنه صديقه أبو سليمان، وتذكر أنه كان قد أرسله إلى خالد بن يزيد في الشام ليأتي منه بكتاب في شأن رملة إلى ابن الزبير، فهم باستئذان الحجاج في كلمة يقولها لذلك الرجل قبل قتله، ليكلفه إبلاغ خالد رضاء ابن الزبير وأن رملة في انتظاره لتزف إليه فيكون قد أتم مهمته قبل موته.
ورفع حسن وجهه إلى الحجاج فرآه تناول الكتاب ونظر إلى خاتم الخلافة على ظاهره، ثم قبله ووقف تعظيما للخلافة. ثم نظر إلى الرجل الذي حمله وقال له بعد أن تفرس فيه: «من أين لك هذا الكتاب؟ أأنت من عمال البريد؟»
فقال أبو سليمان: «لست منهم يا مولاي. ولكنهم حملوني على دواب البريد تعجيلا بإبلاغ هذه الرسالة.» قال ذلك وهو يلهث وصوته يتقطع ويتلجلج من التعب والخوف.
ففض الحجاج خاتم الكتاب وفتحه، وجعل يعيد قراءته ويتثاءب ويحك شفتيه بإصبعه ويعبث بشعر لحيته وقد ظهر التأثر في عينيه. ثم أخذ ينظر إلى حسن ويتفرس فيه ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويتأمل ختمه ويقلبه بين يديه، كل هذا وأبو سليمان ما زال مستلقيا عند قدميه وهو يلهث من التعب وينظر إلى وجه حسن كأنه لم يعرفه وحسن ينظر في وجهه، وكلهم ينتظرون ما يبدو من الحجاج بعد تلاوة ذلك الكتاب.
وأخيرا، أشار الحجاج إلى الجلاد بالانصراف فانصرف، ثم صرف بقية الحاضرين ولم يبق في الخيمة إلا هو وحسن وأبو سليمان. فالتفت إلى حسن وقال: «هذا كتاب من أمير المؤمنين جاءني بما كنت تبغيه أنت. ووالله لولا حرمة الخليفة لم يكن في الأرض من ينجيك من القتل.»
فلما سمع حسن ذلك أبرقت أسرته ولكنه لم يطمئن تماما؛ لأنه لم يفهم فحوى هذا الكتاب، فأطرق وظل ساكتا.
فنادى الحجاج: «يا غلام.» ولما أقبل غلامه قال له: «ادع الكاتب.» فخرج ثم عاد بالكاتب، فدفع الحجاج إليه الكتاب وقال: «اتل هذا علينا.» فتلاه وهذا نصه:
من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إلى الحجاج بن يوسف أمير جندنا في الحجاز، أما بعد، فقد بلغني أنك خطبت ابنة عرفجة المنافق وهي مخطوبة لحسن، فأخذتها وحرمته منها. والرجل ينتمي إلينا وتهمنا رعايته، فإذا أتاك كتابي فاحمل الفتاة إلى خطيبها، وأمهره بما يقوم بالنفقة. ووالله لرجوعك عن الحجاز ولم تفتحه أهون علي من ارتكابك هذا الأمر مع رجل من صنائعنا وخاصتنا. وثقتي أنك فاعل ما أقول والسلام.
فما فرغ الكاتب من تلاوة الكتاب حتى رقص قلب حسن طربا، وخيل إليه أنه في حلم، فجعل ينظر إلى ما حوله ليتحقق أنه في يقظة، ثم سمع الحجاج يقول له: «لم نتل الكتاب عليك إلا لتعلم أننا ما تجاوزنا عنك إلا عملا بأمر أمير المؤمنين.» والتفت إلى غلامه وقال: «أعطه ألف دينار. وسمية طالق منذ الآن ... فامض إلى خباء النساء وأنبئها بذلك، لتخرج معه من هذا المعسكر قبل غروب اليوم.» قال ذلك ووقف، فلما خرجوا خرج معهم وهو يهم بأن يخاطب حسنا وحسن يهم بأن يخاطبه.
وقبل أن يتكامل خروجهم، رأوا فارسا يسوق جواده نحو فسطاط الحجاج والبغتة ظاهرة في وجهه، فلما وصل ترجل ودخل دون أن يستأذن وقال: «إن مصيبة حلت في خباء النساء.»
فلما سمع حسن الصوت علم أنه صوت عريف الحرس، وخفق قلبه خشية أن تكون المصيبة حلت بسمية. ثم ما لبث أن سمع العريف يقول: «إن مولاتنا سمية سقطت لا حراك بها كأنها تجرعت سما أو أصابها الموت بغتة!»
فأحس حسن كأن جبلا سقط على رأسه، وكاد يفقده رشده وشغل عما كان فيه من سؤال أبي سليمان عن الطريقة التي حصل بها على ذلك الكتاب، ثم لم يسعه إلا أن يعدو نحو خباء سمية، ولم يكن أبو سليمان أقل بغتة منه؛ إذ جاء ذلك الخبر صدمة قوية أطارت صوابه، فسار في أثر حسن إلى الخباء، وسار في أثرهما بلال وغلام الحجاج.
وكانت سمية قد سمعت ما دار بين الحجاج وفرسانه أمام خبائها، كما سمعته وهو يأمرهم بأخذ حسن إلى السجن إلى الصباح، وأيقنت أن الحجاج قاتله لا محالة. ولكنها تعللت بالآمال البعيدة وصبرت حتى ترى ما يكون في الغد، فقضت ليلتها تفكر في مصير حسن، وأصبحت وقد أعدت السم وجلست وراء الخباء، تستطلع أنباء المحاكمة من الحراس. فلما جاءها أحدهم بمقتل أبيها وأخذ حسن لقتله أظلمت الدنيا في عينيها. وكانت أمة الله قد يئست من تخفيف المصيبة عليها ولم تعد تستطيع مخاطبتها فتركتها وشأنها، وبعد قليل جاءها أحد الحراس بنبأ قتل حسن داخل خيمة الحجاج، فسارعت إلى السم وابتلعته مرة واحدة ثم وقعت مغشيا عليها. فصاحت أمة الله وولولت، وأخبرت الحراس أن مولاتها تجرعت السم، فأسرع أحدهم على جواده بالنبأ إلى الحجاج.
وظل حسن يعدو نحو الخباء، وهو لا يكاد يرى طريقه، ولا يبالي ما يعترضه من الأحجار أو الأوتاد حتى أشرف على الخباء فصاح وهو لا يعي ما يقول: «سمية ... سمية ... أنا حي يا سمية!»
ولما وصل إلى الخباء أراد الفرسان منعه، ثم تركوه بعد أن أخبرهم الغلام بأمر الحجاج، فأطل من الباب فرأى سمية مستلقية وحولها نسوة يبكين. وكأنها جثة بلا روح وقد أطبقت عيناها وامتقع لونها وانحل شعرها وابيضت شفتاها فلم يتمالك أن اندفع نحوها وفي يده خنجره فتفرقت النساء عنه، ثم أخذ يجس يدها ويقول: «حبيبتي ... روحي ... منيتي ... ماذا أصابك؟! تجرعت السم يأسا من حياتي؟ إني حي يا سمية ... سمية إما أن تحيي مثلي أو أموت مثلك!»
ولما أيقن بموتها هم بأن يطعن نفسه بالخنجر، ولكنه شعر بيد أمسكت به وسمع صوتا يناديه: «تمهل يا حسن، إن سمية حية لا بأس عليها.» فالتفت فرأى ليلى الأخيلية وبيدها كوب ماء جاءت لترش سمية به. فقال لها: «ماذا تقولين؟ كيف تحيا سمية وقد تجرعت السم؟! إنه كاف لقتل أشد الرجال!»
قالت ليلى: «إن الذي تجرعته ليس سما فلا تخف!»
فوقف ذاهلا ثم قال لليلى: «لا تعلليني بالأوهام، إن سمية قد ماتت ولا بد لي من أن أموت لأنها ماتت لأجلي.»
قال ذلك ورفع يده بالخنجر فصاحت فيه ليلى: «تمهل يا حسن. إن سمية حية ولم تتجرع السم ولكنها في غيبوبة.»
قالت ذلك وتناولت بعض الماء بيدها ورشتها به فحركت رأسها ثم حركت شفتيها وقالت: «حسن ... حسن ... قتلوك قتلهم الله! إني ذاهبة إليك.»
فلما سمع صوتها جثا عند رأسها باكيا وقال لها: «سمية ... أنت حية يا حبيبتي؟ انظري إلي ... أنا حسن ... أنا حي يا حبيبتي وقد أنقذني الله ... افتحي عينيك يا سمية.»
ففتحت عينيها فلما رأته قالت: «ما هذه الأحلام؟ حسن؟ أين نحن يا حسن؟!»
فأجابها: «نعم أنا حسن يا سمية.»
فجلست وألقت نفسها عليه وأخذت في البكاء، فقال لها: «لا تبكي يا سمية إنني في خير.»
فقالت له ليلى: «دعها تبكي لتنفس عن كربتها وتصحو من سكرتها.» فسكت وترك سمية تبكي وتشهق، ثم رآها ترفع رأسها وتنظر إلى وجهه وتصيح: «حسن حبيبي ... هل أنا في يقظة أم في منام؟!»
فأجلسها بجانبه وهو يقول لها: «انظري يا سمية، ها أنا ذا حي، وهذه صديقتنا ليلى. إن أسباب تعاستنا قد زالت والحمد لله.»
فقطعت كلامه قائلة: «والحجاج؟ الحجاج؟» وعادت إلى البكاء.
فقال لها: «لقد جاء أمر الخليفة بأن يطلقك ويردك إلى خطيبك، وسنخرج اليوم من هذا المعسكر.» فحدقت بنظرها فيه كأنها تتحقق ما يقول، فأقسم لها بحبها أنه ما قال إلا الحق.
سكن روع سمية بعد أن اطمأنت إلى نجاتها ونجاة حسن، ثم التفتت إلى من حولها فرأت أمة الله جاريتها، وليلى الأخيلية، وهند زوجة الحجاج، فقالت: «إن السم تأخر فعله، أليس كذلك؟»
فقالت ليلى : «إنك لم تتجرعي إلا دقيق الذرة، وأما السم الذي ظننت أنك تجرعته فهو معي.» قالت ذلك وأخرجت من جيبها ورقة فتحتها وفيها السم وقالت: «ألا تذكرين الليلة التي بت فيها عندك؟ إني غافلتك وأبدلت بالسم دقيق الذرة؛ لأني خفت أن تعجلي بتجرعه دون ما يدعو إلى ذلك، فالحمد لله على نجاتك.»
فهمت سمية بليلى وقبلتها وقالت: «جزاك الله خيرا.» وكذلك شكرها حسن، ثم قص عليهم ما دار بينه وبين الحجاج حتى أتى على ذكر أبي سليمان وكيف جاء في إبان الضيق فكان السبب في نجاته من الموت، كما كانت ليلى سببا في نجاة سمية منه. وكان أبو سليمان واقفا خارج الخباء فناداه حسن فدخل وهو يقول: «هل يدخل عبد الله؟»
قال حسن: «أي عبد الله؟»
قال: «خادمك.»
قال: «فليدخل. إني أعده صديقي.»
ثم دخل عبد الله وهو يقول: «لا تظن أني تخلفت عن خدمة مولاي، ولكنني أصبحت بعد إخراجك من السجن موضع غضب عرفجة، فلم أعد أستطيع الظهور وبقيت متخفيا أتنسم الأخبار. فلما تحققت نجاتك جئت لأكون في خدمتك.»
وكانت سمية قد صحت وتحققت أنها فازت بحبيبها وأنها نجت من أبيها فثبتت بصرها في حسن، وثبت هو بصره فيها، واكتفيا بتفاهم اللواحظ، ثم قال لها: «إلى أين تودين الذهاب، وأين نقيم؟»
فأجابه أبو سليمان على الفور: «تقيمان عندنا بالمدينة.»
فقال حسن: «لقد أذكرتني أمر رملة، هل أتيت بالكتاب من خالد إلى ابن الزبير؟ وكيف حصلت على هذا الأمر من عبد الملك؟»
فقص عليه سليمان قصة سعيه في ذلك الأمر على يد خالد، ثم قال: «وأما ابن الزبير فقد جئته بالكتاب ولكنه وا أسفاه عليه قتل ولا ندري ما تم بأهله.»
فقال: «أهله في مأمن بمكة، وقد صرح لهم قبل موته بقبوله مصاهرة خالد. وبعد عودتنا إلى المدينة سأبعث عبد الله إلى خالد بالخبر ليبعث من يحمل رملة إليه.»
ثم التفت إلى ليلى وقال لها: «لن أنسى لك جميلك ما حييت، ويكفي أنك كنت سببا لبقاء سمية كما كان العم سليمان سببا لبقائي.»
فقالت ليلى: «لا فضل لي في ذلك وقد فعلته لأني جربت هذا العناء وعرفت شقاء المحبين وجهادهم، ولا أظن أحدا من هؤلاء أدرك من حالكما ما أدركته.» قالت ذلك وشرقت بريقها.
فأدرك حسن أنها تشير إلى قصتها مع توبة، فشكر الله وسكت حتى لا يثير عواطفها.
ثم وقف أبو سليمان وقال: «كل ذلك بتدبير العزيز الحكيم، وكل شيء يجري بقضاء من الله - سبحانه وتعالى. هلم بنا الآن نستعد للرحيل.»
فلما تحققت سمية قرب سفرها التفتت إلى هند بنت النعمان زوجة الحجاج وقالت: «أرجو أن يوفقك الله إلى سبيل تنجين به كما نجوت أنا.»
فتلألأت الدموع في عيني هند ولم تجب. •••
وفي أصيل ذلك اليوم شدوا الرحال وساروا جميعا قاصدين المدينة، ما عدا ليلى فإنها التمست وجهة أخرى. ولما وصلوا ساروا توا إلى بيت عرفجة وقد أصبح بما فيه إرثا شرعيا لسمية، وكذلك كل ما كان يملكه.
وفي يوم وصولهم جاء سليمان لاستقبالهم وقد سر بنجاح مهمتهم. واحتفلوا بزفاف سمية إلى حسن احتفالا شهدته سكينة بنت الحسين وكثير من سكان المدينة، وأكثرهم كانوا يكرهون عرفجة، وغنى ليلتها طويس، كما غنت عزة الميلاء، وأجاد أشعب الطماع في المجون حتى كادت تتمزق خواصر الناس من الضحك. وبعد انتهاء العرس سار عبد الله إلى خالد في دمشق ومعه كتاب من حسن بتفصيل ما حدث في شأن رملة وقبول عبد الله بن الزبير خطبته لها، فجاء خالد وتزوج رملة كما هو مدون في التاريخ.
অজানা পৃষ্ঠা