فقال الرجل: «إن الله حارسه لفرط تقواه وكثرة عبادته، وقد وقع هنا في العام الماضي سيل طبق البيت ومنع الناس من الطواف فطاف أمير المؤمنين سابحا!»
الفصل الثالث عشر
فشل ابن الزبير
تأمل حسن في وجه مخاطبه وهو يتكلم والاهتمام باد في محياه لا يدري بماذا يعبر عن منزلة ابن الزبير عنده ولا مقدار حبه له، ورآه موجها نفسه إليه كأنما يتوقع أن يسأله عن ابن الزبير ليشرح له ما يعلمه من تقواه وشجاعته وصدق دعوته. قرأ حسن كل ذلك في عيني الرجل فأدرك أنه من أشد أنصار ابن الزبير غيرة عليه، وتبين له من قيافته وهندامه أنه من وجهائهم. وزاد اعتقادا في وجاهته لما آنسه من لطفه ودعته؛ لأن الإنسان يزداد لطفا ووداعة بازدياد منزلته رفعة، فإذا رأيت جفاء وكبرياء من أحد الناس وأنت لا تعرفه فاعلم أنه دنيء الطبع، ولا عبرة بما قد يكسوه من اللباس الفاخر، ولا بما في خزائنه من الأموال الطائلة.
وبينما حسن يفكر في ذلك ومخاطبه واقف إلى جانبه، سمعا عبد الله ينادي: «أين ابن صفوان؟» ثم رأى الرجل الذي كان يخاطبه بغت وأسرع إلى عبد الله يقول: «لبيك يا أمير المؤمنين.»
ففهم حسن أنه عبد الله بن صفوان الجمحي، وكان قد سمع عن حبه لابن الزبير وتفانيه في نصرته، وهو أصلع في نحو الستين من عمره، عريض الجبهة خشن الملامح عريض الفكين، مما يدل على الثبات والقوة. ثم التفت حسن إلى ابن الزبير وتهيأ للسلام عليه إذا مر بجانبه فإذا هو طويل القامة عريض الكتفين لحيته غزيرة في أسفل ذقنه خفيفة في عارضيه. وتفرس فيه وهو يصلح عمامته عند نهوضه من الصلاة فرأى شعره جمة مفروقة طويلة. وتأمل في وجهه فرأى الهرم قد بدا في ملامحه لفرط ما قاساه من أمر ذلك الحصار وشدة ما أحاط به من الضيق، وهو في الثالثة والسبعين من عمره؛ لأنه أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة.
وهم حسن بالسلام عليه وتقبيل يده، ولكنه رآه اتجه إلى موضع آخر دون أن يلتفت إلى أحد، وأعجب بمشيته الثابتة التي تدل على جلال ووقار، ورأى ابن صفوان يسير في أثره مراعيا إياه بعينيه وكل جوارحه، وفي مشيته عرج، فعلم أنهما سائران إلى البيت، فاقتفى أثرهما وهو يفكر في مخاطبة عبد الله بالأمر الذي جاء من أجله لكنه تهيب واستحيى لما رآه فيه من الاضطراب والضيق، ورأى أن يتحين لذلك فرصة أخرى.
وخرج عبد الله من المسجد وابن صفوان يتبعه وحسن في أثرهما. وكان الناس يقفون في الطريق لتحية عبد الله، حتى أشرفوا على دار واسعة قد غصت بالواقفين من الناس، وخارجها مرابط الخيول والمعالف. فلما أقبل عبد الله على الدار توجهت أبصار الناس إليه ووسعوا له، فاخترق الصفوف وهو مطرق حتى أشرف على مقعد في صدر القاعة فجلس عليه الأربعاء، وجلس إلى يمينه شاب كبير الشبه به. فأدرك حسن أنه أحد أولاده. ثم جاء شابان آخران فجلسا عن يساره، وجلس بقية القوم بين يديه لا يفوه أحدهم بكلمة لفرط ما أحاط بهم من الأمر العظيم، ولبثوا هنيهة كأن على رءوسهم الطير. أما حسن فرأى نفسه غريبا بين هذه الجموع، وهم بالخروج فرأى ابن صفوان يشير إليه من بعض جوانب القاعة داعيا إياه إلى الدخول، فمشى إليه وجلس إلى جانبه وقال له: «يسرني أني عرفتك اليوم وقد طالما سمعت باسمك.» فقال ابن صفوان: «فهلا انتسبت لأعرفك أنا أيضا.»
قال: «سأطلعك على أمري فيما بعد، فلا غنى لي عن معونتك.»
وكانا يتكلمان همسا والناس سكوت، وربما أدرك أحدهم السعال فأمسك عنه. فالتفت حسن إلى ابن صفوان وقال له: «أي أبناء أمير المؤمنين هؤلاء؟»
অজানা পৃষ্ঠা