فلما سمعت قوله صاحت صيحة سمعها كل من في الخيام، ولطمت وجهها وقالت: «حسن مات؟ مات؟! لا. لا. إنه لم يمت، إنه حي.» قالت ذلك واستغرقت في البكاء، وجلست على حصير من سعف النخل كانوا قد فرشوه في أرض تلك الخيمة وجعلت رأسها بين كفيها وأطلقت لدموعها العنان وأبوها ما زال واقفا وقد بغت لما رآه منها، على أنه قال لنفسه: «إنها لا تلبث أن تفرغ من البكاء، فمتى تحققت موت حسن عادت إلى رأيي.» فصبر هنيهة وهو يظهر الاستخفاف بما بدا منها، ثم عاد فقال لها: «أراك كأنك لم تصدقي قولي مع أنك تعلمين أني لم أكذبك قط. صدقيني إن حسنا قتل في أثناء خروجه من المدينة فلا سبيل إلى رجوعه. أم تريدين أن تقتلي نفسك من أجله؟»
فصاحت مولولة وقالت: «نعم أقتل نفسي، ولا غرض لي في الحياة بعده. لقد قتلتموه ظلما وغدرا! ويلك يا ظالم! كيف قتلته؟ اقتلني معه ... اقتلني.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء، فلما رأى عرفجة تصلبها عمد إلى الملاينة فقال لها: «أنا لم أقتله ولكنه قتل بذنبه، ولا فائدة من البكاء عليه، فاشكري الله على أنه مات قبل أن يقترن بك، وإلا ما وجدت حظوة في عيني الحجاج.»
فقطعت كلامه وقالت: «ما لي وللحجاج؟ إني لا أريد غير حسن. حسن خطيبي. هو وحده حبيبي حيا أو ميتا.» ثم أجفلت وقالت: «لا لا، لم يمت حسن، بل هو حي، وأيدي الظلمة اللئام تقصر عنه.»
فقال عرفجة: «ألا تزالين تنكرين قتله؟ هل أريك جثته لكي تصدقي؟» فوثبت سمية من مجلسها وقالت: «لا. لا. لا تريني إياه ميتا. ويلاه! قتل حسن. قتلته أنت يا ظالم! فاقتلني وأرح نفسك مني وأرحني من الحياة. اقتلني كما قتلت رجلا أنقذك وأنقذ أهل بيتك من القتل. ويل لك من مشهد يوم عظيم!» قالت ذلك وقد أحست بقوة عجيبة ويئست من الحياة. فلما سمع عرفجة تقريعها صاح بها: «أقصري يا فاجرة ، أبمثل هذا الكلام تخاطبين أباك؟! والله لولا حرمة البنوة ولولا أن يقال إني قتلت فتاة لمزجت دمك بهذه المياه ... ولكني أعاملك معاملة صبية حمقاء، وسأصبر عليك قليلا فإذا أبيت إلا ما بدا من وقاحتك فإني قاتلك بهذا الخنجر!»
قال ذلك واستل من منطقته خنجرا لمع نصله كالبرق، فلما رأت النصل تعرضت له وقد حسرت ثوبها عن صدرها وهي تقول: «اضرب. اغمد خنجرك في هذا القلب. اطعن. أتخوفني بالموت؟! إن الموت أحب إلي من الحياة.»
فلما رأى منها ذلك العناد صاح قائلا: «أهذه نتيجة تعبي في تربيتك يا فاجرة؟! لقد حل لي قتلك، ولكني لا ألوث يدي بدمك وسترين قبل موتك جميع أصناف العذاب.» ثم صاح: «قنبر.» فأقبل ذلك العبد بأسرع من لمح البصر كأنه كان في جيب عرفجة وأخرجه بيده، وقال: «لبيك يا مولاي.» فقال: «شد يدي هذه الخائنة بالأمراس وقيد رجليها بالحبال وسأريها عاقبة العناد.»
فلما رأت سمية قنبر مقبلا نحوها وثبت من مقعدها وصاحت به: «اذهب يا عبد السوء، لا تدن مني. اغرب من وجهي، لا تدن مني. اذهب قبح الله وجهك.» قالت ذلك وهي لا تعي ما تقول.
أما قنبر فأخرج من جيبه حبلا كان قد أعده لمثل هذا الغرض، وهجم عليها وهو لا يبالي صياحها فقبض على يدها وهي تحاول التخلص منه، وقد اشتد ساعداها حتى صارت مثل أشد الرجال ونسيت حزنها، ودفعته عنها وهو يحاول إخضاعها بلا عنف، فلما رآها تدفعه وتقاومه عزم على استعمال العنف فصاح فيها صيحة دوت دويا عظيما وجذبها من يدها فلطم رأسها عمود الخيمة، فوقعت مغشيا عليها، فأخذ في شد وثاقها غير مكترث لحالها.
وكان الخدم قد سمعوا صياح سمية، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب من الخيمة إلا أمة الله جاريتها فإنها هرولت خلسة واستترت وراء نخلة حولها عشب العليق ولبثت تسترق السمع. فلما رأت هجوم قنبر على سيدتها علمت أنه لن يحجم عن قتلها، ثم سمعت لطمة عقبها سكوت فخافت أن يكون قد أصاب سمية سوء، فلم تر سبيلا إلى نجدتها إلا بالحيلة ، فأسرعت إلى عرفجة وترامت على قدميه وقبلتهما وقالت: «بالله ألا أشفقت على سيدتي وأغضيت عن جرأتها وأنا أضمن لك كل ما تريده منها.»
وكان عرفجة يعامل سمية بذلك العنف لكي يحملها على قبول الزواج بالحجاج؛ لأنه يرجو من وراء ذلك منفعة كبرى لنفسه. وقد ذكرنا ما فطر عليه من حب الذات والطمع من سوء النية. وقد بلغ منه الطمع حدا هون عليه تقديم ابنته ضحية على مذبح أغراضه، ومات ضميره فلم يعد يهمه ما يرتكبه في سبيل بلوغ مقاصده. وكان يعلم أن الحجاج يرغب في الزواج بسمية ويبذل لها مهرا كبيرا، ولكنه كان يخاف أن تشكوه لعبد الملك بن مروان بوساطة سكينة بنت الحسين أو غيرها من أهل الوجاهة والنسب في المدينة. فلما اطمأن إلى مقتل حسن أخبر طارقا بن عمرو أمير المدينة بأن مثل ابنته لا تليق بغير الحجاج بن يوسف وأنه يعلم برغبته فيها. وكان طارق أيضا مثل عرفجة قسوة وطمعا ولا سبيل له إلى غرضه إلا إذ تقرب إلى الحجاج بما يرضيه، فرأى أن يتقرب إليه بسمية فيخطبها له ويحملها إليه، فوافق عرفجة وساعده على التخلص من حسن ودفع إليه بعض مهر سمية، على أن يأخذ بقية المهر بعد وصولها إلى الحجاج بالقرب من مكة.
অজানা পৃষ্ঠা