وهو يؤدي عمله، ويؤدي عن المتأخرين أعمالهم، فالكلام عن نجدته لا يقل عن الكلام عن قدرته. وسار في دراسته بعزم قوي يبشر بنجاح باهر. وأصبح من مدمني التردد على دار الكتب، يقرأ بنهم شتى الثقافات إلى جانب دراسته القانونية الشاقة. أصبح كذلك من الوجوه المعروفة التي ترى في جامع الحسين في صلاة الجمعة فعرف في الحي - كما عرف في الوزارة - بالتقوى والورع. ولكن عذابه لم يكد يخف، وظلت سيدة مسيطرة تماما على خياله ووعيه حتى قال لنفسه: إنها الجوهرة الوحيدة في حياتي ..
وفي مواعيد اللقاء يجلس على سلم السبيل الأثري فتلفحه حرارة الذكريات ويغوص فيها حتى تتجسد له حية ملموسة. في لحظات اشتداد الوجد يتوقع أن يسمع وقع قدميها الخفيفتين ويرى طلعتها المقبلة محفوفة بالشوق والحياء. وحديثها الطويل وعناقهما الحار وكل موضع ثمين غسله بقبلاته. ولكنها لا تأتي ولن تأتي. قطعته ولعلها نسيته. وإذا خطر ببالها لعنته بما يستحق. ويوما مر تحت نافذتها في ساعة العصاري فخيل إليه أن رأسها لاح لحظة وراء القلة المعرضة للهواء لتبترد، ولكنها لم تكن هناك أو لعلها تراجعت باشمئزاز وعجلة. وقال لنفسه: مقدس الإنسان في عذاباته ..
وقال أيضا: لا يخلو عمل للإنسان من عبادة ..
وصادفها صباح الجمعة في الخيمية بصحبة أمها. تلاقت عيناهما لحظة ثم حولتهما عنه في غير مبالاة. لم تلتفت وراءها. تجلى له معنى من معاني الموت، كما خرج أبوه من الجنة بإرادته. وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء.
وكان يختلف إلى الدرب بحذر وانفعال ويأس. ووثقت الأيام علاقته بفتاة تماثله في السن تسمي نفسها قدرية. جذبته بسمرة غامضة - مثل سيدة - ولكنها أعمق في زنجيتها وبدانتها ولم تكن مغرقة في البدانة. ومنذ ساقته قدماه إليها - منذ زمن ليس بالقصير - لم ينحرف إلى سواها. وذكرته حجرتها بحجرته ولكنها أكثر بدائية بأرضها العارية وفراشها المرتفع والمرآة وكرسي وحيد يستعمل للجلوس وكمشجب، وطشت وإبريق؛ لذلك لم يكن يستطيع خلع بدلته في ليالي الشتاء. ومرت أعوام لم يبادلها سوى تحية القدوم وتحية الذهاب. ورغم تدينه العميق علمته الشراب، القدر القليل الضروري. وكان قدح نبيذ من نبيذ «السلسلة» الجهنمي - بنصف قرش - يكفي لطمس عقله وبعث الجنون في دمه حتى قال لها مرة في نشوة مضحكة: أنت سيدة الكون ..
وكان يتأمل الحجرة العارية، ويشم البخور، ويلمح الحشرات، ويتخيل الجراثيم المستكنة ويتساءل أليس هذا الركن الملعون المشتعل بنار الجحيم جزءا من مملكة الله؟! ومرة أمطرت السماء وجعجع الرعد فانحبس في الحجرة العارية. خلا الدرب وخفتت الأصوات وساد الظلام. تربعت قدرية فوق الفراش وجلس هو فوق الكرسي الخيزران، وأضاء الحجرة شمعة وحيدة. ولما طال الوقت تناول من جيبه مذكرة مدونا بها ملاحظات من دروسه وراح يقرؤها - كعادته - بصوت مسموع. وسألته قدرية: قرآن؟
فهز رأسه بالنفي وهو يبتسم. - مواعيد غرامية؟ - دروس! - تلميذ؟! .. ولماذا تربي شاربك؟ .. - موظف وتلميذ في مدرسة ليلية ..
وتذكر سيدة بحنين وأسى. وخطرت له فكرة استراح لها وهي أن المطر المنهمر يغسل الدرب ويجلو وجهه.
وعاد ذات يوم إلى الحارة فرأى الأرض مفروشة بالرمل أمام بيت سيدة والرايات تخفق على الجانبين. دق قلبه دقة النهاية. والتقى بأم حسني على السلم - ترى هل تعمدت أن تنتظره؟ - فحياها عابرا ومضى وصوتها يدعو له: ربنا يحقق مقاصدك ويسعدك ..
لم يستطع أن يركز عقله في دروسه. واقتحمت حجرته الصغيرة الأصوات، الزعاريد، تهليل الغلمان. موسيقى حسب الله، أجل .. ها هي سيدة تدخل مملكة رجل آخر، وتنطوي فترة من الشباب وتدفن. •••
অজানা পৃষ্ঠা