فالمصريون في عظمتهم الأولى قبل آلاف السنين كانوا يستجملون من الأجسام كل حر رشيق ويجعلون الأمثلة العليا للجمال تلك الصور التي يوشك أن تطير من الخفة، كما نراها على بقايا الآثار.
ثم هبطوا من أوج الحرية إلى حضيض المهانة والخضوع فركدوا ركود البطء والكسل، وأصبحت الكثافة الواهنة عندهم مقياس الملاحة والقسامة، وأصبح جمل المحمل أو «التختروان» مثال الحسن المطلوب في النساء: تعلو المرأة السمينة وتهبط في مشيتها وما تنتقل شبرا واحدا في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويكبرون ويباركون الخلاق العظيم، ويعوذون هذا الجرم الذي لا تمضي فيه السيوف من لحظات العيون ومن حسد الحاسدين!
ثم ثاب العالم كله إلى مذهب المصريين الأقدمين في جمال النحافة والرشاقة والنسج الدقيق، وشاع هذا المذهب بعد الحرب العالمية الماضية أشد من شيوعه في زمن من الأزمان، حتى غلا بعضهم فأوشك أن يلتمس الجمال في الهياكل العظمية، وهي على أية حال أقرب إلى الجمال من هياكل الشحوم واللحوم!
وما نحسبها نفحة من نفحات الفن العلوي هبت فجأة على أذواق الناس في العالم كله فأصبحوا جميعا من صاغة التماثيل الملهمين؛ فإن هذه النفحات أغلى وأرفع من أن تكال جزافا للملايين من الخلق في المغارب والمشارق، وبين الأذكياء والأغنياء، وعند من يحسون ولا يحسون.
ولكنها «الطيارة» قد أتمت مذهب السرعة في كل شيء، والسرعة والخفة لا تفترقان، والخفة والسمنة لا تتفقان.
وهكذا تعلمنا الآلات أحيانا كيف نشعر وكيف نتذوق الجمال، وكيف نصحح الأذواق! •••
والمرأة الجميلة - بعد هذا - ليست بشيء واحد يقاس بمقياس واحد في كل ما تبديه وكل ما تحتويه؛ لأنها جملة مجتمعة من الأشكال والألوان والحركات والمعاني يقاس كل منها بمقياس الجمال الذي قدمناه، وهو الحرية الموزونة، ونستطيع أن نقول: «الحرية» وكفى؛ لأن الحرية كما قدمنا تستدعي الوزن والقانون، لتظهر فيها المشيئة والغاية، وهما قوام الاختيار الذي لا تكون الحرية بغيره، وليتضح الفرق بينها وبين الفوضى وهي أقرب إلى العدم منها إلى الوجود.
ولكننا نقول الحرية الموزونة تقريرا لهذا المعنى وتبيينا للقدرة التي هي معيار الحرية ومعراج الارتقاء فيها، فالقائل الذي يعبر عن شعوره في النظم الموزون أقدر على القول وأبين عن حرية التصرف فيه ممن يقول هذا القول بعينه في الكلام المنثور.
ويقاس كل جميل في المرأة بهذا المقياس: فأجمل الوظائف هي الوظيفة التي تجري إلى غايتها في جسم لا فضول ولا نقص فيه، وأجمل الحركات والألوان، أو أجمل الحركات والأشكال تجمل وترتقي إلى عالم المعاني كلما أطلقت في النفس شعور الحرية بين الأوزان، أي كلما ابتعدت بنا من شعور الفوضى وشعور التقييد.
فإذا اتفق للمرأة لون جميل وشكل جميل وحركة جميلة فتلك غاية الغايات التي قلما تدرك في العالم المحسوس، وقد يتفرع اللون على ألوان والشكل على أشكال والحركة على حركات، فلا ينبغي أن ترجع بها جميعا إلى مقياس واحد؛ لأن المرأة في اللغة مخلوق واحد يعرف بهذه اللفظة الواحدة.
অজানা পৃষ্ঠা