وانهار الأب الحزين باكيا. إنها ما زالت مسلمة. - هل أشركت يا سلوى؟ هل أشركت بالله؟ - أريد أن أدفن كما يدفن المسلمون.
فرحة
أمسك شريف بالجريدة في لهفة جامحة، وراح يبحث عن نتيجة المسابقة التي تقدم إليها بكتابه الأول، وطال بحثه عن هذه الأسطر التي ينشدها حتى عثر عليها آخر الأمر، وإذا هو يجد اسم قصته يشرق في العنوان، وإنها الأولى. لقد اختيرت قصته أولى القصص على كل هذا الحشد الذي تدافع إلى المسابقة. لم تكن آماله جريئة إلى هذا الحد. إن آماله لم تحدثه يوما أنه قد يكون الأول. لقد كانت غاية الآمال عنده أن يذكر اسمه من بين عشرة أوائل. وهو ما يزال يذكر كيف كان يردع هذه الآمال، ويلزمها مكانا قصيا في بعيد نفسه، ولا يتيح لها أبدا أن تلح عليه؛ فقد كان يخشى أن تعده بما لا تطيق الأيام تحقيقه.
ولكن ها هي ذي الأيام تهب له حقيقة قائمة لم تستطع الآمال أن ترسمها له. أسرع شريف إلى البيت وعدا السلالم عدوا حتى دخل إلى زوجته: سهير. - هه شريف. - تصوري، تصوري. - خيرا. - الأولى. ليست الثانية ولا العاشرة. الأولى. - من هي؟ - قصتي الأولى. اختاروا قصتي. الأولى، الأولى. - الأولى! مبروك، وكم سيعطونك؟ - لا أعرف ولكنها، الأولى، الأولى. تصوري. - طيب يا أخي تصورنا وبعد. - وهل فيها بعد؟ الشهرة والمجد. - عظيم، مبروك. - ولكنك لست فرحانة. - وماذا تريدني أن أفعل لأكون فرحانة؟
وعندئذ أفاق شريف من فرحته، فعلا، ماذا يريدها أن تفعل لتكون فرحانة؟ ومنذ متى استقبلت أخباره بأكثر من هذا الهدوء، الذي لا ينبئ عن شيء من فرح أو حزن أو أي شعور؟ لو كانت امرأة غيرها، لو كانت امرأة جياشة الشعور لطلب إليها أن ترقص، نعم ترقص، يقفل هو باب الحجرة وترقص هي، وتقبله، ثم تعود فترقص وتقبله دون أن تقول مبروك. هذه المبروك الجامدة العاجزة. لو كانت امرأة أخرى لما قالتها. كان يريدها زوجة تستقبل معه المبروك إن ألقيت إليه ولا تقولها، ولكن هذه هي زوجته ولن يملك لها تغييرا. أفاق شريف إلى نفسه وإلى فرحته هذه الطفلة، وعاد إلى حقيقة سنه، رجل في الثلاثين من عمره، وقور الملامح، ثابت التفكير، يحب أحيانا أن يكون طفلا فيجد أمامه هدوء زوجته، فيعود مرة أخرى إلى سابق وقاره.
ينزل شريف إلى الشارع يبحث عن صديق يفجر أمامه فرحته، ولكن إذا كانت زوجته تنكر عليه هذه الفرحة الطاغية فكيف بالصديق؟ لا، إنه لا يريد صديقا، بل صديقة، أنثى تقفل عليهما حجرة ويأخذها بين ذراعيه، ويتبادلان الفرحة حينا والحب أحيانا، فيتزود من ساعة اللقاء طاقة كبرى من الإشراق، يلقى به هذه الحياة المعتمة حوله.
صديقة! ومن الصديقة؟ نجوى زميلته في الصحيفة التي يشتغل بها، فكثيرا ما أبدت إعجابها بما يكتب، ولكن نجوى! نعم نجوى، لا، لا يمكن؛ لقد كانت تبدي إعجابها مليئا بالنقد والموازنة والمقاييس الفنية. كان إعجابه منهجيا لا تبعثه الأنثى التي في نجوى، بقدر ما هو صادر عن نجوى خريجة الآداب. إن الذي ينشده إعجاب امرأة برجل إعجابا ساذجا، بلا نقد ولا مقاييس ولا موازنة ولا دراسة؛ يريدها معجبة بكل ما يكتب، وبالطريقة التي يكتب بها، بل وبالطريقة التي يمسك بها قلمه ويميل بها على صفحاته. لا، نجوى لا تصلح. فمن إذن؟
وفي غمرة هذا التفكير كانت سيارة شريف قد وصلت به دون أن يحس إلى الجريدة، فلم يفق إلا وهو ينزل من سيارته في طريقه إلى مكتبه بالجريدة، وحينئذ تذكر أنه لا عمل لديه بالجريدة في مثل هذه الساعة، ولكن هذا لم يثنه عن الدخول إلى مكتبه؛ فقد كان خاليا من كل عمل، فرحان تتجمع فرحته في قلبه ولا يجد لها متنفسا، فتمنى لو يجد أي شيء يفرج عن فرحته المكبوتة تلك، أي شيء حتى ولو كان عملا.
وسرعان ما تحققت أمنيته؛ لقد وجد على مكتبه كومة من رسائل القراء تنتظر، فراح يفتحها الواحدة بعد الأخرى، وأخذ يكتب رده على كل منها، وأحاط به عمله فنسي كل شيء عن فرحته وعن الصديقة التي يريدها، وعن تجهم زوجته وجمودها، فلم يبق أمامه إلا هؤلاء الغربان الذين يعانون الآلام في حياتهم، ويلجئون إليه يسألونه لها شفاء.
وفتح باب الغرفة عن فتاة حلوة تسأل في رقة وعذوبة: الأستاذة نجوى موجودة؟
অজানা পৃষ্ঠা