وجرى الحديث. حدثته عن أبيها وأمها وأختها وأخيها، وحدثها عن إخوته الثلاثة من الذكور والأربع من النساء، فعرفت أسماءهم وأسماءهن، وعرفت المتزوجة منهن ومن لا تزال تنتظر الزواج، وعرفت ماذا يفعل إخوته من الذكور، عرفت أعمالهم جميعا. ساعة واحدة كان كل منهما يعرف كل شيء عن الآخر. وجرى الحديث ونسيت الطائرة ونسيت الخوف، ونسيت أباها وأختها وأخاها، نسيتهم بالحديث عنهم، نسيت لهفتهم في يوم سفرها، ونسيت الجزع في عيني أمها، والضياع في عيني أختها، والشعور بالمغامرة في عيني أبيها، والشوق إلى المجهول في عيني أخيها. نسيت المشاعر التي ودعوها بها في غمار الحديث وعن حياتهم اليومية. وفجأة اهتزت الطائرة هزة عنيفة، وهوم الصمت على المسافرين، وعاد إليها الخوف، ولم تشعر بنفسها وهي تمسك بيده في ذهول، ولم تشعر أيضا بيده وهو يطبقها على يدها المرتجفة. وبعد لحظات أنبأهم صوت قائد الطائرة أنهم في خطر، وأنه يحاول أن يتغلب على هذا الخطر.
ونظرت إلى جارها الذي أصبح صديقها، وتكلمت عيناها وتكلمت عيناه، وساد الصمت دقائق طويلة، طويلة، ثم ارتفع صوت قائد الطائرة: اقتربنا من لندن. الله معنا.
وعادت إلى «قل هو الله أحد» تقولها بقلبها، ونظرت إلى جارها ووجدته يقول كلاما لا تفهم منه شيئا، وحين لامست الطائرة أرض المطار وجدت نفسها في حضن هريش، وهي ما تزال تردد «قل هو الله أحد»، وحين انفصلت عنه انفجرت باكية ضاحكة، متمتمة بكلمات السورة الوحيدة التي أصبحت لا تحفظ غيرها.
واستمرت الصلة بينها وبين هريش حتى أصبحت تقضي كل أوقات فراغها معه. حست في صحبته أمنا، واستطاعت برفقته أن تتغلب على الغربة أغلب ساعات النهار، ولكن الوحدة كانت تفغر لها فاها كلما تلقفتها الحجرة التي استأجرها لها عند أسرة صديقه.
وفي يوم سألها هريش ونظرة الحب تشع من عينيه: سلوى، أريد أن أتزوجك. - كيف؟ - هكذا. - ولكن ديننا يحرم الزواج بك. - أعلم.
وصمتت بعض الحين ولكنها ما لبثت أن وافقت على الزواج، وتم الزواج على غير علم من أحد إلا الموظفين المختصين.
ومرت الأيام وسلوى تكتب لأهلها، لا تجسر أن تخبرهم بما تم في أمرها، حتى كان يوم شعرت بألم في جنبها، لم تحفل به أول الأمر، ولكن الألم زاد، ولم تستطع أن تكتم أمره عن هريش، وطالعهما الطبيب بالحقيقة القاتلة: المرض قاتل لا سبيل إلى التغلب عليه.
ونظرت سلوى إلى هريش وأنعمت النظر، ولم تجد شيئا تقوله إلا ...: أنا آسفة. لم أستطع أن أحقق لك السعادة التي كنت أتمنى أن أحققها لك.
ولم يستطع هريش أن يتحمل العبء وحده، وفوجئت أسرة سلوى بخطاب موقع من هريش أن ابنتهم مريضة. وظن الأب أن التوقيع لأحد زملائها، ولم يفكر إلا في مرض ابنته، فسرعان ما ذهب إليها في لندن، ووجدها على فراش الموت ووجد معها هريش، وما هي إلا لحظات حتى تبين ما فعلته ابنته، وأوشك أن يتركها ليعود إلى القاهرة، ولكن سلوى نادته في صوت واهن ضعيف: أبي.
ووجد نفسه يقول دون ريث وتفكير: لم أعد أباك. - إني هنا وحيدة. - لي رجاء لا يستطيع أن يحققه لي هريش. - لا تنطقي اسمه. - فهو رجاء لن يحققه لي إلا أنت. - لا أريد أن أسمع. - أريد أن أدفن كمسلمة.
অজানা পৃষ্ঠা