وانقضت اللحظة دون أن يحدث شيء، فوضعت قدمها على عتبة الباب لتدخل وأبقت قدمها الأخرى على أرض الشارع، من يدري ماذا يمكن أن يحدث بين لحظة وأخرى؟ أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، آلاف يموتون وآلاف يولدون، براكين تنفجر وتبتلع البيوت، زلازل أرضية تحدث وتدك المدن، أشياء كثيرة تحدث في الحياة بين لحظة وأخرى، أكثر مما يتخيله الناس، فالناس لا تتخيل إلا ما تعرفه، وتفهم معناه، وهل تعرف الناس ما معنى أن ينطلق صاروخ بين لحظة وأخرى؟ ليس صاروخا عاديا ولكنه صاروخ له رأس نووية، هل يمكن أن يتخيل الناس ماذا يمكن أن تكون الرأس النووية؟ وماذا يمكن أن يدك لو سقط من الجو؟ هل يعرف الناس أن السماء تزدحم بملايين من الكواكب تفوق الأرض حجما؟ ألا يجوز أن يسقط كوكب من هذه الكواكب المعلقة في الهواء فوق الأرض فيدكها دكا؟ أيمكن أن ينجو هذا المبنى القذر الأسود وحده من دون القارات الخمس؟ أيمكن أن يظل مدير القسم معلقا فوق كرسي مكتبه في الفضاء الخاوي يبل أصبعه في فمه، ويقلب بإمعان في دفتر الحضور والانصراف؟ هذا لا يمكن أن يحدث، وإذا حدث فلن يقبله أي عقل، وابتسمت وهي تقول لنفسها نعم لن يقبله أي عقل ... لكن الابتسامة تجمدت فوق شفتيها؛ فقد وجدت نفسها، بلحمها ودمها وبكامل وعيها وإرادتها في فناء الوزارة.
وقفت بقامتها الطويلة النحيلة تتلفت حولها في ذعر، كأنما وطئت قدماها بطريق الصدفة أرضا ملغمة، وبينما هي تقف على هذه الحال خيل إليها أن حركة ما غريبة ومفاجئة حدثت في الفناء، ورأت العربة الطويلة السوداء ذات البطن الأحمر تتهادى فوق أرض الفناء وكأن من تحتها ماء، ثم تنزلق كحوت ضخم لتقف أمام سلم رخامي أبيض، وليقف معها، وعلى كل جانب من جانبيها صف من تماثيل خشبية، يرتدي كل منها بدلة صفراء.
من أين جاءت هذه التماثيل في هذه اللحظة الخاطفة؟ إنها لا تدري، ربما كانت موجودة دائما هكذا دون أن تلحظها، أشياء كثيرة لا تلحظها رغم أنها موجودة، أهي لحظت مثلا أن هناك سلما رخاميا له هذا اللون الأبيض الناصع؟
واتسعت عيناها بالدهشة حين رأت واحدا من التماثيل يترك الصف ويتقدم نحو العربة بخطوات، وهي ليست خطوات بمعنى الخطوات، ولكنها اهتزازات وتشنجات كتلك الحركات التي تصدر عن العرائس المتحركة، وثنى نصفه الأعلى فوق نصفه الأسفل، ومد ذراعا طويلة متصلبة، وفتح باب العربة.
دعكت عينيها في تلك اللحظة لتطرد ذرة الرمل الغائرة في زاوية عينها اليمنى، لكن ذرة الرمل بدلا من أن تطرد إلى الخارج، ضغطت إلى الداخل، وحملقت بعينيها المحمرتين لترى ماذا يمكن أن يخرج من باب العربة، ورأت أول ما رأت بوز حذاء رجالي أسود مدبب، تبعته ساق رفيعة قصيرة لبنطلون رصاصي له ثنية عريضة منشاة، ثم خرج رأس كبير مخروطي أبيض تتوسطه رقعة صلعاء صغيرة عكست فوقها ضوء الشمس كمرآة، ثم كتف رصاصي مربع، ثم الساق الثانية القصيرة الرفيعة.
وتذكرت وهي تشهد خروج ذلك الجسم الآدمي عضوا عضوا، حالة ولادة شهدتها صدفة في البلد وهي طفلة، وكانت العربة لا تزال واقفة يرتفع ظهرها المقوس الأسود فوق مدخل السلم.
رأته يصعد السلم درجة درجة، وفوق كل درجة يتوقف لحظة، كأنما ليلتقط أنفاسه، فيثني رقبته إلى الوراء، ويهتز رأسه الكبير إلى الخلف كأنه سيسقط من خلف ظهره، لكنه لا يسقط، ويظل مشبوكا في الرقبة.
كان يخيل إليها أحيانا أنها تنظر إليه من خلال عدسة مصغرة، وكانت تظنه أحيانا عقلة الإصبع الذي كان بطل حكايات جدتها، وأحيانا أخرى حين تكون شاردة كما كانت في تلك اللحظة تنتهز حقيقته فرصة شرودها لتفرض عليها نفسها كوكيل لوزارة الكيمياء الحيوية التي تعمل فيها موظفة .
وابتلعه الدهليز الواسع، واختفت العربة، وفقدت التماثيل قوامها الصلب، وارتخت عضلاتهم وتهدلت، وساروا بسيقان معوجة إلى الدكة الخشبية الملاصقة للسلم فجلسوا عليها، وراحوا ينظرون إليها وهي تمر من جوارهم بعيون نصف مغمضة، وأفواه نصف مفتوحة، وقد يدس أحدهم في فمه لقمة خبز بالجبن القريش، أو يخرج صحن الفول المدمس من تحت الدكة.
واجتازت الفناء الواسع، ودارت حول المبنى الأسود حتى بلغت ظهره، وظهر المبنى كظهر أي شيء، أكثر سوادا، أكثر خشونة وغلظة، ووقفت لحظة أمام الباب الخشبي الصغير ذي الضلفة الواحدة، ترتسم فوقه بسواد كالهباب أشكال مختلفة. منها أصابع آدمية، ومنها دوائر كالأكف، وحروف كلمات مبتورة، ورأت كلمة انتخبوا وقد طمس السواد حروفها الثلاثة الأخيرة.
অজানা পৃষ্ঠা