وفلتت من بين شفتيها ابتسامة للمنظر، فسمعته يقول في غضب: لماذا تبتسمين هكذا؟ وزمت شفتيها حتى لا ترد، لكنها قالت: لك أن تحاسبني على الزمن الذي غبته ولكن ليس من حقك أن تسألني لماذا أبتسم هكذا!
وتصورت أن غضبه سيشتد، وأن صوته سيزداد ارتفاعا لكنه سكت فجأة وكأنما فوجئ بقدرتها الخارقة على الرد، وشجعها صمته على أن تتظاهر بالغضب، فقالت وهي ترفع صوتها بدرجة أعلى: أنا لا أقبل أن يدوس أحد مهما كان على حق من حقوقي، فأنا أعرف كيف أدافع عنها! واستحال احمرار صلعته إلى لون أصفر باهت؛ فبدت كرأس شمامة، وقال بصوت مندهش: وما حقوقك التي دست عليها؟ فلوحت بيدها في الهواء وهي تصيح: لقد دست على حقين هامين من حقوقي؛ الحق الأول حين سألتني لماذا تبتسمين؟ والحق الثاني حين أكملت السؤال قائلا: هكذا؟ أما الحق الأول فهو حقي في الابتسام، وأما الحق الثاني فهو حقي المطلق في اختيار الطريقة التي أبتسم بها.
واتسعت عيناه المدفونتان في وجهه وأزاحتا عنهما بعض ما حولهما من لحم مكتنز، وقال في دهشة بالغة: ما هذا الكلام الذي تقولينه لي يا آنسة؟ ولم تعرف فؤادة كيف سيطر عليها الغضب فقالت بغير إرادة: من قال لك إنني آنسة؟ واتسعت عيناه أكثر وهو يقول: ألست آنسة؟ وهنا خبطت فؤادة بيدها فوق المكتب وصاحت: كيف يمكن أن تسألني هذا السؤال؟ ما الذي أعطاك هذا الحق؟ اللائحة؟!
لم تدر فؤادة كيف انقلب المشهد بهذه السرعة، فأصبحت هي الغاضبة، وهي صاحبة الحق في الغضب، وأصبح مدير القسم في حالة أقرب إلى الخوف منها إلى الدهشة، وضاعت من عينيه تلك النظرة الشرسة التي يصوبها إلى مرءوسته، وحلت محلها نظرة مستأنسة بل ومتهيبة أيضا تشبه إلى حد كبير تلك النظرة التي ينظر بها إلى وكيل الوزارة ورؤسائه من مديري العموم، وسمعته يقول بصوت كان يمكن أن يكون رقيقا لو أنه مارس الكلام بصدق لعدة سنوات سابقة: يبدو أنك متعبة اليوم، فأنت في حالة غير طبيعية، إني أعتذر لك إذا كنت قد آلمتك بكلمة، ووضع أوراقه تحت إبطه وغادر الحجرة، وتأملت ظهره وهو يخرج من الباب؟ كان مقوسا كظهر العجائز، لكنه لم يكن تقوس الشيخوخة وإنما ذلك التقوس المبكر الذي يصيب ظهور الموظفين من كثرة الانحناء والانثناء.
خرجت فؤادة في ذلك اليوم من الوزارة، وما إن ابتعدت عن السور الحديدي الصدئ، حتى قالت لنفسها: لن أعود أبدا إلى هذا القبر الآسن. ولم تعلق أهمية كبيرة لهذه الجملة؛ فقد كانت تقولها لنفسها كل يوم منذ ست سنوات، وسارت إلى محطة الأتوبيس لتعود إلى بيتها، لكنها بلغت المحطة ولم تتوقف، ظلت قدماها تسيران في الشارع. لم تكن تعرف إلى أين هي ذاهبة، لكنها ظلت تسير بغير هدف، ونظرت إلى الناس وهم يسيرون متجهين بسرعة وبإصرار سابق نحو هدف محدد يعرفونه، وتعجبت بينها وبين نفسها كيف استطاعوا أن يحققوا هذه المعجزة وبهذه البساطة الشديدة التي يحركون بها سيقانهم، ودارت حول نفسها دورة كاملة لا تعرف أي اتجاه تسلك، وعرفت أنها وحدها داخل دائرة مغلقة، وأن أحدا لا يدور معها، لا أحد معها، لا أحد على الإطلاق.
ورفعت رأسها إلى فوق وهي تتنهد فرأت العمارات العالية وقد رشقت فوق جدرانها اللافتات، وتذكرت فجأة أنها اتخذت بينها وبين نفسها قرارا وهي جالسة إلى مكتبها في ذلك الصباح، قرارا نهائيا غير قابل للجدل. نعم لقد قررت أن تؤجر شقة صغيرة وتصنع منها معملها الكيمياوي، وشدت قامتها وخبطت الأرض بقدمها في قوة. نعم، هذا هو قرارها وهذا هو تصميمها، وهي لن تتخلى عن قرارها أو تصميمها.
ووجدت نفسها في شارع قصر النيل، فسارت بخطوات بطيئة تتطلع بعينين ثابتتين إلى العمارات، وتتوقف بين عمارة وأخرى وتسأل البوابين عن شقة خالية. ووصلت إلى نهاية الشارع من ناحية الأوبرا فاجتازته إلى الرصيف المقابل ثم عادت أدراجها تفحص العمارات على الجانب الآخر للشارع.
وبينما كانت تسأل أحد البوابين نظر إليها الرجل بوجهه الأسود وعينيه الحمراوين نظرة فاحصة ثم سألها: هل معك ألف جنيه؟ وقالت: لماذا؟ فقال: هناك شقة ستخلو أول الشهر، لكن صاحبها يريد أن يبيع أثاثها لمن يؤجرها. وقالت: وهل الأثاث في الشقة؟ قال: نعم. قالت: أيمكن أن أراه؟ قال: نعم.
وسار البواب إلى مدخل العمارة فسارت وراءه، واتجه إلى المصعد، وضغط على الرقم 12 بأصبع رفيعة طويلة فحمية اللون لها ظفر أبيض مدبب بدا وكأنه قلم رصاص أسود له غطاء أبيض، وسألته بينما هما يصعدان: وكم حجرات الشقة؟ قال: اثنتان. وقالت: والإيجار؟ قال: ستة جنيهات في الشهر، إيجار قديم. قالت: ومن هو صاحب الشقة؟ قال: رجل أعمال كبير. قالت: هل كان يسكن فيها؟ قال: لا، كانت مكتبا لأعماله.
وقف المصعد في الدور الثاني عشر، واتجه البواب إلى باب كبير بني اللون تعلوه رقعة نحاسية صغيرة عليها رقم 129، وفتح الباب ودخل، فدخلت وراءه إلى صالة صغيرة بها كنبة عريضة تهدلت بطنها وكادت تسقط فوق الأرض، وكرسيان كبيران قديمان ومنضدة خشبية كالحة اللون، ثم دخلت إلى الحجرة الأولى فرأت سريرا عريضا من الصاج الأزرق وكرسيا كبيرا وشماعة، ودخلت إلى الحجرة الثانية وكانت تظن أن بها المكتب ولكنها رأت سريرا آخر ودولابا ومرآة، واستدارت إلى البواب قائلة: وأين هو المكتب؟ وانقلبت شفتا البواب الزرقاوان فتعرى بطنهما الأحمر الندي وقال بصوت غليظ: لا أعلم، أنا بواب العمارة فقط! وعادت فؤادة تتجول في الشقة، وتنظر من النوافذ، كانت الشقة تطل من ارتفاعها الشاهق على قلب مدينة القاهرة، وتكشف الشوارع الرئيسية والميادين، والكباري وأفرع النيل. لم تكن فؤادة قد صعدت إلى هذا الارتفاع من قبل، فبدت لها مدينة القاهرة أصغر بكثير مما كانت تظن، وبدا لها الزحام الذي كان يبتلعها، والأتوبيسات الكبيرة التي كان يمكن أن تسحقها، والشوارع الكبيرة الطويلة المتشابكة التي كان يمكن أن تتوه فيها، كل ذلك بدا تحت عينيها ككتل صغيرة تزحف كقطع الشطرنج.
অজানা পৃষ্ঠা