كانت هذه هي الفكرة المزمنة في رأسها، لم تعرف متى بدأت، فهي ليست من الذين يحفظون التواريخ، أو يجيدون حساب الزمن، الزمن أحيانا يمضي بسرعة، بسرعة شديدة، كسرعة دوران الأرض، فيبدو لها وكأنه لا يتحرك، وأحيانا أخرى يمضي ببطء، ببطء شديد فيهز الأرض هزا كبركان ينتفخ في باطنها.
إنها فكرة بدأت منذ زمن بعيد، لاحت لها مرة وهي جالسة في حصة الكيمياء في المدرسة الثانوية، لم تكن واضحة كل هذا الوضوح، وإنما كانت تتراءى لها من خلال بخار كالضباب، وكانت عيناها تتبعان باهتمام تلك الحركة الغريبة داخل أنبوبة الاختبار، وتلك الألوان التي تختفي فجأة وتظهر فجأة، والأبخرة ذات الروائح الغريبة، والراسب المتخلف في القاع، مادة جديدة هي نتاج تفاعل كيميائي لمادتين مختلفتين، لها صفات جديدة، ولها شكل جديد، ولها إشعاع جديد، وتنتهي حصة الكيمياء، وتبقى هي في المعمل، تمزج المواد بعضها بالبعض، وتراقب بدهشة التفاعلات، وتشم الغاز المنبعث من فوهة الأنبوبة ثم تصرخ في فرح: غاز جديد! ... اريكا.
وكان مساعد المعمل يندفع بجسمه الرفيع المدبب كرصاصة ويصيح بصوت عال حاد كانفجار موقد الغاز: اطلعي بره! ويشد من بين أصابعها أنبوبة الاختبار ويلقي مواد اكتشافها في البالوعة وهو يلعن الزمن الذي جعله مساعد معمل في مدرسة بنات حقيرة، وكان المفروض أن يكون معيدا في كلية العلوم لو أنه أكمل دراسته، ونفد صبرها في يوم وهو يلقي مواد تجربتها الفريدة في الحوض وصرخت: ضيعت اكتشافي! ورأته وهو يزم عينيه الضيقتين في نظرة ساخرة فأشاحت بوجهها بعيدا عنه وخرجت تجري من المعمل، وظلت نظرته الساخرة تطاردها وتعطلها عن اكتشافها فترة طويلة، وكان يمكن أن تصرفها نهائيا عن فكرة الاكتشاف الملحة، لولا أن عقلها كان قد اتجه إلى حصة الكيمياء، وإلى مدرسة الكيمياء.
كانت مدرسة الكيمياء طويلة نحيلة مثلها، ولها عينان باسمتان دائما أبدا، فيها نظرة عميقة دسمة كلها ثقة، وكان يخيل إليها أن هذه الثقة كلها متجهة إليها هي وحدها دون بنات الفصل، لماذا؟ هذا ما لم تكن تعرفه بالضبط، لم تكن هناك دلائل مادية عليه، ولكنها كانت تحسه، وتحسه بقوة، خاصة حين تقابلها صدفة في فناء المدرسة وتنظر إليها ثم تبتسم. لم تكن تبتسم لكل البنات، نعم لم تكن تبتسم للكل، ثم كان ذلك اليوم التاريخي، حين جاء مفتش الكيمياء وسألت المدرسة سؤالا لم تعرفه واحدة من الفصل سوى فؤادة، في ذلك اليوم سمعت صوت المدرسة يقول لها أمام الفصل كله وأمام المفتش أيضا: فؤادة شيء آخر غير باقي بنات الفصل. قالت هذه الجملة بنصها لا تزيد ولا تنقص حرفا، فهي محفورة في مخها كما نطقتها بحروفها المتشابكة، والمسافات التي تفصل الكلمة عن الكلمة، ونقط الحروف وفواصلها، وانحفار كلمتي «شيء آخر» بدرجة أشد، وامتداد الشرطة فوق الألف في كلمة آخر، تماما وبالضبط، وفقا للدرجة التي ضغطت بها المدرسة على كل حرف وزمن كل سكتة بين كلمة وكلمة.
نعم، أصبحت فؤادة تحب الكيمياء، لم يكن حبا عاديا كحبها للجغرافيا والهندسة والجبر، ولكنه كان حبا غير عادي، كانت تجلس في حصة الكيمياء فتصيب عقلها انتفاضة غريبة كالمغنطة، ويصبح كل شيء من حولها قابلا للالتصاق بمخها؛ صوت المدرسة، كلماتها، لفتاتها، جزئيات المواد المسحوقة التي قد تتطاير في الهواء، القطع المعدنية التي قد تتفرق فوق المنضدة، ذرات الأبخرة والغازات التي قد تطير في الجو، كل ذرة، كل اهتزازة، كل ذبذبة، كل حركة وكل شيء يلتقطه عقلها، كما يلتقط المغناطيس ذرات المعادن من فوق الخشب.
وكان طبيعيا بعد كل هذا أن يصبح عقلها كيميائيا، وتتخذ الأشياء من حولها أشكالا وأوصافا كيميائية، لم يكن غريبا عليها أن تحس يوما أن مدرسة التاريخ قد صنعت من النحاس الأحمر، وأن مدرسة الرسم صنعت من الجير المطفي، وأن الناظرة صنعت من المنجنيز، وأن غاز كبريتيد الأيدروجين ينبعث من فم مدرس العربي، وأن صوت مدرسة الصحة والأشياء كصوت احتكاك قطع الصفيح.
أصبح للمدرسين والمدرسات جميعا صفات معدنية إلا شخصا واحدا، كان هو مدرسة الكيمياء، كان صوتها وعيناها، وشعرها، وكتفاها، وذراعاها وساقاها وكل شيء فيها أعضاء إنسانية حية متحركة تنبض كشرايين القلب، كانت إنسانا حيا من لحم ودم لا يمكن أن يمت إلى المعادن بصلة.
لكن صوتها كان أبرز ما فيها، كانت له نكهة حلوة كنكهة برتقالة فوق شجرة، أو زهرة ياسمين صغيرة السن مغلقة لم تفتح ولم تلمسها أصبع. وكانت فؤادة تجلس في حصة الكيمياء وتفتح للصوت الحلو عينيها وأذنها وأنفها ومسام جسمها، وتدخل الكلمات من هذه الفتحات جميعا كهواء نقي دافئ.
وفي يوم حمل إليها الصوت قصة اكتشاف الراديوم، كان قد حمل إليها من قبل أسماء رجال كثيرين اكتشفوا أشياء، وكانت تقرض أظافرها وهي تسمع وتقول لنفسها: لو كنت رجلا لاستطعت مثلهم، وتحس بطريقة خفية أن هؤلاء المخترعين لا يزيدون عنها قدرة على الاكتشاف ولكنهم رجال. نعم، الرجل قد يفعل شيئا لا تفعله المرأة لمجرد أنه رجل، إنه ليس أكثر قدرة، ولكنه ذكر، وكأن الذكورة في حد ذاتها شرط من شروط الاكتشاف.
ولكن، ها هي امرأة تكتشف شيئا، امرأة مثلها وليست ذكرا. وبدأ الإحساس الخفي بقدرتها على الاكتشاف يقل اختفاء، وأصبحت على استعداد لأن تتأكد أن هناك شيئا ما حولها ينتظرها لترفع عنه الحجاب وتكتشفه، شيء موجود كالصوت والضوء والغازات والبخار وإشعاعات اليورانيوم، نعم؛ شيء موجود لكن أحدا غيرها لا يحس وجوده. •••
অজানা পৃষ্ঠা