المكر في عرفنا ضرب من الحكمة العسراء أو الحكمة العرجاء، والفرق كبير بين رجل حكيم ورجل ماكر، ولا نعني الفرق في النزاهة وحسب، بل نتجاوزها إلى الفرق في المقدرة والكفاءة.
وقد يحسن الرجل تنضيد الورق ولكنه لا يحسن اللعب، وعلى هذا النحو يحسن الرجل الدس والمكيدة، وهو فيما عدا ذلك عاجز ضعيف.
ولنعلم أن فهم النفوس شيء وفهم المسائل والأمور شيء آخر، فكم من رجل ذي حظوة مع الناس لا يضطلع بعمل كبير، وهو في الغالب نمط الرجال الذين درسوا الناس فوق دراسة الكتب والعلوم، وأمثال هؤلاء هم أصلح للحيلة والمداراة منهم للمشورة والنصيحة، ولا يصلحون مع ذلك إلا في البيئات التي درجوا عليها، فلا يلبثون أن يضلوا الطريق إذا وضعتهم بين رفاق غير رفاقهم ومعشر غير معشرهم، ومن ثم لا تصدق عليهم كلمة الأول الذي قال: «إن أردت أن تعرف الأحمق من الكيس، فأرسلهما عاريين وانظر ماذا يصنعان.»
وإنما هؤلاء المكرة كالبائع الطواف الذي يلفق في تجارته البخسة بين بعض السلع الصغيرة، فليس من العسير أن تفضح هنا سر بضاعتهم المزجاة.
فمن ضروب المكر أن تطيل النظر بعينيك إلى من تحدثه على دأب اليسوعيين، وكأي من عاقل له قلب مكنون وطلعة صافية! وقد يحدث ذلك بالإغضاء أحيانا في حياء ووداعة كدأب اليسوعيين كذاك.
ومن ضروبه حين تكون حريصا على بلوغ مأرب هام أن تلهي من لديه هذا المأرب بأحاديث أخرى في غير هذا الصدد؛ لكيلا يتيقظ للاعتراض والمناقشة، وقد عرفت مستشارا من أمناء السر لم يمثل قط بين يدي الملكة اليصابات لتوقيع بعض الأوراق، إلا بدأ الحديث في معارض شتى من أحوال الدولة؛ ليصرف اهتمامها عن تلك الأوراق.
وشبيه بهذه المفاجأة أن تبعث المسائل لصاحب الشأن وهو في عجل لا يتيح له أن ينعم النظر فيما هو معروض عليه.
وإذا أحب أحد أن يعرقل عملا يتوقع من غيره أن يعرضه على نحو مقبول، فعليه هو أن يصطنع الغيرة على إنجازه، ويبادر بعرضه على النحو الذي يستوجب إحباطه والنفرة منه.
واعلم أن اقتضابك الحديث كأنك هممت بقول، وعدلت عنه هو من دواعي الفضول في نفس محدثك، ويضاعف اشتياقه إلى المزيد.
وأجدى لك أن تلقي الكلام بعد سؤالك عنه من أن تتبرع به غير مسئول، فعليك أن تطرح لمحدثك طعما للسؤال بتغيير سحنتك التي تعودها منك، فينفتح أمامه الباب لسؤالك عن علة هذا التغير، كما صنع نحميا «يوم أراد أن يسأله الملك في الأمر الذي يعنيه، فبدا مكمدا أمامه على غير مألوفه». فبادر الملك إلى سؤاله: «لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض؟»
অজানা পৃষ্ঠা