تقدمة
عن باكون
من باكون؟
تقدمة
عن باكون
من باكون؟
فرنسيس باكون
فرنسيس باكون
تأليف
عباس محمود العقاد
অজানা পৃষ্ঠা
تقدمة
في الصفحات التالية تعريف بالمفكر الباحث الفيلسوف فرنسيس باكون، الذي ينسب إليه بناء العلم الحديث على أساس التجربة والاستقصاء.
وينقسم القول فيها إلى قسمين: قسم «عن باكون»، ويشمل النظر في عصره ونشأته وأخلاقه ورسالته الفكرية ومكانته الأدبية.
وقسم «من باكون» ويشمل المختارات من كتبه، التي يخلد بها بين رجال القلم، ولا تنقضي قيمتها الفكرية أو الأدبية بانقضاء فترة من فترات الثقافة الإنسانية أو الثقافة الأوروبية.
وكلا القسمين متمم للآخر في التعريف بالمفكر الكبير، ولكن في حدود هذه الصفحات التي تكفي لإجمال الجوهري من عمله وأثره، ولا ترمي إلى استيعاب النوافل والزيادات، وإن كانت تومئ إليها أقرب إيماء.
وحسبنا من هذه الصفحات أنها تعرف به من لا يعرفه، وأنها تضيف شيئا - ولو يسيرا - إلى هذه الناحية أو تلك من وجهات النظر العديدة إليه، في رأي عارفيه.
عباس محمود العقاد
فرنسيس باكون.
عن باكون
عصر الرشد
অজানা পৃষ্ঠা
نشأ فرنسيس باكون في إبان عصر الرشد، بعد تمهيد غير قصير في طريق اليقظة والاستطلاع والكشف والتجربة.
ونسميه عصر الرشد؛ لأن العصور التي قبله كانت عصورا قاصرة يفكر فيها العقل البشري بهيمنة من الوحي المسيطر عليه، ولا يجرؤ على التفكير لنفسه والاستقلال برأيه وعمله.
فلما نشأ باكون كانت القارة الأوروبية قد مضت شوطا بعيدا في التفكير المستقل والبحث الطريف والاستطلاع الذي لا يحجم عن مسلك من المسالك في عالم المجهول أيا كان وحيثما كان: في السماء أو في الأرض، وفي أعماق الفكر، أو في أغوار الضمير.
كان كوبرنيكوس وجاليليو قد عرفا سر الشمس، ووضعا الأرض في مكانها من السماء أو من المنظومة الشمسية.
وكان كولمبس قد كشف الأرض لنفسها، وجمع بين شطريها بعد طول افتراق وانفصال.
وكانت النهضة قد عمت القارة الأوروبية بين شرقها وغربها، وهجمت عليها هجوم الجيش المحاصر من جميع منافذها: فمن الشرق جاءها الرهبان بعد فتح القسطنطينية يحملون كتب الإغريق وكتب العرب وسائر الكتب التي اجتمعت لطلاب المعرفة من نساك الأديرة في العصور الطويلة، ومن الجنوب جاءتها فلول الصليبيين تنقل عن الشرق كل ما اقتبسته من صناعاته ومصنوعاته، ومن الغرب سرت فيها بقايا الحضارة الأندلسية، بعد أن تفرق مريدوها وتلاميذها في الأقطار الأوروبية، ومنهم قسيسون ورهبان، ومرتابون في العقائد والأديان.
وعكف الإنسان على أغوار ضميره ينقب فيها، ويكشف عن خوافيها ... فاستنقذ ضميره من سلطان الجمود الديني، ونهج له نهجا في محاسبة نفسه وانتظار الحساب من ربه يخالف ما درج عليه الأولون مئات السنين، وتلك هي الحركة المعروفة باسم الإصلاح، وما تفرع عليها من المذاهب والنظم والأخلاق.
فهو كما أسلفنا كشف شامل لأجواز السماء وأرجاء الأرض، وفجاج الفكر ودخائل الضمير.
وهو عصر الرشد الذي يرى فيه الإنسان بعينيه بعد أن رأى طويلا بعيني أبويه، وهما مغلقتان لا تبصران.
وكان للبلاد الإنجليزية شأن في ذلك العصر غير سائر الشئون.
অজানা পৃষ্ঠা
لأن الطرق العالمية تحولت من الشرق إلى الغرب، وانكشفت للملاحين شواطئ أفريقية الغربية، وما هو أبعد منها غربا في القارة الأمريكية، فأصبحت الجزر البريطانية وهي محور الحركة الدائمة بين أوروبا وأمريكا وأفريقية، وسائر أقطار المعمورة، وانفردت هذه الجزر بالإشراف على جميع هذه الأنحاء بعد انتصار الإنجليز على الأسبان في المعارك البحرية المشهورة، فجاشت هنالك الخواطر وتحفزت الهمم ونشطت بواعث الكشف والاستطلاع في شتى نواحيه، ولاح على العالم كله بين سمائه، وأرضه، وبحره، وبره، وضميره، وفكره كأنه خلق جديد.
وإنه يومئذ لخلق جديد بغير مراء.
لأن العالم الذي يراه الرجل الرشيد غير العالم الذي يراه الطفل القاصر، والعالم الذي تراه العينان معصوبتين غير العالم الذي تريانه مفتوحتين بصيرتين.
كان الإنسان لا يختبر شيئا لنفسه إلا بإذن من وليه، وهو بين أمين جاهل أو عاقل غير أمين، فأصبح جريئا على الاختبار الميسر له لا يقف به عند شأن من شئون عقله، ولا جسده، ولا عمل من أعمال دنياه أو أعمال دينه.
وكان كل شيء حراما عليه حتى يقال له: إنه حلال، فأصبح كل شيء حلالا له حتى يتبين له أنه حرام.
ومن خصائص الآداب والفنون أنها تعرض هذه الأحوال عرضا لا شبهة فيه؛ لأنه يصدر من طوايا النفس عفوا بلا روية ولا اصطناع، فإذا أخطأ التاريخ أو ضلت الأفكار، فلا خوف على الآداب والفنون في هذا المجال من خطأ أو ضلال.
وآداب اللغة الإنجليزية في ذلك العصر - عصر الرشد - أصدق مرآة لأحوال النفوس والأفكار في جيل باكون الرجل، وجيل باكون الفيلسوف.
فهو القائل: إن المعرفة قوة، وإني «أحسب أن ميداني يتناول المعرفة كلها على أنواعها».
وهذا الذي قاله الفيلسوف قصدا قد جاء من طريق الإلهام الشعري أو الأدبي على لسان كل شاعر أو كاتب أو أديب تمخض عنه ذلك العصر العجيب.
فشكسبير في رواياته وقصائده لا يدع سريرة من سرائر النفس البشرية إلا غاص فيها وترجم عنها، ولا يدع صفحة من صفحات الكون إلا نظر في مرآتها، وبسط مثال النفس البشرية عليها، ومن كلامه على لسان هملت في فضائل العقل وأغوار الضمير:
অজানা পৃষ্ঠা
إن الإنسان قطعة من الخلق ما أعجبها! ما أنبله في الفكر! وما أوسع آفاقه في الملكات والمواهب والكيان والحركة! وما أمضاه وأحقه بالإعجاب في العمل، وما أشبهه بالملك في القريحة! ما أقربه إلى صورة الأرباب! إنه لجمال الدنيا والقدوة المثلى في عالم الأحياء!
وقد أصاب النقاد الذين خصوا الشاعر مارلو “Marlowe”
بالتنويه في تعبيره عن ذلك العصر الطامح إلى القوة والبسطة في كل شعبة من شعب الحياة؛ لأنه في الواقع قد تناول جوانب القوة الإنسانية جميعا، فوزعها جانبا جانبا على رواياته الثلاث، وهي تيمور وفوست واليهودي من مالطة.
فالقوة في تيمور هي قوة الملك والسلطان، حيث يقول بلغة الوثنية: «إن الأرباب في السماء ليس لها من المجد ما للملك على الأرض، وليس من حظها في عليين أن تنعم بمسرات الملوك على هذه الغبراء، إنهم يلبسون التاج المرصع باللؤلؤ والنضار، الذي تناط به الحياة والموت، وإنهم ليسألون ويأخذون، وإنهم ليأمرون ويطاعون!»
والقوة في فوست هي قوة السيطرة على عناصر الطبيعة بالسحر، والمعرفة، ومحالفة الشيطان، وهو القائل: «أية دنيا من الغنم والمسرة، ومن القوة والشرف والعظمة، موعودة للباحث العليم! كل هذا الذي يتحرك بين القطبين الساكنين سيصبح رهينا بأمري، وإنما يطاع العواهل والملوك في دولهم وأقطارهم ولا قبل لهم فيها بإرسال الريح أو شق السحاب، ولكن السلطان الذي يملكه الحاذق بهذه الفنون ينبسط إلى حيث يمتد عقل الإنسان.»
والقوة في اليهودي من مالطة هي قوة الرجل الذي يفعل الأعاجيب بماله، ويقبض على أعنة الحوادث برشوة نضاره وجوهره ولجينه، وما من قوة تتاح للمخلوق الآدمي في هذه الدنيا وراء هذه القوى الثلاث: قوة الملك وقوة المعرفة وقوة المال، اللهم إلا قوة الجمال وليس هو بالذي ينال بالسعي والتحصيل.
وظاهر من هذا وأشباهه أن العقل البشري لم ينطلق من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليطلب المعرفة في الأوراق أو يستحيل إلى دودة من ديدان الكتب، كما يكني الأوروبيون عن طلاب المعرفة، الذين يعتزلون الحياة ويعيشون ويموتون بين الشروح والمتون.
كلا! إنما انطلق العقل البشري من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليقبل على كل مجهول وينعم بكل متعة، وينهل ويعل من كل مورد، ويفكر ليعيش ويعيش ليفكر على السواء.
فكان معيبا على الباحث الدارس في ذلك العصر أن يغشى المجامع، ولا يشارك الناس في الرقص والعزف والغناء وسائر ما يتعاطاه الخاصة والعامة من الملاهي والأسمار، وفي الثالوث الروائي المعروف بالعودة من برناسس
The Return form
অজানা পৃষ্ঠা
، الذي صنفه أدباء كامبردج يصفون العالم القح بأنه ذلك المخلوق «... الذي له ملكة خاصة في السعال، ورخصة في البصاق ... أو الذي يوصف نفيا بأنه ذلك المخلوق الذي «لا» يحسن الخطو و«لا» الأكل النظيف و«لا» ركوب الجياد، ولا تحية المرأة وهو ناظر إلى عينيها».
وتحدث توماس مورلي في كتابه «مقدمة الموسيقى العملية» عن عالم يذكر كيف دعوه في بعض المحافل إلى مشاركتهم في الغناء، فأنكروا منه أن يعتذر بالجهل وعدوها منه قلة أدب! وتساءلوا: أين يا ترى تربى هذا المخلوق؟
ولعل الشاعر سبنسر قد وصف النموذج الأدبي قبيل ذلك حين وصف سير فيليب سدني
Sidney ، فقال: «إنه لخفيف في الصراع سريع في العدو، سديد في الرماية، قوي في السباحة، حسن العدة للضرب والقذف والوثب والرفع، وكل ما يزاوله الرعاة من رياضة ولعب». •••
ولقد كانت هذه النزعات الحية تتمثل في الشعائر العامة والعادات الشعبية، كما تتمثل في الشعر والآثار الأدبية.
فمن العادات التي كانت شائعة في بيئة الفقهاء والأدباء عادة البلاط الأدبي، الذي كانوا يعقدونه بعلم من الحكومة ومساهمة منها في بعض الأحيان، فينصبون لهم أميرا يمنحونه لقب الإمارة، ويقضون برئاسته بضعة أسابيع في محاكاة البلاط ومراسمه وعرض فكاهاته وأضاحيكه، ويطوفون المدينة في موكب حافل يرحب به عمدتها، ويدعوه إلى وليمة فاخرة يشهدها العلية، ورجال الحاشية الملكية ونساؤها، وهي عادة مقتبسة من المغرب العربي، ولا تزال لها بقية مشهودة في موكب سلطان الطلبة، الذي يؤلفه الطلبة بالبلاد المراكشية بموافقة السلطان وتشجيعه، ويظهر أن العادة من نشأتها الأولى عربية مغربية وصلت إلى الإنجليز وغيرهم من هذا الطريق، واسم هذه المواكب في اللغات الأوروبية عربي بلفظه ومعناه؛ لأن كلمة مسكراد
masquerade
التي تدل عليه مأخوذة من كلمة مسخرة أو مسخرات، وهي تتناول مظاهر الحكاية والسخرية، ومحافل البسط والقصف وما إليها.
ويقضي هذا البلاط الملفق بتنصيب بعض النبلاء، وحملة الألقاب، ولكنه يشترط فيمن يستحق ألقابه أن يطلع على جميع المؤلفات المشهورة، ويتردد على المسرح ويحسن نظم المقطوعات الشعرية، التي تستخدم للتحية أو الفكاهة في المجالس العامة، ثم يشترط في هذا النبيل الأديب أن يكون على رضى العصر من صفات الأدب والكياسة، فلا يكتفي منها بالعلم والاطلاع دون الكياسة الاجتماعية والخبرة بآداب الخطاب والسلوك والإشراف على المآدب والمراقص، وسهرات السمر والغناء، وعليه - من واجباته المختلفة - أن يتصدر إحدى الولائم، ويدير فيها الحديث، ويتكفل بتحية المدعوين والمدعوات.
ومن دأب العصور التي تشيع فيها هذه النزعات الحية أن تتبرم بتعليم المدارس والجامعات، ولا ترى فيه الكفاية لتنشئة الرجل المهذب والعامل الناجح في مطالب الحياة؛ لأنهم ينشدون الملكات التي ترشحهم لارتقاء المناصب الرفيعة، وتحصيل الثراء والعتاد ومزاولة الأعمال، ومداورة الفرص واجتناء اللذات، ولم يكن تعليم تلك العصور كفيلا بشيء من هذا؛ لأنه مقصور على حشو الأذهان بالنصوص والشروح، وتخريج علماء العزلة وحفاظ الدفاتر والأوراق.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد ينظر العالم من هؤلاء إلى رجل قليل النصيب من العلم المدرسي، ولكنه مزاول مداور حول قلب ببداهة الحياة وتجارب الأيام، فيراه خيرا منه وأوفر نصيبا من مطالب الحياة في تلك الأيام، وفي سائر الأيام، فيداخله الشك في العلم الذي تعلمه أو يغتر به غرورا لا يجديه في غير السلوى والعزاء.
ولهذا ساء ظن الأذكياء بالعلوم التي كانت تدرسها الجامعات في ذلك الحين، وتحدث بذلك طلاب الجامعات قبل سواهم كما جاء في رواية الحج إلى پارنساس التي أنشأها أدباء جامعة كمبردج، وكنوا فيها عن جامعتهم باسم پارنساس القديم، وهو الجبل اليوناني المقدس الذي كانوا يزعمون أن أبولون رب الفنون، يأوي إليه مع عرائس الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل.
ففي تلك الرواية شابان يقبلان على الپارنساس طمعا في المجد والجاه، فيلقاهما أستاذ معوز ناقم على العلم والتعليم، فيثنيهما عن هذه النية الخادعة، ويقول لهما: إن رب الفنون أپولون قد أفلس من الذهب والفضة إلا ذهب الكلام الموشى، وفضة الروائع الناصعة، وأما الذهب النفيس والفضة الغالية، فهما من نصيب النساجين وبائعي الحلل والأحذية وسماسرة الأسواق، وإن هوبسون - ساعي كامبردج المعروف - يجمع من المال في ذيول اثنتي عشرة جارية ما يعز على الأستاذ أن يجمعه من مائتي كتاب.
ولم يبالغ أستاذ الرواية في وصف بؤس العلماء وقلة جدواهم من أدب الكتب والدفاتر، فإن المسرحية - وهي عمل نافع في السوق - كانت تباع يومئذ بعشرة جنيهات أو دون ذلك، وكان قصارى ما يطمع فيه الكاتب المسرحي من المورد السنوي، لا يتجاوز الستين أو السبعين من الجنيهات، ولولا الهبات التي كانت تصل إلى الشعراء والأدباء من حماة الآداب ونصرائها لهجروا هذه الصناعة، أو عاشوا في لجة ذلك الرخاء عيشة العظماء والمترفين. •••
ليس أقرب إلى العقل البشري في عصر كهذا من التوجه إلى علم جديد غير علم العزلة وديدان الأوراق، وهو العلم المفيد الذي يمتزج بالمعيشة، ويعين الأفراد والأمم على الحياة، وهذا هو لباب الفلسفة الباكونية، ولباب العصر كله بعلمه وعمله وأخلاقه ومساعيه.
وكانت في العصر بواعث أخرى أعانت طلاب العلوم والمعارف على الطموح إلى المجد الدنيوي، والتطلع إلى المناصب العليا والخوض بعلومهم ومعارفهم في غمار الحياة:
منها أن مناصب الدولة العليا كانت قبل ذلك وقفا على كبار رجال الدين، أو كبار رجال السيف من النبلاء ووراث الألقاب، فلما تحولت البلاد الإنجليزية عن سلطان الكنيسة البابوية خلا مكان الكهان والكرادلة في تلك المناصب، واتسع فيها الأمل لرجال المعرفة والذكاء.
وكانت المجالس النيابية قد أخذت في محاسبة الملوك على الضرائب، ونفقات الخزانة وحقوق الامتياز المشروعة أو غير المشروعة، فاحتاجت الحكومة إلى وزراء من رجال الفقه والمال، وقادة المجالس النيابية، وخلا كذلك مكان الأكثرين ممن كانوا يرتقون إلى كراسي الوزارة من طريق الوظائف العسكرية دون سواها.
وعمت فتنة الذهب والكسب السريع بعد فتح الطريق إلى الهند من المغرب، وبعد الهجرة إلى القارة الأمريكية، فتهافت الناس على الثراء، وأصبحت القناعة عارا على القانعين واسما آخر من أسماء الكسل والعجز وسقوط الهمة، فكان الطموح والاستطلاع سمة العصر كله، وكان العلم المنشود يومئذ بابا من أبواب الطموح والاستطلاع. •••
وتنبه العصر - بطبيعة ما أشرج عليه من الطموح والاستطلاع - إلى أسلوب من أساليب العلم والتثقيف هو بلا ريب من أنفع الأساليب لتوسيع النظر، وترويض العقل على حسن المقابلة بين الأمور، والنفاذ إلى دخائل العادات والشعائر القومية، ونعني به السياحة، وهي أشبه أساليب التعليم والتهذيب بعصر الحركة والكشف، واستقصاء النظر في الأرض والسماء.
অজানা পৃষ্ঠা
فكانت الرحلة إلى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وهولندة وغيرها من الأقطار الأوروبية، وبعض الأقطار الشرقية فرضا على كل فتى مستطيع من أبناء العلية وذوي اليسار؛ وشجعتها الحكومة لأنها كانت في أوائل عصر التوسع والاتصال بالأقطار الأجنبية، فكانت تعول أكبر التعويل على أخبار أولئك السائحين، وهم عائدون إلى بلادهم من تلك الأقطار، وكثيرا ما رشحتهم للسفارة ومناصب السلك السياسي بما تتوسم فيهم من سداد الملاحظة وسرعة الخاطر وصدق الغيرة الوطنية في مشاهداتهم الخارجية.
وكان أبناء الأمة الإنجليزية يكبرون أولئك السائحين، ويتهمونهم بالترفع والحذلقة في نقد عادات البلاد، وتكلف المعيشة على غير السنن التي ألفوها من قديم. وهو اتهام لا يخلو من الإكبار، أو من الاعتراف بما للسياحة من قدرة على تحسين العادات، وإقناع السائحين بارتفاعهم عن البيئة، التي درجوا عليها قبل التنقل في مختلف الأقطار.
هذه وأمثالها هي أساليب العصر في التعليم ومباشرة الحياة؛ لأنه كما أسلفنا عصر طموح واستطلاع، ولكنها في الواقع لم تكن لتروج في عصر من العصور ما لم تكن فيها موافقة لخلائق السكان، ومجاراة لنزعاتهم الحية التي فرضتها عليهم طبيعة المكان، فلم يعرف عن سكان الجزر البريطانية قط في عصر من العصور، أنهم جنحوا إلى المعيشة الراكدة، وتعلقوا بالمعارف النظرية والدراسات الكلامية التي تنعزل بصاحبها عن معترك الحياة، ولكنهم نشئوا على الملاحة والصيد واللعب في المروج الفيح، والمرانة على الفروسية وفنون الرياضة، والتأهب لبرد الشتاء بحرارة العمل وحركة الأعضاء، وهيأتهم هذه النشأة لتلبية مطالب العصر، الذي وسم قبل سائر العصور بسمة الطموح والاستطلاع. •••
وكل أولئك لم يكن ليغني شيئا لو لم يكن طموح الفكر منطلقا إلى مراميه بغير عائق من حجر ذوي السلطان، سواء كانوا من رجال الحكم أو من رجال الكنيسة.
وقد انطلق طموح الفكر إلى مراميه في ذلك العصر بغير عائق من هذا السلطان أو ذاك؛ لأن الكنيسة كانت مشغولة بالدفاع عن وجودها فترة طويلة، ولم تزل في هذا الشاغل حتى تغلب عليها سلطان التاج، والحكومة النيابية، فاستكانت في حدودها إلى حين، وشاء عصر الطموح أن تتجرد الكنيسة من الرجال الأشداء، الذين يبسطون مشيئتهم بقوة العارضة ومضاء العزيمة وسعة الحيلة، ولو لم يكن لهم سلطان من الوظيفة أو الصفة الدينية؛ لأن معيشة الكنيسة الوادعة وأجورها القانعة لم تكن في ذلك العصر مما يغري أمثال أولئك الرجال الأقوياء بالركون إليها والبقاء فيها، فمن بقي في الكنيسة يومئذ فهو غير ذي طموح وغير ذي عزيمة، ومن كان كذلك لم يخش منه الحجر على حرية الفكر، ولا الوقوف في وجه التيار وهو في أوائله جارف عنيف.
أما سلطان الحكومة فقد كانت له رقابة على الكتب والمطبوعات، ولكنها لم تكن من الصرامة والضيق بحيث تحول بين الكتاب وإظهار ما يكتبون، وقلما كانت الحكومة تلتفت إلى حملات الكتاب حتى تكون قد صدرت من المطبعة، وتداولتها الأيدي ولغط بها الناس، وكان لها الأثر المحذور الذي يستوجب الالتفات. فإذا صدر الكتاب من المطبعة مشحونا بما شاء صاحبه من التنديد والتشهير، ولم يلغط به أحد ولا ثارت حوله الضجة المحذورة، فكثيرا ما تغفل عنه الحكومة أو تتغافل عنه، ثم تهمل التأليف والمؤلف كما أهملتهما جمهرة القراء. •••
على أنه كان عصرا من عصور التاريخ يسري عليه ما يسري على جميع العصور، فما من عصر من العصور في تاريخ الإنسان خلا كل الخلو من بعض عوامل الضعف والنكسة، أو بعض عوامل التهيؤ للانتقال والتبديل.
ولم يكتب لعصر باكون شذوذ عن هذه القاعدة التي لا شذوذ فيها، فقد كمنت فيه عوامل شتى للتبدل والانتقال، وجاء بعضها من القوة والطموح، كما جاء بعضها من النكسة والجمود.
فازداد سلطان التاج بعد الغلبة على الكنيسة، والغلبة على نظراء الدولة من الأمم الأجنبية، وخيل إلى أنصار الحكم المطلق أنهم قادرون على إطلاق ما تقيد منه، وتوسيع ما ضاق من حدوده، فجمعوا إليهم الأنصار وأكثروا لهم الرشى والهبات، وكلفهم ذلك طلب المال وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وليس إلى كسب الأنصار في عصر كذلك العصر من سبيل بغير العطاء الجزيل، وليس لهذا الإرهاق من مغبة غير النقمة فالثورة والانتقاض.
وكان قمع الكنيسة على كره من الأتقياء المتنطسين، وهم غير قليلين في البلاد الإنجليزية، ولعلهم كانوا يطيقون هذا القمع لو حسنت الأخلاق الدينية، وروعيت الآداب المسيحية، ولكنهم نظروا فيما حولهم فأنكروا الترف والبذخ، والتهافت على المتعة والمغالاة بالحطام والإباحة في مغامسة اللذات، فقرنوا بين ذلك وبين قمع الكنيسة، وحسبوا أن الأمر محتاج في تقويمه إلى حماسة دينية، وتنطس شديد في التحريم والتحليل، فجاءت ثورة المتطهرين مشفوعة بثورة المتمردين على المستبدين.
অজানা পৃষ্ঠা
وجاء الطموح والفتوح بنظام جديد في توزيع الثروة، فاختل النظام القديم وتصدعت أركان البناء العريق، وكل اختلال فلا مناص فيه من شكاية وقلق واستياء.
وغلا الناس في الطموح فعرض لهم ما يعرض لكل غلو في الرجاء من خيبة وصدمة، واتهام للواقع وطلب للتبدل.
فكان الطموح في عنفوانه، وكانت هذه العوامل الكامنة في بدايتها، ولكنها لم تحتجب عن بديهة الشعر والحكمة في زمانها، فتراءت في وساوس هملت ونقمة تيمون، ويأس لير كما تخيلها شكسبير، وتراءت في تلميح باكون إلى القلاقل والثورات خلال مقالاته، وفي أطواء صفحاته التاريخية.
وجملة ما يقال عنه أنه كان عصرا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج باكون؛ لأننا نلمس مراجع العصر في أخلاقه كما نلمسها في أفكاره وكتبه، فهو عصر يصدف عن علم النظر والعزلة، ويقبل على علم المزاولة والقوة، ويأنف من التسليم بكل شيء، ويتشوف إلى تجربة كل شيء والتذوق من كل شيء، ويركب كل مركب في سبيل الكشف والاستطلاع، ويستسهل كل عسير في سبيل المال والمتاع، وكذلك كان باكون الذي جرب العلم والحياة، واستباح في سبيل المال والمنصب ما لا يباح.
نشأة باكون
كان عصر الرشد - عصر باكون - عاملا مهما في توجيه سيرته وإخراج فلسفته، ولكنه لم يكن بالعامل الوحيد في هذا ولا ذاك، بل أعانه على الأقل عاملان آخران: بنيته وبيته ...
فلم يكن الرجل قط من أصحاب الخلق الوثيق والبنيان الركين، سواء في صباه أو بعد صباه، ولم يتفق له ما اتفق لكثيرين غيره من تصحيح بنيتهم بعد الشعور بالهزال، أو التوعك في إبان الشباب.
وكانت أمه تحذر أخاه الأكبر - أنتوني - أن يحذو في معيشته حذو أخيه الأصغر، وتوصيه أن يذهب إلى الصلاة مرتين كل يوم، ولا يقتدي بأخيه الذي يهمل هذا الجانب ولا يقوم بفرائضه، وتقول: إنها تحسب ضعف الهضم عنده آتيا من اختلال مواعيده واضطراب عاداته، وذهابه مبكرا إلى الفراش ثم سهره على التفكير والقراءة، ثم بقائه في فراشه طويلا بعد تيقظ الناس في الصباح.
وإذا ضعفت البنية واشتد الطموح، وتفوق الذكاء فالطريق مرسوم: طريق الظهور في ميدان الفكر الهادئ، والحيلة الوادعة، والمناصب السلسة المؤاتية، لا طريق المغامرات العنيفة، والشهوات الجامحة والصراع المرهوب.
ويبدو من سيرة باكون أن ضعف بنيته قد تناول شهوات جسده، فملكها ولم تملكه، وعاش حياته كلها ولم تغلبه قط نزوة من نزوات الشباب، أو دسيسة من دسائس الهوى في الكهولة والشيخوخة، وتوجه به عصر المتاع بالحياة إلى ناحية من نواحي هذا المتاع لا يعوقها ضعف البنية، وهي ناحية الوجاهة والبذخ والرئاسة المرموقة بالأنظار. وربما كان مصيبا حين وصف نفسه في أوائل شبابه، فقال من خطابه إلى رئيس الوزراء: «إنني أعترف بأنني على قدر اتساع مطامعي الفكرية تعتدل بي مطامعي المدنية.» ويقصد بها ما نسميه اليوم بالمطامع السياسية والمظاهر الاجتماعية.
অজানা পৃষ্ঠা
أما العامل الآخر وهو بيته فأثره في حياته كبير طويل الأمد، سواء بالوراثة أو بالتلقين والاختبار.
ولد بلندن في أوائل سنة 1561، في بيت من بيوت الرئاسة من جانبي أبيه وأمه، فكان أبوه السير نيقولاس باكون حامل أختام الملكة في عهد اليصابات، وكانت أمه بنت السير أنتوني كوك الذي كان مربيا لإدوارد السادس، وركنا من أركان الإصلاح الديني في زمانه، وكانت سيدة مثقفة تحسن اللاتينية واليونانية، وتتشيع لمذهب كلڨن وتغلو في التشبث بآراء المتطهرين والمتنطسين، الذين يمقتون التيسير والسماحة في مسائل الدين.
فكان تأثير هذه النشأة الدينية مزدوجا في سيرة باكون وتفكيره: بعضه في اتجاه بيته وبعضه مناقض لهذا الاتجاه.
فالبحث في مسائل الدين وحقائق الإيمان، وأصول الجزاء والثواب كانت بابا مطروقا - بطبيعة الحال - في ذلك البيت خلال تلك الفترة، التي كثرت فيها المنازعات بين النحل والمذاهب الدينية، فنشأ باكون في صباه معود الذهن على البحث في هذه الأمور وما يتصل بها ويجري في مجراها.
وكان الغلو في التنطس بقية من بقايا عصر مضى، لا تطرد مع النزعة الغالبة في عصر الطموح والاستطلاع والتهافت على المال والمتاع، فلم يكن لهذا التنطس البيتي ثبات في وجه العصر وجمحاته ودواعيه، ولعله كان من شأنه أن يضاعف الاندفاع مع العصر في كل ما يقتضيه من غواية، وكل ما تتسع له القدرة والمزاج من مجاراة.
وكتب على باكون أن يتلقى أثرا آخر من بيته وذوي قرباه، يخيل إلينا أنه أبلغ الآثار المكسوبة في توجيه أخلاقه، وإبراز كوامنه وتغليب أطوار مزاجه، فإنه لقي العقبة الكبرى، بل العقبات الكبار جميعا من ذوي قرباه، فكانت الوزارة في أيديهم والبلاط رهنا بمشورتهم، أو غير معرض عن توسلهم ورجائهم، وكان للناشئ باكون أن يطمع بحق في معاونتهم وكلاءتهم، ويصعد إلى أرفع المراتب بأعينهم وعلى أيديهم، ولكنهم صدموه في آماله ولم يزالوا يصدمونه من عنفوان صباه إلى أن شارف الكهولة، وبلغ من مناوأتهم إياه أنهم كانوا لا يساعدونه، ولا يتركون غيرهم يساعده بما يستطيع، فوقفوا له بالمرصاد كأنهم ألد الأعداء، وشوهوا عقيدته في الناس، وفي استقامة الأخلاق من حيث يشعر ولا يشعر، ومن حيث يشعرون ولا يشعرون.
أرسل فرنسيس إلى كامبردج وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يتردد على أبيه في البلاط، فكانت الملكة تداعبه كلما رأته وتدعوه باسم «حامل أختامها الصغير»، فكان ذلك مما يملي له في الثقة بالارتقاء إلى أرفع المناصب يوم يحين أوانها، وقد لاح له في بادئ الأمر أنه جد قريب.
ففي السادسة عشرة ترقى في سلك طلاب العلم إلى طبقة الراشدين أو الأقدمين، كما كانوا يسمونهم في ذلك الحين، وفتح له أول باب من أبواب المناصب، أو أبواب العلم السياسي الذي يتزودون به يومئذ لتلك المناصب، فذهب إلى باريس في صحبة السير أمياس پوليت
Amyas paulet
سفير إنجلترا لدى البلاط الفرنسي، وتنقل بين المدن الفرنسية تنقل الدارس المستفيد، ومضت عليه قرابة ثلاث سنوات وهو يتهيأ ويتحفز للترقي في مناصب الدولة بمعونة أبيه، ولكنه فوجئ بموته وهو على أشد ما يكون ثقة بمعونته وحاجة إلى الاعتماد عليه، فمات أبوه سنة 1579 وهو في الثامنة عشرة من عمره، وعوجل بالموت قبل أن ينجز لولده ما كان يفكر فيه من أمر توظيفه وأمر ميراثه، فقد كان في نيته أن يوصي له بضيعة تغنيه أو تكفيه، وتتيح له أن يظهر بين أقرانه بالمظهر الذي يرضيه. فأصبح فرنسيس بعد موته خلوا من الوظيفة المأمولة وخلوا من الميراث الموعود، إلا القليل الذي يقع من نصيب الولد الثاني في بلاد الإنجليز.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان اللورد برجلي
Burghly
رئيس الوزراء من أقرب ذويه، فألقى اعتماده عليه ووثق من أخذه بيده في مراتب الدولة مرتبة بعد مرتبة ومقاما فوق مقام، ولكنه لم يلبث أن تطامن في رجائه وكفكف من غلوائه، وعلم أنه الطريق الموصد العسير، وليس كما كان يحسبه بالطريق الممهد اليسير.
وأعاد الرجاء كرة بعد كرة، وأفضى إلى قريبه بغاية ما يرجوه لو شاء أن يصغي إليه، وهو منصب معتدل المورد يعينه على الدرس ويكفيه لنفقة أمثاله، فوعده بوظيفة كاتب المجلس الخاص بعد خلوها، وهي قلما تخلو مرة في كل عشرين سنة!
ويحار المؤرخون في تعليل هذا العداء العجيب الذي لا يعرف له سبب، ولم ينقل من كلام باكون ولا كلام أقربائه ما يفسره ويبطل الحيرة فيه، فالذين يحسنون الظن باللورد برجلي يردونه إلى شكه في ولاء فرنسيس واعتقاده - من لمحات أخلاقه في صباه - أنه ليس بالولي الذي يركن إليه ويؤتمن على صنيعة، ويضاف إلى ذلك سوء ظن الساسة بأصحاب الأقلام، وعشاق الكتب والدروس، ونظرتهم إليهم - فطرة - تلك النظرة التي تمتزج فيها السخرية بالارتياب.
والذين يسيئون الظن برئيس الوزارة يعزون عداءه المستور لقريبه الناشئ إلى خوفه من منافسته لولده روبرت، وهو من أقران فرنسيس في السن والدراسة، ولا يخفى على الوالد الفطن فرق ما بينه وبين فرنسيس في الذكاء، والحيلة، وذرائع الوصول.
وأيا كان سر هذا العداء فقد علم الحكيم الصغير بعد قليل أن المساعدة الثانوية هي قصارى ما يرجوه من أقربائه، ووزراء زمانه، فهم لا يضنون عليه بالمساعدة في أعمال المحاماة، أو الانتخاب لمجلس النواب أو بسداد ديونه إذا أحرجه الدائنون، وقد أحرجوه مرتين، وساقوه إلى السجن في هاتين المرتين، فوفى روبرت دينه في المرة الثانية وقسطه عليه.
أما المناصب التي ترجى وتخشى فقد صدوه عنها، وصدوا من يعينه عليها من كبراء الدولة، ولجوا في الحيلولة بينه وبينها حتى جرت بينهم وبين أنصاره في سبيلها ملاحاة عنيفة قلما تجري بين الكبراء.
ففي سنة 1584 دخل مجلس النواب عن مالكومب رجيس
Malcombe Regis ، وعاد فدخله مرة ثانية نائبا عن ليفربول سنة 1588، وهي سنة انتصار الإنجليز على الأسبان في معركة «الأرمادا» المشهورة.
অজানা পৃষ্ঠা
وتيسرت له وظيفة «محام مستشار» لا مرتب لها ولا عمل في الحكومة، ولكنها من وظائف الشرف التي يستعين الوزراء بأصحابها في تحضير بعض التهم أو ترتيب بعض القضايا أو مناقشة بعض الخصوم.
وفي سنة 1593 خلت وظيفة النائب العام، فظن باكون أن أقرباءه لا يحولون بينه وبينها في هذه المرة، بعد أن تمرس بالنيابة والمحاماة، وشئون القضاء برهة تحسب لمثله في ذكائه ووفرة محصوله.
فإذا هم وقوف له بالمرصاد.
وكان يؤيده في طلب هذه الوظيفة لورد إسكس
Essex
الفارس النبيل الجميل صديق الملكة المشهور، وصديق العلماء والأدباء.
فاشتدت الملاحاة بينه وبين رئيس الوزراء وابنه روبرت سسل في ترشيح باكون لتلك الوظيفة، وغضب إسكس حين اعتذر روبرت سسل بشباب باكون، وحاجة الوظيفة المطلوبة إلى السن والدربة، فقال مجبها له: إنك مثله في السن، وأنت تشغل من مناصب الدولة منصبا أرفع وأحوج إلى السن والدربة من منصب النائب العام.
وقيل غير مرة للورد إسكس، وهو يلح في ترشيح باكون لذلك المنصب: إنهم يدخرون له وكالة النائب العام، فهي حسبه في الثانية والثلاثين من عمره وفي بداية ارتقائه لسلم المناصب الكبيرة، وخيل إلى اللورد إسكس هنيهة أنهم جادون فيما يعدون، ولكنه ما لبث أن علم أنهم وعدوا بما ليس في اليد؛ لأن الوكالة قد كانت مشغولة في ذلك الحين، فلما خلت بعد قليل إذا هم يضنون على صديقه بوظيفة الوكيل، كما ضنوا من قبل بوظيفة الرئيس!
وقد كان اللورد إسكس رجلا ذكيا كريما شريف الخصال شجاعا مفرطا في الشجاعة محبوبا في الجيش والأمة، وسيم الطلعة يفتن النساء بوسامته ونخوته، وعلو صيته، ولم يكن يعاب في أخلاقه إلا بفرط الشجاعة والخيلاء، وقلة الدهاء في عصر لا تصان فيه حوزة بغير الدهاء، وكانت الملكة اليصابات تعجب بشجاعته وجماله، ولكنها لا تركن إلى رأيه وتدبيره، ولعلها كانت تستريح إلى مخالفته في بعض المطالب معاندة له أو تدللا عليه؛ لتكف من تيهه وتذكره بقيمة الزلفى لديها، وتذكي الغيرة بينه وبين منافسيه، وتجعل رجحانه عليهم أبدا في يديها، فتملكه على الدوام بهذا الزمام، وكانت في نفسها موجدة على صاحبه باكون لكلمات قالها بمجلس النواب جاوز بها حدود الصراحة التي ترضاها في مناقشة حقوق الملكة، وحقوق المجالس النيابية، وهي ولا ريب كانت تدخر وظائف الأبناء لمرضاة الآباء والأسر الكبيرة، التي ينتمون إليها، فإذا كانت أسرة باكون ترضى بتأخيره ولا ترضى بتقديمه، فهي إذن في حل من تحويل الوظيفة عنه إلى الرجل الذي ترشحه أسرته وترشحه أسرة باكون على السواء، فتغنم بذلك موظفا كفؤا ورضى أسرتين، ولا تخسر إلا رضى باكون وهو مأمون العداوة مرجو الخدمة في كل حين.
وكذلك انقضى العام في المنافسة على الترشيح بغير جدوى، ثم انتهت هذه المنافسة الطويلة بتعيين «إدوارد كوك» للوظيفة المطلوبة بتزكية رئيس الوزراء ورهطه، وجماعة من ذوي النفوذ، وخرج باكون من هذه المنافسة الطويلة بشيء واحد لا يحسد عليه، وهو عداوة كوك وسوء نيته من نحوه مدى الحياة، وقد جرت عليه هذه العداوة مصائب كثيرة، منها النكبة الأخيرة التي قضت عليه.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم فاتته وظيفة الوكيل كما فاتته وظيفة الرئيس، وكان كوك أشد معارضيه في هذه المرة كراهة له، وتوجسا من وكيل كان ينافسه على الرئاسة، ولا يرجى منه الإخلاص في المعاونة، وساعده اللورد إسكس هنا ما استطاع كما ساعده ما استطاع في المنافسة الأولى، فلما أخفق هنا كما أخفق هناك خجل أن يعده مرتين ولا ينجز له وعده، وأنف أن يعجز عن تعيينه وعن تعويضه ... فوهب له ضيعة حسنة تسوم بألف وثمانمائة جنيه، وتغل للمنتفع بها ريعا لا يستخف به في ذلك الزمان.
وانقضى عهد الملكة اليصابات التي كانت تدعوه بحامل أختامها الصغير، وليس له نصيب في عهدها من الوظائف العامة، التي كان يحلم بها، ويتمناها كما كان يحلم بها ويتمناها كل فتى من نظرائه في عصره، اللهم إلا تلك الوظيفة الاستشارية المهملة في عالم المحاماة بغير مرتب مقدور، ولا عمل معروف. وليتهم مع هذا قد حرموه هذه الوظيفة كما حرموه غيرها، إذن لسلم تاريخه من أقبح وصمة خلقية حسبت عليه.
ذلك أن اللورد إسكس نصيره ووليه قد ساءت مكانته عند الملكة في هذه الفترة، وتمكن أعداؤه ومنافسوه في البلاط من الكيد له، وتكدير الصفاء الذي بين الملكة وبينه، فندبته لولاية أيرلندة في أحرج الأزمات التي مرت بتاريخ تلك البلاد، ولم تكن سياسة الأمم الثائرة من ملكات اللورد المغامر الجسور، فعصفت الفتنة بكل حيلة من حيله، وتعمد منافسوه في البلاط أن يشلوا يديه ويعرقلوا سعيه، ويقطعوا الصلة ما بينه وبين الملكة كلما حاول أن ينهي إليها أمرا من الأمور.
وعاد اللورد محنقا خائبا إلى العاصمة تسبقه سمعة الفشل والغشم، وسوء التدبير وقلة الولاء، فخيل إليه أنه لا يزال بمكانته التي عهدها في قلب الملكة ونظرها، وأبى إلا أن يقسرها على إقصاء منافسيه عن البلاط، وعقابهم على الدس والتقصير في خدمة الدولة وتشجيع الفتنة، فلم تصغ الملكة إليه ولم تصفح عنه، ولا غضبت على منافسيه، فجن جنونه من الغضب، وعول على الثورة المسلحة لإكراه الملكة على ما يريده، ثم ثار وانهزم بعد مقاومة ليست بذات بال.
كانت ثورته بينة وكانت العقوبة عليها مقررة معروفة، ولكن الملأ الإنجليزي في ذلك العصر - على كثرة ما شهد من القضايا السياسية - لم يشهد قط من بينها قضية، كانت أعقد ولا أغرب ولا أشد اختلافا بين بواطنها وظواهرها من هذه القضية.
فلم يكن أحد في البلاد الإنجليزية يريد للورد المحبوب أن يلقى جزاءه، الذي استحقه بحكم القانون والشريعة الموروثة، بعد استثناء أعدائه ومنافسيه.
كانت الملكة صاحبة القسم الأوفى والحق الأكبر في القصاص؛ لأنها هي صاحبة السلطان الذي اجترأ اللورد إسكس عليه، ولكنها مع هذا لم تكن تكره أن ينجو اللورد من عقابه بحجة من الحجج، التي تحفظ الصور والأشكال، فقصارى ما كانت تتقيه أن تظهر بالوهن والخطل في صفحها عن اللورد الثائر، وأن يجترئ أحد مثل اجترائه، ثم يفلت من الجزاء بغير علة راجحة من علل القانون أو السياسة، فأما إذا حوكم وجاءه العفو أو التخفيف من قضائه ومحاميه، ولم تكن هي المتهمة فيه بالوهن والخطل، فقد رضيت ورضي القانون والسياسة، وأراحت نفسها من ذلك الندم الذي كانت تخشاه وترهبه، وقيل: إنه غام على عقلها الحصيف بعد موت اللورد المحكوم عليه، فجعلها تفترش الأرض ليالي متواليات من برح الألم ولجاجة اليأس والتكفير.
وكان جمهور الشعب يأبى أن يدان اللورد الجميل المقدام، وإن كانت عقوبته مما لا تختلف فيه العلية والجماهير، ولكن أبطال الجماهير قلما يخسرون سمعتهم بينها بعمل من أعمال الإقدام.
وكان الجيش يحبه ويعجب به، ولا يسيء الظن بثورته وبذوات طبعه، ويعزوها إلى الحدة والمجازفة ولا يعزوها إلى الكنود والخيانة، ويتمنى لو نظر إليها قضاته بهذه العين، فسرحوه بريئا أو التمسوا له تخفيف الجزاء.
وكان النائب العام إدوارد كوك - منافس باكون - يلمح هذه الطوايا الملكية والشعبية، فيقتصد كثيرا أو قليلا في تقرير التهمة، وتعزيز الأدلة وتضييق الخناق على الثائر المحبوب، ولا يزال يطاول في المحاكمة ويرخي الحبل ويفسح طريق النجاة، لعله ينتهي في خاتمة المطاف إلى مخرج يرضي الملكة، ويرضي الشعب والحق ولا يغضب القانون.
অজানা পৃষ্ঠা
وهنا اتجهت الأفكار إلى باكون صديق «إسكس» الحميم!
فهل اتجهت الأفكار إليه لإنقاذ صديقه الحميم والدفاع عنه، وتفريج فسحة النجاة بين يديه؟
لا، بل لتأييد التهمة وشد الوثاق الذي أرخاه كوك، أو حسبوا من قبل أنه سيرخيه!
فعمد خصوم اللورد إسكس، إلى الرجل الوحيد الذي ينبغي له أن يتنحى عن هذا العمل كائنا ما كان سر الدعوة إليه، فندبوه له وظفروا منه بقبوله بغير عناء.
ندبوا فرنسيس باكون لاتهام صديقه إسكس بالخيانة العظمى التي عقوبتها الموت، فأجاب!
ولم يحدث قط أن رجلا من هيئة المحاماة الاستشارية ندب لمثل هذه المهمة في قضية من قضايا السياسة العليا، ولم يندب باكون بعد ذلك في قضية أخرى على كثرة القضايا السياسية، التي أعقبت هذه القضية المشئومة.
فلماذا ندبوه؟ ولماذا أجاب؟
ندبوه لأنهم علموا أن اللورد المتهم محبوب بين سواد الأمة، فإذا جاءت تهمته من بعض أصحابه المقربين، فذلك قمين أن يفت في أعضاد المتشيعين، ويريهم أن إدانة الرجل أمر متفق عليه بين الأنصار والخصوم، وفيه ما فيه من غصة للعدو اللدود الذي يتعقبونه بالكيد والإيلام إلى الرمق الأخير، فليس أغص للمخذول من أن يخذله أعوانه ومريدوه.
أما هو فقد أجاب الدعوة - على ما يظهر - لأنها الفرصة السانحة لتحقيق الطمع الذي عز عليه منذ سنين؛ ولأنه قد برم بالناس والعهود وغشيته غاشية من التجني على بني آدم، فخيل إليه أنهم في معونتهم ومناوأتهم سواء لا يخدمون إلا مآربهم ولباناتهم، ولا يرضون إلا غرورهم وكبرياءهم، وأن إسكس نفسه قد خدمه وأعانه غلبة لخصومه؛ واعتزازا بمكانه ولم يخدمه للبر به والحدب عليه.
ولا نستبعد أن يدخل في حساب باكون وهو يقبل الدعوة إلى اتهام إسكس أن الحكم عليه - بالغا ما بلغ من الصرامة - متبوع بالعفو أو بالتخفيف لا محالة، لما يعلمه من عطف الملكة على اللورد المتهم؛ ورغبة الأمة في الصفح عنه.
অজানা পৃষ্ঠা
وليس مما ينسى لباكون في هذا المقام أنه قد حاول جهده أن يصلح بين الملكة واللورد إسكس، بعد أوبته بالخيبة من البلاد الأيرلندية، وأن قد حاول جهده أن يثني اللورد عن عزيمة الثورة، حين هجست في نفسه هواجسها، وكاشف بها بعض المقربين إليه، فهذا وذاك مما يحسب لباكون من شفاعة المعذرة في تلك المعابة الموصومة التي تورط فيها لغير ضرورة حازبة، ولكنها معذرة لا ترحض عنه الوصمة ولا تبرئه من المذمة، وإن غناءها عنه لقليل كلما ذكر إلى جانبها ذلك اللدد الذي ظهر منه في محاسبة وليه ونصيره، وتلك الجهود التي بذلها في حصر التهمة، وإغلاق منافذ الرحمة، ومنها الكذب المتعمد فيما يعلم هو قبل غيره أنه كذب صراح.
ففي رسائل باكون التي كان يكتبها إلى اللورد إسكس كلام كثير عن مكائد الحساد، وفخاخ الأعداء الواقفين له بالمرصاد، وقد كانت هذه المكائد عذرا يلتمسه المدافعون عن اللورد إسكس؛ لتهوين جريمة الثورة، وتمثيل التهمة في صورة العداء بين الأنداد والقرناء، فطفق باكون في اتهامه يسخر من دعوى الكيد والاستثارة، ويحسبها من المزاعم التي لا تقوم عليها بينة صادقة ... حتى ضاق اللورد المتهم بهذه المكابرة التي لا موجب لها، وقاطعه قائلا: إن مستر باكون في رسائله يدحض ما يقوله مستر باكون في اتهامه!
ثم زاد باكون على اللدد في الاتهام لددا في تشويه السمعة بعد الممات، فأساء إلى اللورد المحكوم عليه في ذكراه كما أساء إليه في حياته، وأتبع موته ببيان مستفيض عن غلطاته ومثالبه، وما استحق به الجفوة من مليكته ثم القضاء عليه بالموت، وكان هذا البيان مطلوبا لتهدئة الشعب الذي تلقى نفاذ الحكم في بطله المحبوب بالوجوم والإعراض عن البلاط وحاشيته أيما إعراض.
وقد عجب نقاد هذه القضية من نشاط باكون وبراعته القانونية، ومن هفوات كوك وغفلته عن المآخذ الظاهرة في تسيير الدعوى وتوجيه التهمة، ومن أسباب عجبهم أن باكون على فضله في العلم والأدب لم يكن ندا لكوك في أفانين المحاكم ومسائل القضاء! وإنما جاء العجب من المقابلة بين متسابقين يجري أحدهما ملء خطوه، ويظلع الآخر باختياره، ويحسب السبق بينهما على باكون، ولا يحسب على مسابقه القدير المتواني بمشيئته في هذا المضمار.
وشاءت المقادير أن ينقضي حكم اليصابات كما أسلفنا، وليس لباكون نصيب فيه من الوظائف أو الألقاب، ألعله حقد منها عليه لجده في اتهام الثائر المحبوب؟ يجوز. وإن لم يجز فالذي لا نشك فيه أن باكون قد عومل يومئذ معاملة البغيض المحقود عليه.
وكل ما أصابه من جزاء على جهوده المضنية في هذه القضية حصة من الأموال، التي جمعت من مصادرة أملاك الثائرين ووزعت على المشتركين في اتهامهم، وإنفاذ الأحكام فيهم، وبلغت هذه الحصة ألفا ومائتي جنيه هي دون ما أخذه طواعية من اللورد القتيل، ولو بلغت أضعاف ذلك لما حسبت من الرزق المريء، ولا من الرزق الكريم.
لا بل أصابه من جزاء على تلك الجهود ظل كثيف من المعابة قد ران على سمعته، ولا يزال يرين عليها بعد ثلاثة قرون، وأغرى به من العداوات ما تجاوز السمعة إلى الضرر في المنصب والمال، فلم تخل نكبته الأخيرة من عقابيل هذا الخطأ الجسيم.
إن الناس لا يفهمون خيانة من الخيانات كما يفهمون الخيانة بين الأصدقاء، وربما دق عليهم فهم الخيانة الوطنية لالتباس الرأي فيها بالتفاصيل الفقهية التي لا يفقهونها، أو لانطوائها في غمرة الخصومات الحزبية والعصبيات المذهبية ... بل يدق عليهم أحيانا فهم الخيانة في العرض لما يحيط بها من الاستهواء القصصي، والعلاقات الشعرية أو المسرحية، التي تمتزج بأحاديث الغرام. أما خيانة الأصدقاء فهي من الخيانات المفهومة في كل بيئة وعلى كل حالة، وعند الإنجليز خاصة يكبرون كلمة الولاء حتى يقرنوها في ألفاظهم بالإيمان، ويقرنوا الكفر بمعنى من معاني «عدم الولاء» ... فإن عجبت في أمر باكون، فاعجب لسقطات الذكاء كيف تزل بصاحبها هذه الزلة تحت بروق المطامع، التي هي شر من الظلام الدامس على السالكين فيه. •••
وأقبل عهد جيمس الأول بشيء من الرجاء في استدراك ما فات على عهد الملكة اليصابات، وقد أوشك في بدايته أن يعصف بهذا الرجاء القليل، فيتصل العهدان بسلسلة من الحرمان والتسويف؛ لأن الملك جيمس كان يعطف على أسرة اللورد إسكس، ويرغب في إقالة عثرتها واستحياء نفوذها، ولم يكد يستوي على عرشه حتى أحس الناس منه هذه الرغبة، فانطلقت الألسنة من عقالها تثني على اللورد القتيل، وتقدح في أعدائه وأصدقائه المنقلبين عليه، ولكن الملك جيمس كان يسلك نفسه في زمرة العلماء والأدباء، ويحب أن يعطف عليهم عطف الزملاء على الزملاء، وكان باكون قد أثبت إلى جانب ذلك أنه رجل يعول عليه في ساحة القضاء وقاعة مجلس النواب، ويستفاد منه ما يساوي ثمن اللقب أو الوظيفة إذا التمس البلاط هذه الفائدة في يوم من الأيام، ولم يكد يبقى في زمرة المحامين أحد من طبقة باكون، لم ينعم عليه في مستهل العهد الجديد بلقب من ألقاب التشريف، ولم يقصر باكون في الطلب، ولا ترك لأحد من ذوي النفوذ مندوحة للرفض والاعتذار، فكتب إلى كل ذي طالع مرجو في العهد الجديد يعرض عليه خدمته وولاءه وصدق بلائه ، وكتب إلى قريبه روبرت سسل فيمن كتب إليهم يسأله الوساطة في تشريفه بلقب من الألقاب أسوة بأقرانه وأصحابه، وتمهيدا للزواج بفتاة ذات مال يصلح به شأنه، ولعلها في يسارها ومنزلتها لا ترضاه بغير لقب وبغير مال!
وقد أنعم عليه في سنة 1603 بلقب فارس، فأصبح يدعى السير فرنسيس باكون، وتوالى الإنعام عليه بالألقاب حتى ارتقى إلى رتبة الفيكونت
অজানা পৃষ্ঠা
Viscount of st. Albans
في سنة 1621.
وترقى في الوظائف كما ترقى في الألقاب، فتم تعيينه لوكالة النائب العام في سنة 1607، ولمنصب النائب العام في سنة 1612، وارتفع في خلال ست سنوات إلى منصب قاضي القضاة، وهو أكبر المناصب القضائية في الدولة الإنجليزية.
وقد جوزي بهذه الألقاب وبهذه الترقيات على خدمته للبلاط، وتأييده لامتيازاته في مناقشات مجلس النواب، وعلى التوفيق بين المجلس والبلاط في أزمات النزاع حول حقوق العرش وحقوق الأمة، وإن كان توفيقا من توفيقات المصالحة التي تقف عند الصيغ، ولا تتعداها إلى الجوهر واللباب.
لكنه في مناصب القضاء قد أباح لنفسه من التزلف للبلاط ما لم يكن يستبيحه وهو نائب عن الأمة، ولعله توسع في الزلفى وهو في مناصب القضاء؛ لأنه منفرد فيها عن الأصوات والآراء، وأحجم في زلفاه وهو نائب؛ لأنه مقيد بأصوات المئات من النواب بين معارضين أو مؤيدين.
ففي قضية «أوليفر سان جون» الذي أنكر على الملك حق فرض الخيرات والصدقات، وحكم عليه بالسجن من أجل هذا الإنكار كان باكون يتولى الاتهام والمطالبة بالعقاب!
وفي قضية القس بيشام الذي حوكم لأنه كتب موعظة مناقضة لامتيازات الملك، ولم يلقها ولا اهتم بنشرها - كان باكون يساوم القضاة؛ ليوعز إليهم بإدانة ذلك الشيخ المسكين على خلاف ما اعتقدوه.
هذه خطة يمضي عليها الرئيس المشهور زمنا طويلا، وهو آمن على منصبه من عقباها لو كان منيع الحوزة، أو كان في حصن حصين من الشبهات والأقاويل ... لكن باكون لم يكن كذلك في أعمال القضاء! كانت حوله شبهات جمة، وكان حوله خصوم متربصون، وكان إسرافه الذي يتجاوز مورده المحدود أول وأقوى هذه الشبهات.
كان مورده المحدود دون الثلاثة الآلاف من الجنيهات، وكانت نفقاته تربى على خمسة أضعاف هذا المقدار؛ لأنه كان يقبل الهدايا والرشى على سنة القضاة في ذلك الزمان، وكان يغضي عن أتباعه ومرءوسيه؛ لأنهم يتوسطون في حمل الرشوة إليه.
واتفق غير مرة أنه أخذ الرشوة من طرفي الخصومة، فأغضب الخصم الذي لم يحكم له وإن لم يكن له حق في دعواه، فتألب عليه فريق من هؤلاء المدعين الموتورين، واستمدوا الجرأة في الاتهام من تحريض أعدائه وممالأتهم في جمع الأدلة، وتشجيع الشهود وإذكاء العيون والأرصاد.
অজানা পৃষ্ঠা
وأبى البلاط أن يحميه؛ لأن التهم والشبهات استفاضت في البلاد، فتهيب حماته أن يستروه ويتعرضوا لسير التحقيق والمحاكمة؛ مخافة الاتهام بالتواطؤ والمشاركة أو الاعتراف بالافتيات على حقوق الأمة، وبذل الحماية لمن يسخرونهم في تلك السياسة.
فجرى التحقيق مجراه، وأسفرت المحاكمة عن ثلاث وعشرين تهمة اعترف بها باكون، غير التهم التي كان يعوزها الدليل القاطع والشهود المقبولون.
فلم يسع قضاته النبلاء إلا أن يحكموا عليه بأقسى ما في وسعهم من الأحكام، وضاعف في قسوة حكمهم أنهم كانوا على يقين من الإعفاء والمسامحة من جانب البلاط، فقضوا بتغريمه أربعين ألف جنيه وسجنه في البرج بإذن الملك، حتى يأمر بالإفراج عنه، وحرمانه الجلوس في دار النيابة وولاية الوظائف العامة في الدولة الإنجليزية، فأعفاه الملك من هذه الأحكام جميعا إلا العزل وتحريم النيابة والولاية، وظل هذا الحكم نافذا حتى قضى نحبه في سنة 1626 بعد خمس سنوات.
قال باكون في الدفاع عن نفسه: «لقد كنت أعدل قاض في الديار الإنجليزية منذ خمسين سنة، ولكنها رقابة البرلمان التي كانت أعدل رقابة عرفت قط في مدى مائتي سنة.»
وليس هذا القول في الواقع بغريب، فإن قضاة باكون أثبتوا عليه الرشوة، ولم يثبتوا عليه قط أنه حكم في قضية واحدة بما يخالف العدل والحقيقة، ومن أظرف الفكاهات أن يعتذر المعتذرون للقاضي الفيلسوف بأنه كان يحكم بالعدل؛ لأنه كان يقبل الهدايا من الطرفين، وكان قبول الهدايا سنة شائعة بين جميع القضاة في أيامه! ولكنه اعتذار يستحق أن يقال لفكاهته وطرافته، إن لم يكن للحق الذي فيه! •••
ذلك موجز من سيرة باكون في نشأته المدنية، كما كان يسميها، أو نشأة المطامع والمناصب والألقاب، وتلحق بها نشأته البيتية بعد الزواج؛ لأنها لم تكن في الواقع إلا خطوة من خطوات هذا الطريق، ومظهرا عنده من مظاهر البذخ والوجاهة الاجتماعية.
وتشاء المصادفات أن تتم المطابقة بين النشأتين: نشأة البيت ونشأة المجتمع، كما تتم المطابقة بين النموذج الصغير والصورة الكبيرة.
فكما خطب المنصب النافع كذلك خطب الفتاة النافعة، التي يرجو من البناء بها تيسير حاله ولو بعض التيسير، وكما توسط له اللورد إسكس في المنصب كذلك توسط له خطبة تلك الفتاة، وكتب إلى أهلها يقول: إنه لم يكن يشير على نفسه بغير ما أشار عليهم من قبول باكون لفتاتهم، لو كانت الخطيبة أخته أو قريبته أو كان ذا ولاية عليها ... وكما أخفق إسكس في خطبة المنصب أخفق كذلك في خطبة الفتاة ... وكما سبقه منافسه إدوارد كوك إلى منصب النائب العام، كذلك سبقه إلى قلب هذه الخطيبة، أو إلى عقلها فتركت باكون وآثرته عليه.
وينتهي هنا الوفاق بين النموذج والصورة، ويبدأ الاختلاف بينهما، فإن إدوارد كوك قد أسدى لمنافسه أجل مأثرة، وأراحه من أفدح مصاب كما قال اللورد ماكولي في رسالته القيمة عن الفيلسوف؛ لأنه حمل عنه البلاء الذي شقي به طول حياته، وكانت الجائزة التي استبق إليها الندان المتنافسان ربة جحيم في مسلاخ ربة بيت، وهي تلك اللادي هاتون التي خاب معها باكون خيبته السعيدة.
ثم تم بناؤه (في سنة 1606) بأليس برنهام
অজানা পৃষ্ঠা
Alice Barnham
بنت بعض الوجهاء، وذات حظ من المال والجمال، ولكنه لم يسعد بها كما تمنى، وإن لم يشق بها شقاء منافسه بنصيبه! وتبين من وصيته ما كان مفهوما خلال حياته من قلق ضميره، وقلة اطمئنانه لهذا الزواج.
وكان يوم الزفاف معرضا لصفات باكون، التي لازمته طول حياته في سيرته الاجتماعية، وهي البذخ والإسراف وحب الأبهة والعلو على الأقران في هذا المضمار، فذهب إلى الكنيسة هو وزوجته غارقين في حلل الحرير، وحلي الذهب والفضة والجواهر النفيسة، وعاش على هذه البزة وهذه الشارة بقية أيامه إلى أن قضى نحبه في نحو الخامسة والستين.
ولا يبدو من وصيته أنه كان على عسر في معيشته، وإن ركبته الديون آونة بعد آونة، وعده بعضهم من الفقراء بالقياس إلى منزلته ولقبه، فقد عاش في سعة ونافس الأمراء في حله وترحاله، وكتب وصيته قبل أشهر من وفاته وهو يذكر جياده المطهمة ومركباته الفاخرة، ويتكفل بكرسيين للمحاضرة في الجامعات، وبمائتي جنيه في السنة للإنفاق على المباحث الطبيعية.
ونحن نكتفي بالموجز المفيد من نشأته المدنية؛ لأنها ولا ريب هي الصفحة التي يستريح القارئ إلى الإسراع بطيها في سجل هذه الحياة الحافلة.
ومتى طويت هذه الصفحة، فليس في السجل كله إلا ما هو جدير بالنشر والإعجاب والتذكار، إذ ليس في السجل كله بعد ذلك إلا الأمانة، التي لا تعدلها أمانة في خدمة العلم، ونصح بني الإنسان، وليس بين حكماء الأرض من يعرض لنا في هذا الباب صفحة هي أنصع وأخلد من صفحة هذا الحكيم، الذي جمع الحكمة كلها في قلمه، وضيعها كلها في تصرفه وعيشه.
فكانت غيرته الصادقة في ميدان البحث والعلم على قدر تفريطه الخادع في ميدان الجاه والمال، وكان حبه للحق وهو يفكر ويكتب على قدر هوان الحق عليه وهو يعالج العيش، ويزاول مرافقه ومرافق الناس.
فمنذ الصبا الباكر نشأ هذا الرجل العجيب - أو الرجل المزدوج، كما قال بعض ناقديه - نشأة عالم أمين خلق لتمحيص الحقيقة العلمية دون سواها، حتى لتعجب كيف اتسعت هذه الطبيعة لتلك النقائض، التي لا تحيك بها إلا خلقة منعزلة عن العلوم والتفكير في العلوم. •••
كان في العاشرة من عمره يفتح على الدنيا عيني عالم صغير، وانسل يوما من بين رفقته اللاعبين إلى قبو في حقول سان جيمس يسمع منه صداه العجيب ويتقصاه، ويسأل عنه معناه، وشغل منذ الثانية عشرة بحيل الحواة والمشعوذين؛ لما فيها من المشابهة للسحر والعلم والصناعة في وقت واحد، ونفرت سليقته وهو دون السادسة عشرة من تعليم الجامعات، الذي كانوا يعزونه يومئذ إلى آراء أرسطو وهو من أكثرها براء، وفصل القول ولما يبلغ الثامنة عشرة في مشكلات أوروبا السياسية ذلك التفصيل الذي يعيي عقول بعض الكهول ممن لم يرزقوا تلك الفطنة وذلك الإلهام، ولم يقنع وهو في الثلاثين بما دون تبديل الأسس العلمية والفلسفية جميعا كما كانوا يستقرون عليها في تلك العصور، فطفق يفكر ويعيد التفكير في قسطاس شامل لجميع المعارف البشرية، التي كانت معروفة يومئذ، والتي كان يرجى أن تعرف بالقياس على ذلك القسطاس، وسماه ذلك الاسم الفخم الذي يشير إلى آفاقه ومراميه، وهو «البناء الأعظم للفلسفة الصادقة» ... وظهر الجزء الأول منه (في سنة 1605) باسم ترقية المعرفة أو التعليم، ثم وسعه وتممه وأضاف إليه، وأصدر منه نسخة لاتينية في سنة 1623، وظهر الجزء الثاني من هذا السفر الضخم باسم القانون الجديد أو القياس الجديد
Novum Organum
অজানা পৃষ্ঠা
وهو مرجع فلسفته الأكبر بين مراجعه الأخرى، ومنها شذرات لم تستوعب موضوعها؛ لأنها أكبر من أن يضطلع بها جهد رجل واحد في ذلك الزمان، الذي يصعب فيه التعاون العلمي الميسور في عصرنا الحديث، فقضى عليه أن يفارق «البناء الأعظم» وهو ناقص الشرفات والطباق، ولكنه على هذا كامل الدعائم والأركان.
وقد مات في ميدان العلم وهو يحمل سلاحه، ولا يبالي الحيطة التي تفرضها عليه بنيته الهزيلة في مثل سنه، فخرج في الشتاء؛ ليجرب وقاية الثلج للأجسام الحيوانية من العفونة في جسم دجاجة مذبوحة لساعتها، فسرت إليه قشعريرة لم تمهله غير أيام، ومات ميتة العالم وإن لم يعش عيشته على الدوام.
هذه النشأة - نشأة العالم - هي التي يكتب من أجلها عن فرنسيس باكون، ويغتفر من أجلها عيب الرجل في نشأته الأخرى: نشأة المطامع والمناصب والألقاب.
وحق له أن يودع الدنيا «وهو يترك اسمه وذكراه للألسنة الخيرة، وللأمم الغريبة وللأجيال القادمة».
وللألسنة الخيرة ولا جدال مقال طيب في ذكراه جدير أن يقال.
أخلاقه
يندر جدا أن يشتهر رجل أو يرتقي سلم المناصب الرفيعة، ثم لا يكون للعصر أثر في أخلاقه إن لم تكن أخلاقه كلها مشابهة لأخلاق عصره؛ لأن الشهرة أو ارتقاء المناصب تجاوب بين الرجل وأهل زمانه، وقلما يتأتى هذا التجاوب بغير مماثلة أو مقابلة بين الشيئين المتجاوبين.
وأثر العصر في أخلاق باكون واضح كل الوضوح؛ لأنه لم ينفرد فيه بداهة بحب الظهور، ولا بالتهافت على المال والحطام، ولم يعرف عنه شيء من ذلك إلا وقد عرف مثله عن قرنائه ونظرائه، ومن هم فوقه ومن هم دونه.
وحسبنا أن الثورة التي نشبت بعد زمانه بأقل من قرن واحد إنما نشبت لأن الملوك كانوا يفرطون في طلب المال، ويرهقون الرعية بالضرائب والإتاوات ... فلم يكن إذن في ذلك العصر من يتعفف عن جمع المال والمجازفة بالعواقب في هذا السبيل، سيان في ذلك من رزقوه أو لم يرزقوه، وسيان في ذلك صاحب المكان الأول، وصاحب المكان الأخير.
وليس باكون بدعا في هذه الخليقة، وإن جنت عليه الشهرة فحفظت نقائصه، ولم تحفظ نقائص المئات ممن يماثلونه في الأقدار والأخطار.
অজানা পৃষ্ঠা
وربما كان للعصر أثر آخر في أخلاقه من جانب يخصه، ولا يعم نظراءه في المنصب والمكانة، فإنه قد كان ولا جدال أكبر أبناء أمته في ذلك العصر عقلا، وأثبتهم نظرا وأقدرهم على فهم مرامي القوام وأطوار الأقوام، فدعاه اليقين من صوابه في هذه الشئون إلى إسداء النصح طواعية لكل من يملك تصريفها، ويقبض على مقاليدها، فكتب نصائحه إلى الملكة اليصابات في سياسة الكنيسة والشعب والنواب، وكتب نصائحه إلى الملك جيمس في السياسة الأوروبية، والسياسة الداخلية، ومحض النصح للورد إسكس واللورد بكنجهام واللورد سالسبري في مسائلهم ومسائل الأمة، فكان من العجب أنهم أعرضوا عنه، وأصموا آذانهم عن نصحه، ولم يقبلوا منه إلا الملق والنفاق. ومن دأب هذه الصدمات في النفوس التي لا تقوى عليها أن تضعف عندها قيمة النصح والإخلاص، وتغريها بالغش ومجاراة الأهواء ... ففي هذه على الأقل جدوى لمن يغش ويجاري أهواء الأعلياء، وأما النصح الخالص فقد يلوح لهم أنه لا جدوى فيه للناصح ولا للمنصوح، حيثما تعرض الأسماع وتجمع الأهواء.
ففي هذه الخلائق وما شاكلها كان عذر باكون ذنب عصره، أو كان عذره أن ذنوبه هي ذنوب مئات وألوف ، ولم يكن تجنبها من اليسير عليه، وماذا تقول في عصر كان اسم مكيافلي فيه أشهر الأسماء بين حكماء السياسة، ومعلمي الأمراء والوزراء؟
لكن الأخلاق لا ترجع كلها إلى العصور، حتى ما كان منها سمة من سمات تلك العصور؛ لأن الإنسان يأخذ منها أو يدع على حسب طبعه الموروث أو الأصيل فيه، وقد ينبذها كلها ويثور عليها لفرط المناقضة بينه وبينها، كلما بلغت هذه المناقضة حدا يتعذر فيه التوفيق.
وباكون كان فيه جرثومة الخلق الذي أنماه العصر وأرسخ جذوره، وكان فيه مع هذا ضعف مقاومة، وقلة جلد وإشفاق من مأزق العراك والمجازفة، وكل أولئك مما يعجل به إلى الاستسلام، ويزين له سلوك السهول دون الوعور.
ونحسبه قد ورث هذه الطبيعة من أبيه؛ لأن أباه كان يتخذ له شعارا لاتينيا يكتبه على باب بيته، فحواه أن الاعتدال أبقى، وكان يشفق في سياسته من المخاطر ولو كان من ورائها كبار المغانم، فلبث في منصبه نيفا وعشرين سنة لاجتنابه المقاحم التي تزلزل الأقدام في ذلك العصر القلب، وذلك البلاط المحشو بالدسائس والمنافسات.
ويبدو لنا أن النوازع الحيوية كلها في طبيعة باكون لم تبلغ من القوة والامتلاء مبلغا يدفعه إلى المقاومة والمجازفة في أي مطلب، وقد نرد إلى ذلك ولعه بالأبهة والمواكب والأزياء، وكل ما يلفت الأنظار، فالغالب في هذا الولع أنه يشغل في النفس مكان اللذات الحيوية والشهوات العارمة، على سبيل التعويض في الشعور، فإذا فاته سرور الشعور بنفسه أحب أن يعوضه بسرور من قبيله، وهو شعور الناس به واعتقادهم فيه الغبطة والاستمتاع.
ويعزز عندنا هذا الظن أنه لم تذكر له علاقة بالنساء على شيوع العلاقات الغرامية في زمانه، ولم تكن له سعادة بالزواج ولا بالذرية، ولم يشتهر عنه قط شغف بطعام أو شراب، فطلب المال عنده ضرورة لطلب المظاهر الخلابة، وطلب المظاهر الخلابة عنده ضرورة لتعويض الشعور باللذات والشهوات، وكل أولئك له حافز من عادات الزمن ومغرياته لا تسهل مقاومته على المستعد للمقاومة، فضلا عمن يشفق منها ويتعمد اجتنابها.
فالجهد ثقيل على طبع باكون سواء في الخيرات أو في الشرور، وحب الإعفاء والمعافاة صارف له عن تكليف نفسه ما لا يطيق؛ ولهذا كان ينصح بالخير ثم ينصح بغيره إذا لم يقبلوه منه، وكان يؤثر السلم والمسالمة ولا يقابل النقمة بمثلها، ولم يكن في طبعه الضغن على مسيء وإن بالغ في الإساءة إليه، فلم يحقد على الملكة اليصابات بعد موتها مع حرمانها إياه وإصرارها على إنكار حقه وتقريب منافسيه، وكتب عنها أجمل ما يكتبه عنها مستفيد من حظوتها ورعايتها، وليس له نفع مرجو من هذه الكتابة في عهد خلفها، الذي كان لا يحبها ولا يستريح إلى الثناء عليها، وقد ندب للوصاية على تركته الأدبية رجلا كان يرميه بالاحتيال ومخادعة الدائنين، وهو الأسقف وليامز عدوه في محنته وصديقه قبيل موته بأعوام قليلة، فليس من خلقه الإضرار المقصود ولو بأعدائه وثالبيه.
ويصعب أن يقال إنه كانت له شرور كبيرة من شرور الطبائع الجارمة والخلائق الضارية، وإنما كانت آفته كلها الطبع المغلوب لا الطبع الغلاب، أو كان يصدر في سيئاته كلها عن إشفاق وتوجس لا عن اقتحام وصولة، ولم تحص عليه سيئة واحدة تخرج عن هذا الطراز من السيئات.
فأشهر أخطائه المسجلة عليه هي حادثة إسكس، ومسألة الرشوة واتضاعه الشائن لاسترضاء بكنجهام.
অজানা পৃষ্ঠা