আরবি সংস্কৃতির আধুনিকীকরণে
في تحديث الثقافة العربية
জনগুলি
ولا ينبغي لنا أن نترك هذه النقطة إلى سواها، دون أن نعود إلى «النور» في آية النور؛ لنقول إن الله جل وعلا هو «نور السموات والأرض» بمعنى أن علمه شامل لكل ما في جنبات الكون من قدرات عالمة، وإن إدراكه محيط بكل ما في العالم الأكبر من قدرات مدركة؛ وذلك أننا نخطئ مرة أخرى إذا نحن قصرنا القدرة الإدراكية على الكائنات الحية وحدها فوق هذا الكوكب الأرضي، ونخطئ خطأ أفحش إذا نحن قصرنا قدرة الإدراك الواعي على الإنسان وحده، وإلا فانظر إلى ما شئت أن تنظر إليه من أجزاء الوجود وظواهره، ومن أصغر ذرة فصاعدا إلى الشموس والسدم، فماذا ترى؟ ألست ترى أن كل شيء منها يجري على نسق مقنن ومطرد إلى الدرجة التي تمكن الإنسان - إذا واتاه التوفيق - من استخراج القانون أو القوانين التي ينضبط بها أي شيء معين في حركته؟ وكل تنظيم من هذا القبيل، في أي شيء أو مجموعة أشياء، إنما يشير إلى «عقل» فيها ووراءها: وإذا كان هذا هكذا في كل موجود في الوجود، صغر أو كبر، ثم في كل مجموعة من الموجودات، كالمجموعة الشمسية مثلا، ثم في مجموع شامل يضم تلك المجموعات في نسق واحد كبير، أفلا نقول إنه «وعي» إدراكي شامل للكون من جهة، مبثوث في كل وحدة من الوحدات من جهة أخرى؟
الله نور السماوات والأرض (صدق الله العظيم)، ولو كان المقصود «بالنور» هنا، هو ذلك الضوء الذي يأتينا من الشمس والقمر والمصابيح وألسنة النار؛ لما احتاج الأمر إلى شرح المعنى بأمثلة من المشكاة والنبراس والزجاجة والكوكب الدري والزيتونة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
إنه - إذن - هو الإدراك الواعي يملأ الكون، في كل جزء من جزئياته، ويبلغ ذروته في الإنسان بالقياس إلى سائر الكائنات المخلوقة؛ وفي هذا التمييز نجد جانبا من معنى تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان، فإذا كان ذلك الإدراك الواعي في الإنسان هو «النور»؛ عرفنا الأساس الذي تقام عليه حركة «التنوير» إذا أردناها، ولقد كان هو الأساس الذي قامت عليه بالفعل حركات التنوير التي شهدها التاريخ، والتاريخ الحديث بصفة خاصة؛ فالمحور الذي يدور حوله «التنوير» أينما حدث أو يحدث، هو أن تنكشف للإنسان حقيقة نفسه أولا، وعن هذا الطريق تنكشف أمامه حقائق العالم من حوله. ونسوق إليك بعض الأمثلة للتوضيح؛ وأول مثل يفرض نفسه علينا، هو سقراط في اليونان القديمة؛ إذ هو الذي صاغ المبدأ القائل ما معناه على وجه التقريب: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» وكان ما دعاه إلى هذه الصيحة هو أن من سبقوه من فلاسفة اليونان اتجهوا بأنظارهم نحو العالم الخارجي ليردوا ظواهره المتباينة إلى «مبدأ» واحد مشترك؛ فأراد سقراط أن يعكس مسيرة الفكر، فبدل أن تبدأ من خارج الإنسان لتنتهي إلى دخيلة نفسه، أراد لها أن تبدأ من دخيلة النفس متجهة إلى الخارج حيث العالم وظواهره: لماذا؟ لأن أهم ما كان يهتم به - هو وسائر الفلاسفة اليونان تقريبا - هو موضوع «الأخلاق»، فكان الهدف من كل تفكير في رأيه، هو أن يصل إلى أساس «عقلي» لنميز به بين ما هو صواب وما هو خطأ في السلوك البشري؛ فإذا أردنا - مثلا - أن نعرف متى يكون الفعل المعين «عدلا»؛ وجب أولا أن أبحث عن «تعريف» العدل ما هو؟ وهذا التعريف إنما يوصل إليه بالعقل المحض، وهكذا قل في شتى أوضاع الحياة؛ فنقطة البدء الصحيحة «تعريفات» عقلية محددة وواضحة، تقام عليها الحياة الإنسانية في شتى جوانبها. ولاحظ أن الوصول إلى «التعريف» العقلي لأي معنى من المعاني، قد يقتضينا أن نتناول بالتحليل أقوال الناس عن معنى معين، ماذا يفهمون منه؟ ومثل هذا التحليل سينتهي بنا حتما إلى الكشف عن مواضع التناقض والغموض في تلك الأقوال، ومن خلال ذلك نصل إلى التحديد الصحيح الواضح للمعنى المعين الذي نريد تحديده وتوضيحه، ومن هذه النقطة نبدأ بناء حياتنا الفردية والاجتماعية على حد سواء، وإذا تحقق لنا ذلك؛ سرنا في حياتنا على «نور» وكان السعي نحو أن يسلك الناس على نحو ما أردنا لهم أن يسلكوا «تنويرا».
والمثل الثاني الذي أسوقه توضيحا «للتنوير» هو ما صنعه أبو حامد الغزالي بنفسه، ليحاول بعد ذلك أن يحمل الآخرين على صنعه. وفي إيجاز شديد (وإذا أردت تفصيلا فاقرأ للغزالي كتابه الفذ «المنقذ من الضلال») أقول: إن الغزالي، بينما هو يقوم بالتعليم في بغداد، أحس بقلق شديد يأخذه، وذلك حين طرح على نفسه سؤالا، ولم يجد نفسه قادرا على جوابه؛ وكان السؤال هو: إنني في دروسي هذه، أسوق البراهين على وجود الله، من آيات القرآن الكريم، فكأنما أقدم براهيني إلى مؤمنين مقدما بتلك البراهين، لكن كيف بي إذا تقدمت ببراهيني هذه إلى من ليس مؤمنا برسالة الإسلام وكتابه؟ إن البرهان الصحيح يجب أن يقام على أساس من فطرة الإنسان ذاته، مؤمنا بالإسلام أو غير مؤمن؛ ومن هنا أخذته الحيرة، والقلق؛ فخرج من بغداد مرتحلا إلى غير هدف، متنقلا من مكان إلى مكان ، وعقله في خلال ذلك لا يهدأ ولا يفتر بحثا عن الأساس المنشود، فلما أن وجده عاد إلى بغداد مطمئن النفس ليستأنف التدريس؛ وكان الأساس الذي وجده هو أن يلجأ الإنسان إلى دخيلة نفسه، ليرى ما الذي يحدث فيها عندما يهم «بخلق» فعل من أفعاله؛ وعندئذ تكون رؤيته لحقيقة ما يحدث مقامة على إدراك مباشر لا برهان عليه؛ لأنه في غير حاجة إلى برهان، وهكذا أيضا تكون وسيلتنا إلى إدراك وجود الله سبحانه، برؤية صوفية مباشرة وليس بالعقل ومنطقه في إقامة الدليل على ما هو بحاجة إلى دليل، وبهذا أصبح الغزالي في «نور» اليقين، وانفتح أمامه طريق «التنوير» للآخرين.
والمثل الثالث الذي أقدمه توضيحا للنور والتنوير في حياة الناس الفكرية هو «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي المعروف، وأحسب أن أمره معلوم للكثرة الغالبة من القراء؛ إذ هو صاحب المبدأ الشهير: «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود.» فلئن كان الغزالي من قبله قد حيرته الحقيقة «الإيمانية» عن وجود الله تعالى، فإن الذي أدخل الحيرة في نفس ديكارت هو الحقيقة «العلمية»، لكن اختلاف موضوع الحيرة عند الرجلين لم يمنع أن تجيء الوسيلة إلى إزالة الحيرة عندهما متشابهة أشد التشابه؛ حتى لنحسب ديكارت في خطواته المنهجية قد أخذ عن الغزالي خطواته من حيث الأساس، فكلا الرجلين قد داخلته حالة من الشك فيما كان يظن أنه الطريق الصحيح، وكلا الرجلين لم يقصد بذلك الشك المنهجي المتعمد أن يهدم ما يعلم أنه الحق، بل قصد إلى مراجعة الأسس التي بنيت عليها أحقية ذلك الحق، وكل الفرق بينهما - إذن - هو أن صحة وجود الله كانت هدف الغزالي، بينما كانت صحة الحقائق العلمية، كائنا ما كان موضوعها، هدف ديكارت. وكما نعلم جميعا، لجأ ديكارت إلى تفريغ جعبته من كل ما كان يعرفه من قبل؛ لأنها معرفة تلقى أكثرها عندما لم يكن في سن تسمح له بنقد تحليلي لما يتلقاه، وها هو ذا قد أزاح البناء كله؛ ليقيمه من جديد على أساس موثوق بصحته، شريطة أن تكون نقطة البدء صحيحة صحة يقينية مطلقة؛ لنضمن أن ما يستدل منها بعد ذلك استدلالا منطقيا صحيح كذلك؛ وما هو إلا أن أشرقت عليه تلك الحقيقة الأولية البسيطة التي يستحيل استحالة قاطعة أن يأتيها الباطل من أي قطر من أقطارها؛ ألا وهي أنه يحس في دخيلة نفسه إحساسا مباشرا أنه في تلك الحيرة من الشك، وماذا تكون تلك الحالة الشاكة إلا ضربا من «التفكير»؟ ثم هل يمكن منطقيا أن يكون تفكير بغير «أنا» التي تفكر؟ فها هي ذي - إذن - نقطة البدء في طريق اليقين: «أنا أفكر - إذن - أنا موجود.» ومن هذه البداية أخذ يخرج النتائج واحدة في إثر واحدة، حتى تكاملت له القضايا التي تبرهن على وجود العالم، ثم على وجود الله، وهكذا أصبح ديكارت من مشكلته على «نور»، وكان نشره لما ارتآه ضربا من ضروب «التنوير».
ونكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة، التي عرضناها لنوضح بها ما أردناه بقولنا إن جوهر التنوير كامن في أن يكشف الإنسان عن حقيقة نفسه. ولكي لا نقف في هذه النقطة المهمة من موضوع حديثنا، عند عبارات مجردة قد لا يصل مغزاها إلى أفهام الناس؛ يجمل بنا أن نترجمها إلى وقائع يسهل إدراكها؛ فما الذي نريده على وجه الدقة من قولنا إن تنوير الإنسان المصري، أو الإنسان العربي الذي يشمل المصري وغير المصري من أبناء الأمة العربية، أقول: ما الذي نعنيه بقولنا إن تنوير العربي في مرحلته الراهنة معناه أن تنكشف له حقيقة نفسه؟ إننا إذا أردنا فهم عبارة كهذه، يتحتم علينا أن نضع هذا العربي في معمعان مشكلاته الحاضرة؛ لنرى كيف تجيء ردود أفعاله على المثيرات التي تعترضه وتتحداه؛ إذ «النفس» التي نسعى إلى الكشف عن حقيقتها لا ترى إلا وهي مجسدة في صور السلوك الفعلي، الذي يستجيب به العربي لما يحيط به من وقائع وأحداث؛ فهل نجده - مثلا - يدقق في حساب العوامل وتحليلها قبل أن يهم بردود فعله ليضمن أن تجيء نتائج فعله مأمونة العواقب؟ هل نجده على تطابق بين باطنه الذي يضمره من ناحية وظاهر سلوكه من ناحية أخرى ؟ هل نراه حريصا على إثبات وجوده بما ينبغي أن يثبت به وجود أي إنسان؟ ألا وهو أن يلقي بزمام حياته آخر الأمر إلى إحكام عقله، ما دام كان الموضوع المطروح مما يتعلق بالحياة العامة المشتركة بين الناس جميعا، وليس أمره مقصورا على حياته الخاصة وما يكتنفها من عواطف وميول ومن غرائز وشهوات، إلى آخر هذه الصفات، التي من مجموعها تتعين شخصية الإنسان.
إننا بمثل هذا الوصف التحليلي لشخصية العربي في حياته اليوم، وهو وصف يمكن الحصول عليه بدقة علمية، إذا استخلصناه من البحوث العلمية التي يضطلع بها فعلا أبناؤنا من الباحثين في الجامعات ومراكز البحوث، أقول إننا بمثل هذا الوصف التحليلي لشخصية العربي الآن يسهل على أولي الأمر عندئذ أن يتبينوا مواضع القصور التي أدت إلى ما نحن فيه من تخلف، وهزيمة، وضعف، وتمزق، وبالتالي فهم في هذه الحالة المستنيرة أقدر على رسم الطريق نحو النهوض، إن مسالك الناس في الحياة العملية لا تأتي من فراغ، وإنما هو انعكاس لما شحنت به الأدمغة والأفئدة، من أفكار ومن مشاعر تختلف باختلاف المواقف؛ فهذا مرغوب فيه، وذلك مرغوب عنه، لا لشيء في ذاته بقدر ما يكون ذلك الموقف الانفعالي أو العاطفي نتيجة الشحنة الثقافية التي عبأت الرءوس والقلوب، والكشف عن ذلك كله هو «النور»، وهو «التنوير»، وهو الشرط المبدئي الضروري لأي تغيير نريد له أن يتحقق في حياتنا.
وليس من شك في أن ذلك النور قد أبصرته البصائر عند أفراد أعلام من عظمائنا في مجالات الفكر والعمل، لكن الجماهير العريضة في الوطن العربي العريض هي أبعد ما يكون الناس عن ذلك النور؛ إذن فهم أحوج ما يكون الناس إلى التنوير. ولنا أن نسأل: وما الذي وضع الغشاوة على أبصار الجماهير؟ وجوابي في اختصار، هو أن أدمغتهم وقلوبهم معا، قد تولى شحنها من وجد منفعته في أن تعيش تلك الجماهير في أوهامها، وبذلك انسدت أمامهم وسائل الرؤية التي يرون بها واقع الدنيا على حقيقتها؛ فسرعان ما أصبحوا أسهل الفرائس انتهابا لمن هم سادة العصر علما وسلطانا.
وماذا عسانا أن نصنع إزاء ذلك، إذا حسنت نوايانا نحو الإصلاح؟
الإجابة في كلمتين: «تحديث الثقافة» التي تزرع في الرءوس وفي الضمائر؛ بمعنى أن نزود الإنسان العادي بمجموعات الأفكار والقيم، التي تصلح أن تكون له وسائل نجاح في ظروف الحياة الراهنة. ولسنا بذلك نعني، ولا نحن نريد، أن نقحم زرعا غريبا على نفوس تعافه وترفضه؛ بل إن السياسة الثقافية الجديدة من واجبها أن تتلمس في الروح العربية الأصيلة تلك المواضع التي تتقبل الزرع الجديد، ولعل ذلك أن يكون أهم مهمة يضطلع بها، أو يجب أن يضطلع بها، رجال الفكر والفن والأدب جميعا؛ فليكن جمهور الأمة العربية بمنزلة كتلة المرمر حين يتولاها فنان النحت ليخرج منها رأسا بشريا في ملامحه حكمة وهدى وتفاؤل، وكما يصنع النحات، حين يتصور بخياله ذلك الرأس داخل كتلة المرمر، ثم يبدأ بضربات إزميله بناء على ذلك التصور، فيزيل الزوائد من كل الجوانب، حتى يبرز الرأس المنشود وتظهر ملامحه كما أرادها الفنان؛ فالفنان هنا لم يفرض على المرمر ما ليس مرمرا، وإنما ترك المرمر على طبيعته، واستخرج من تلك الطبيعة ذاتها ما أراد، وهكذا علينا أن نفعل، نحن رجال الفكر والفن والأدب في الأمة العربية، نستخرج من جوهر العربي، بكل ما فيه من أصالة، تلك الصورة الثقافية الجديدة، التي تعينه على أن يعيش في عصره هذا، لا تابعا كما هي حاله الآن، بل متبوعا كما كان في عصور مجده الخالد.
অজানা পৃষ্ঠা