আরবি সংস্কৃতির আধুনিকীকরণে
في تحديث الثقافة العربية
জনগুলি
فإن المسك بعض دم الغزال
وهكذا أرى المعري بالقياس إلى سائر النفائس من بدائع الثقافة العربية جميعا؛ ففيه تحققت صفوة الصفوة من ثقافة كان لها مجدها وقوتها، ولكنها رغم هذه القوة وذلك المجد، أو قل إنها بسبب هذه القوة وذلك المجد؛ فتحت ذراعيها إبان القرن الثالث الهجري على وجه الخصوص (التاسع الميلادي) ترحيبا بالضياء يأتيها من شرق ومن غرب، وكان مع الضياء غذاء؛ فاقتات المثقف العربي بذلك كله على درجات تتصاعد ما تصاعدت في الأفراد مواهبهم وقدراتهم، حتى إذا ما انحنى القرن الرابع الهجري بأواخره ليدخل الخامس؛ ظهر ذلك العملاق الجبار أبو العلاء المعري؛ ليبلغ من تلك الدرجات الصاعدة أعلاها؛ ومن تلك القمة السامية أرسل البصيرة - ولا نقول البصر - ليجوب بها أقطار السماء وأرجاء الأرض، ولينفذ بها إلى سر الحياة في الإنسان وما هو أخفى من السر ؛ فمرة يعلو به ومرة يسفل به ، ولا غرابة، ففي الإنسان أحسن تقويم، وفيه ما يهوي به إلى أسفل سافلين؛ وهكذا شاء له ربه، وسبحان الله رب العالمين.
وفي إحدى لحظات تمجيده للإنسان، قال المعري متجها بقوله إلى الإنسان، صائغا كلماته في نبرة العاتب: أتزعم عن نفسك وعن الناس معك، أنك في هذا الكون العظيم هباءة صغيرة أو أقل من الهباءة شأنا، في حين أنك إذا ما وزنت قدرك بميزان صحيح، وجدت ذلك الكون العظيم الذي قرنت نفسك إلى أطرافه المترامية، فرأيت فيها صغرا وضآلة، أقول أنك إذا ما أحسنت الميزان، لوجدت ذلك الكون بكل عظمته إنما هو جزء منك منطو فيك:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر؟
وما أحوج الثقافة العربية في زماننا هذا إلى ألف ألف بوق من أضخم مكبرات الصوت ليقرع الأسماع بهذا السؤال المهذب العاتب؛ لأن زماننا هذا قد نكب في ثقافته بنكبات، كان أنكبها أن توافر عليها نفر من أبنائها، يمسون مع الناس ويصبحون، في إيهامهم بأن الإنسان فوق هذه الأرض، صغير، تافه، عاجز، لا عزم له ولا إرادة! فإذا شذ منا واحد فانطلق مشاركا في فض الأسرار الكونية بالبحوث العلمية، قالوا له: مكانك! فالعلم لله وحده جل وعلا؛ وإذا تحركت فيه العزيمة لينشئ ويبني، صرخوا في وجهه قائلين: الزم حدك يا ابن آدم، فالإرادة في كل ذلك لله وحده، سبحانه وتعالى؛ وبقول من هنا يتبعه قول، وبصرخة من هناك تتلوها صرخة، استطاع هؤلاء السادة أن يشيعوا مناخا كثيف الضباب يكاد يعمي بصر السائر عن رؤية قدميه؛ وكأن ثمة تناقضا أن يريد ربنا - جلت قدرته - أن تكون للإنسان إرادته حتى يقام ميزان العدل لحسابه على ما قدمت يداه من أفعال، يوم أن يكون حساب؛ وكأن هنالك منطقا يمنع أن يكون لله العليم علم سابق بقدرة الإنسان على أن يعلم؛ ونجح السادة إلى حد ملحوظ، في أن يصغر الفرد منا أمام نفسه؛ فقعد متربعا على الأرض، لا حول له في تسيير سفائن العالم، منتظرا حتى يتولى قيادتها سوانا، فمن لنا بمن يعيد فينا صيحة أبي العلاء المريرة في عتابها اللائم: أتزعم أنك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر؟!
وعلينا - حقا - أن نقف هنا وقفة لنسأل: كيف انطوى العالم الأكبر في هذا الجرم الصغير، الذي هو الفرد الواحد من أفراد الناس؟ .. واضح أن «الانطواء» لا يراد به أن يتكور العالم ويتقلص في حبة صغيرة يبتلعها الطاعم مع طعامه؛ وإذن فالأمر في هذا الانطواء، انطواء العالم الأكبر في جرم صغير هو الإنسان، منصرف إلى أحد وجهين: فإما طريق «العقل» وإما طريق «الوجدان»؛ في الحالة الأولى يتحول العالم الأكبر إلى أفكار عنه، والأفكار - بالطبع - دنياها هي عقل الإنسان الذي استخلصها لنفسه مما قد شهده في الكون من حوله؛ وفي الحالة الثانية يتحول العالم الأكبر إلى «مشاعر» استثيرت مما عاناه الإنسان في تعامله مع كائنات العالم، ومما خبره من ممارساته، نفعا وضرا، ولذة وألما. وقد نستطيع رؤية الموضوع من وجه ثالث؛ هو التشابه في التكوين بين الكون من جهة، والإنسان من جهة أخرى؛ تشابها حدا برجال الفكر في تاريخنا الفكري، وفي ذلك التاريخ عند سوانا، أن يستخدموا هاتين العبارتين: «الكون الأكبر» و«الكون الأصغر»، مشيرين بالعبارة الأولى إلى «الكون» الخارجي، وبالعبارة الثانية إلى الإنسان؛ وفيم يتشابهان؟ إنهما يتشابهان في جوانب كثيرة، أهمها أن في كل منها جسدا وعقلا، أو قل: مادة وروحا؛ وأن يكون للعقل وللروح أن يوجها وأن يعقلا ما يتصل بالجسد في ماديته؛ وكذلك هما يتشابهان في واحدية البناء رغم كثرة العناصر المكونة له؛ فألوف الملايين من الأجزاء - في كل منهما - منخرطة كلها في نسق واحد، يتجاوب فيه كل جزء من أجزائه مع كل جزء آخر؛ ولقد اهتدى مبدعو الفن والأدب من هذه النسقية المتساندة المتآزرة بعضها مع بعض؛ في أن جعلوها مبدأ يحتكم إليه في تمييز الجيد من الرديء من مبدعات في ذينك المجالين؛ وهو ما أصبحنا نطلق عليه في عالم النقد اسم «الوحدة العضوية».
على أن الصلة الفريدة التي تجعل للإنسان مكانته الممتازة في هذا الكون العظيم، هي - كما أراها في تواضع شديد - «الوعي» الذي يعي به نفسه، ويعي به من هذا العالم المحيط به، ما يمكنه من أن يحتويه طي نفسه، وكأنه خاطرة من خواطرها؛ وهنا نستطرد في القول قليلا؛ لنلقي الأضواء الشارحة على هذه العبارة المجملة؛ فما من قارئ للقرآن الكريم، أو منصت لآياته، إلا ويحفظ الآية الكريمة:
الله نور السماوات والأرض ... (إلى آخر آية النور)؛ لكن المعنى الذي يسبق إلى ذهن القارئ أو السامع لكلمة «النور» هو - في أغلب الحالات - ذلك المعنى المأخوذ من الخبرة اليومية المباشرة؛ وأعني النور كما نراه في ضوء المصباح، أو القمر، أو الشمس، أو غيرها من مصادر النور التي نعرفها ونألفها؛ ولكن ذلك - في رأي الكاتب - فهم للكلمة يضيق معناها وأبعاد مغزاها؛ ويكفي أن نتذكر حقيقة موضوعية، هي أن الكون «معتم» في عين المسافر الذي يخترقه مسافرا بين أرجائه؛ ذلك على فرض أن مسافرا كهذا أمكن أن يكون له وجود؛ فنحن نرى أشعة الضوء، لا وهي في طريقها آتية من مصدرها إلى حيث تسقط، بل نراها بعد أن تسقط على سطح فتنعكس عليه؛ فالقمر يضيء بسقوط أشعة الشمس على سطحه، وكذلك يضيء سطح الأرض بالطريقة نفسها، ثم تنعكس الأشعة على الأجسام التي حولنا فتضيء فنراها، وأما إذا وجهت النظر إلى تلك الأشعة وهي في طريق انتقالها؛ فلن ترى شيئا، وحتى لو نحينا هذه الحقيقة جانبا؛ تبينت لتا حقيقة أخرى عن الضوء كما هو، وهي أنه ظاهرة طبيعية كسائر الظواهر، فهنالك إلى جانب ظاهرة الضوء، ظاهرة الصوت، وظاهرة الكهرباء، وظاهرة الحرارة، وظاهرة المغناطيس، وظاهرة الجاذبية، وهلم جرا.
لكن انظر إلى كلمة «النور» (في آية النور) من زاوية أخرى، هي نفسها الزاوية التي نظر منها الإمام الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار»؛ تجد أنها إنما تعني «الوعي» المنبث في أرجاء الوجود كله، الذي يتصف به الإنسان كغيره من الأحياء، بل الأشياء كذلك، ثم يتميز دونها جميعا بإضافة بعد آخر، هو أنه واع بوعيه؛ فإذا كانت الشجرة على شيء من الوعي بعناصر التربة التي تحيط بجذورها، فتنتقي منها ما تنتقي، وتهمل منها ما تهمل، وإذا كان الحيوان من أي نوع من أنواعه، على شيء كثير من الوعي بما يحيط به، فينتفع بما ينتفع به طعاما ومأوى، ويتقي ما يتقيه مما توحي إليه طبيعته بأنه مهلك لحياته؛ فلا النبات ولا الحيوان على وعيهما ذاك على علم من درجة أعلى، يعلمان به أنهما على ذلك الوعي؛ وأما الإنسان فهو وحده الذي يعي ما يعيه، ثم يضيف إلى ذلك وعيا أعلى، وهو وعيه بأنه على ذلك الوعي؛ ولماذا أفضنا القول في هذه التفرقة بين الإنسان وغيره؟ إننا قصدنا بذلك إلى شرح يوضح كيف يدرك الإنسان هذا الكون إدراكا واعيا، يصبح به الكون كله في طوية نفسه نبضة من نبضاتها؛ وبهذا المعنى نزداد فهما لقول أبي العلاء: إن العالم الأكبر ينطوي بجميعه في وعي الإنسان؛ ومن هنا نراه في الشطر الأول من البيت الذي أسلفنا ذكره: «أتزعم أنك جرم صغير؟» يدهش أن يرى الإنسان يقلل من قدر نفسه، مع تلك القدرة القادرة التي وهبه إياها من خلقه فسواه فعدله، وسبحانه من خالق؛ فهل يسمع أولئك الذين ما ينفكون يذيعون فينا اليوم دعوة إلى وجوب اصطناع الضآلة والصغر؟
অজানা পৃষ্ঠা