وفي الحالة الثالثة يطرح العقل طريقة البحث الضائع وراء الأسباب المجردة، وأصل الوجود الكوني ومنقلبه، والعلل الأخيرة التي تعود إليها الظاهرات، ويلقي بكل جهده في سبيل معرفة السنن التي تحكمها؛ أي صلاتها المتشابكة وتلاحقها ومشابهاتها، هنالك يتحد العقل والمشاهدة ليكونا أساس المعرفة. فإذا تكلمنا في هذه الحال في تفسير حقائق الكون، فلا نخرج عن إيجاد صلة ما بين ظاهرة من الظاهرات وبين مجموعة من الحقائق العامة التي يقل عددها تدرجا بنسبة تقدم العلم اليقيني.
هذا هو مذهب كونت، ولكنك إذا فكرت قليلا في الأصل الذي نبع منه ذلك الشيء المبهم الغامض الذي نسميه «العقل الإنساني»، وجدت أن هنالك حالة مر بها العقل يمكن أن تكون بمثابة قاسم مشترك أعظم يضرب في مجموع هذه الحالات التي بنى عليها كونت فلسفته. على أنك لا تستطيع بجانب هذا أن تدرك حقيقة هذه الحالة، أو أنها ذات أثر خالد باق في مجموع الحالات الثلاث التي عمد إليها كونت في تكوين مذهبه الفلسفي، إلا إذا رجعت إلى تحليل نفسي تاريخي تتناول فيه نشوء الإنسان.
فإن كثيرا من الفلاسفة قد أظهروا جهلا كبيرا بحياة الإنسان وتاريخه، فبنوا قواعد ووضعوا مذاهب، على الرغم مما فيها من الروعة وأثر الجهد فإنها بعيدة جهد البعد عن الحقائق الواقعة التي ينطق بها تاريخ الإنسان، فبينما تجد أن البعض منهم قد اطرح البحث في طريقة التفكير التي ينتحيها العقل وصولا إلى حقائق الأشياء، تقع على غيرهم وقد حاولوا أن يفصلوا العقل عن الإنسان ليجعلوه موضع درس خاص، يرجعون إليه بعد أن يفرغوا من تاريخه الطويل، في حين أن تاريخ الإنسان وتاريخ العقل شيء واحد، وما فصلهما إلى شيئين إلا عبث كبير بالعلم وأساليبه.
كذلك تجد أن كثيرا من الفلاسفة، سواء في العصور الحديثة أم القديمة، قد زعموا بأن العقل ليس بشيء سوى مجموعة ما يصدر عن الفكر والإدراك الشامل، لحصروا العقل في مجموعة ما يدرك، ويتصور ويحكم به ويتعقل فيه ويفهم ويعتقد به ويراد فعله. ولكن قليلا من البحوث الفذة التي قام بها علماء عمدوا إلى النظر في الإنسان باعتباره كلا واحدا، قد أثبتت أن الإنسان لدى الواقع لا يستطيع أن ينتبه انتباها عقليا كاملا لحقيقة ما يدرك أو يتذكر أو يريد أو يحكم فيه، بل برهنوا على أن جزءا عظيما من تفكير الإنسان في كليات المسائل أو جزئياتها إنما يقع تحت آثار وراثة طويلة ثابتة تجعله خاضعا لقبول أشياء ومبادئ وحقائق من غير أن يشعر كيف أنه قبلها أو سلم بها.
وعلى هذا تجد أن حالة الحياة النفسية اللاشعورية قد تستقوي في أغلب الأحيان على الحالة الشعورية الراجعة إلى إحكام العقل على ما يدركه أصحاب الفلسفة اليقينية. وهذه المسألة تظهر كأنها أمر طبيعي واقع لكل من يمعن النظر في الحقائق الآتية:
يدلنا التاريخ الطبيعي على أن هنالك أربع حالات يثبتها البحث في تاريخ الإنسان:
الأولى:
حالة العقل الحيواني، وهذه ندعوها بالحالة الغريزية.
والثانية:
حالة العقل الطفلي، وهذه ندعوها بالحالة اللاهوتية.
অজানা পৃষ্ঠা