عاش اليهود بلا دولة ولا أرض ولا رئيس سياسي، مشتتين في أطراف الدنيا، مندمجين في أمم هي أبعد الأمم عن بعضها تجانسا وأقلها ترابطا، ومع كل ذلك عاشوا متحدين شاعرين بحقيقة هذا الاتحاد كقوة سياسية عظمى، ويعتقد تشامبرلين أن السبب في هذه المعجزة هو ذيوع كتاب واحد بين اليهود؛ هذا الكتاب هو التوراة، مع كل ما زيد إليه من الإضافات حتى يومنا هذا. يقول إن هذا الكتاب يجب أن ينظر فيه باعتباره صورة منعكسة عن روح قومية خاصة، عملت - كلما دقت ساعات الخطر الداهم والكوارث المجتاحة - على توثيق الوحدة والألفة الوطنية، بعناية رجال خصوا بأوسع المدارك ووهبوا قوة الفراسة.
غير أن تشامبرلين لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول أن ينتزع من التوراة دليلا يؤيد نظريته، فيقول بأن ما بث في تضاعيف التوراة من الروح الدينية لم يكن في الحقيقة إلا عنصرا من عناصر الرواية التاريخية التي انطوت عليها دفتا التوراة، وأن عكس ذلك غير صحيح. ولقد مضى في تدليله طويلا حتى إنه لم يترك شاردة ولا واردة إلا أثبتها انتصارا لمذهبه هذا، وليثبت أن الشعب اليهودي قد أدمج دينه في تاريخه، وأنه صب الدين في معين التاريخ شعورا منه بقوة ترابطه القومي، وأن ليس لسبب في هذا إلا نقاء هذه السلالة البشرية وعدم تلاقحها مع غيرها من السلالات، وأن هذا هو السر الأوحد في قوتها الاجتماعية، وما فيها من صفات المقاومة والمناعة ضد الاندماج في غيرها من الأمم.
هذا ملخص مذهب تشامبرلين في السلالات البشرية، وعليه يبني مذهبه في المؤثرات التي كونت التاريخ الإنساني، غير أننا ننظر بجانب هذا من الناحية البيولوجية الصرفة، فنجد أن علماء الحياة قد أثبتوا بالدليل أن تلاقح السلالات عامل على زيادة خصبها وقوتها الحيوية، فهل يمكن أن يكون هذا المبدأ مناقضا لمذهب تشامبرلين؟
أما إذا نظرنا من ناحية أثنولوجية صرفة، لما وسعنا إلا الاعتقاد بأن مذهب تشامبرلين صحيح من كل الوجوه، والأمثال عليه في علمي الأثنولوجيا والاجتماع كثيرة لا تحصى، فكيف يمكن التوفيق بين مذهب تشامبرلين القائم على حقائق الأثنولوجيا والاجتماع، وبين مذهب البيولوجيين القائم على الاختبار وصدق المشاهدة؟ الحقيقة أن لا تناقض بين المذهبين إلا في الظاهر؛ فإن تلاقح السلالات إن صح بيولوجيا أنه من مهيئات الخصب والقوة الحيوية، فإنه لم يثبت أنه ضروري للاحتفاظ بالقوميات اجتماعيا، والفرق بين الخصب في الإنتاج والقوة الحيوية للانتصار في التناحر على البقاء شيء، والاحتفاظ بالوحدة القومية في الاجتماع شيء آخر.
إذن يتضح من هذا أن نقاء السلالات البشرية أثنولوجيا مفيد من الناحية الاجتماعية، كما أن تلاقحها وتدامجها بالدم مفيد بيولوجيا، إذا ما اعترى السلالة ضعف حيوي كاد يقرضها من الوجود، كما هو حادث اليوم في بعض بقاع فرنسا وبين كثير من السلالات اللاتينية.
حالات العقل
تقوم فلسفة كونت على قانون وضعه وسماه قانون الدرجات أو الحالات الثلاث، فقال بأن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا وكل فروع معرفتنا، لا بد أن تمر على التوالي بثلاث حالات مختلفة: الأولى الحالة اللاهوتية أو التصورية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية أو الغيبية المجردة، والثالثة اليقينية الواقعة.
هذا هو قانون الحالات الثلاث، ويمكن أن يحصر القول في هذا القانون العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي بثلاث طرق للتأمل في حقائق الأشياء، وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنها تتناقض، ومن هنا تنتج ثلاثة ضروب من الفلسفة، أو بالأحرى ثلاثة أساليب للتفكير، في اكتناه حقيقة الظاهرات، كل منها تنافر الأخرى. أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق، والبحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فيمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة، وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية بين الأسلوبين الأولين.
ففي الحالة اللاهوتية، يبحث العقل في طبيعة الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكامنة، يبحث في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس، وعلى الجملة يبحث في المعرفة المطلقة، وهنالك يضطر إلى التسليم بأن كل الظاهرات إنما ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تقع وراء عالم الطبيعة المنظور.
وفي الحالة الثانية وهي حالة محورة عن الحالة الأولى، يتبدل العقل من فرض الكائنات السائدة على الطبيعة، بفرض قوات مجردة أو شخصيات محققة الوجود، يكون في استطاعتها إحداث مختلف الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الظاهرة من تفسير الظاهرات، وليس ما يعني في هذه الدرجة من تفسير الظاهرات؛ إلا عبارة عن نسبة كل منها إلى مصدرها الأول.
অজানা পৃষ্ঠা