ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟ •••
كنا لا نرى في سمائنا إلا الطير الجميل، يزورنا منه في دورات منتظمة طيور مهاجرة، فإذا سمعنا صوت السقساق الشامي، استبشرنا بالخير؛ لأنه يأتي مع الشتاء؛ زمن الفيض والكثرة. وإذا رأينا الوروار في مستهل الصيف، فذلك زمان التبر المنثور، زمن الحصاد.
أما الآن فترى إلى جانب براءة الطير، تلك القلاع الطائرة التي تحمل إلينا البوار والدمار، والتي في مستطاعها أن تحول حقولنا في طرفة عين إلى ميدان حرب تبور فيها النفوس، وتقضي على الحرث والنسل في لمح البصر، فكأنها رمز الموت مصلتا على رءوسنا، ولكنا لا نعلم متى ينزل. ونزول الطامة أهون من ترقبها. ألا يكون هذا من أسباب ذلك الحزن الغامر المخيم على دنيانا؟
لم يبق لي في الريف، وأنا واحد من ملايين يشعرون مثل ما أشعر، إلا وكر ذلك الكروان الذي شاركني جزءا من سطح بيتي، فظللته بحمايتي، وأخذته في كنفي، إذ لم يبق في الريف من شيء يذكرني بماضي الأيام الحلوة، إلا رنين تلاحينه الجميلة الصداحة، يرسلها في أثناء الليل وفي نور القمر، فتعود بي الذكريات إلى تلك الألحان القوية الرنانة، التي كانت ترسل بها جارتنا بديعة أو «عامرية» بنت أخيها، أو غيرهما من فتيات القرية اللواتي تمتعن بقوة الجسم وقوة الروح.
لم يكن في ذلك الوقت بأسعد حالا من حيث المعاش منهن الآن أو من مثيلاتهن. كن فقيرات درجن في حجر العوز، وكن محتاجات إلى العمل، فعملن في الحقول وفي محالج القطن. ولكنهن كن مرحات كالغزلان، مستخفات كأنهن الطير، سارحات في أثناء النهار وفي أطراف من الليل.
بعضهن الآن في المقابر، وبعضهن جالسات على أبواب الدور مسندات رءوسهن بأكفهن وفي وجوههن الأسى والحزن، أبناؤهن مغمورون في صخب الدنيا، وبناتهن شاردات العقول زائغات الأبصار. من يدريهن؟ لعل في ثنايا القدر حروبا أخرى، أو ملمات كبرى؟ كيف لا والذرة قد فك عقالها، والأيدروجين على الأبواب، وكوبلت، ذلك الشيطان المارد، يحييهن عن بعد، ناظرا إلى أولادهن، سواء في ذلك من شب عن الطوق، أو من لا يزالون زغب الحواصل. كيف لا وهو «كوبلت» الذي لا يبقي ولا يذر.
ما هذا الحزن الغامر الذي يخيم على دنيانا؟ •••
الشرق، شرقي الأرض، يريد أن يسود الدنيا. والغرب، غربي الأرض، يطلب أن يكون السيد الأعلى. والناس بين الشرق والغرب يساقون قطعانا، كأنما هم صيران من العجول، فلا إرادة، ولا فكر، ولا إنسانية.
يقول بعض الناس، وهم في العادة ممن أشربت نفوسهم حب الدمار: إن هذه الأزمات ضرورية لرقي الإنسان وتحوله وتطوره. وما هذا القول إلا تعبيرا عما انعقدت عليه ميول زعماء هذا الإنسان من غرور الدنيا، من الحماقة، من الشر، من العجز عن إدراك حقائق الحياة، كما أبرزتها الحكمة البشرية.
إن مصير البشر في يد حفنة من هؤلاء المفتونين بغرور الدنيا، المصروفين عن حقائقها إلى ما تنطوي عليه النفوس من أطماع.
অজানা পৃষ্ঠা