فما زال يردد الرسل، ويدبر الحيل؛ حتى وافقته الريح فأقلع، وافلت من الشرك بعد ما وقع. وصار في صور، فزم الأمور، وأجم الجمهور. وجرأ الكفر بعد خوره، وبصر الشيطان بعد عماه وعوره فاستعلى
بالخزي، واستولى بالغي والبغي.
وأرسل رسله إلى الجزائر، وذوي الجرائر. يستعدى ويستدعى، ويستودع ملة الصليب عبادة ويسترعى، ويستثير ويستزير. ويستنفر ويستنصر. وثبت في صور ونبت، وجمع إليه من الفرنج من تشتت. وما فنح بلد بالأمان؛ إلا سار أهله في حفظ السلطان؛ حتى يصيروا في صور، ويأمنوا المحظور.
فاجتمع إليها البلاد المفتوحة، بالقلوب المقفلة المغلقة المقروحة. فامتلأت وكانت خالية، وانتشأت وكانت بالية. وتعللت وكانت معتلة، وتعقدت وكانت منحلة، وتسددت وكانت مختلة. ولم يحتفل بها فأخر فتحها، وما ظن بها الضن حتى علم شحها. فاستنجدت رمقا بالمهلة، وتصعبت بعد مقادتها السهلة.
فقضى إمهالها بإهمالها، وعادت عيونها إلى الإغفاء بإغفالها. وألهي عن طلبها طلب ما هو أشرف، والعزم بفتحه اشعف وهو البيت المقدس، فإن فتحه من كل فتح أنفس. والمركيس في أثناء ذلك يحفر الخندق ويحكمه، ويعقد الموثق ويبرمه، ويجمع المفرق وينظمه.
وسنذكر ما تجدد منه في أوقاته. ما فات من فرصة الإمكان في دفع آفاته.
ذكر فتح عسقلان وغزة والداروم
والمعاقل التي يأتي ذكرها
وكان النزول على عسقلان يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة ولما فرغ السلطان من فتح بيروت وجبيل، ثنى عنانع يجر ويجري من العسكر والعثير على السماء والأرض الذيل والسيل. وعاد عابرا على صيداء وصرفند، وقد اورى فيهما باقتداح اقتراحه الزند.
وجاء إلى صور ناظرا إليها، وعابرا عليها. غير مكترث بأمرها، ولا متحدث في
حصرها، ولا معتقد في تعقدها، ولا متئد في توردها. وعلم أيضا إنها ممتنعة، وعن سومها مرتفعة. فعمل بالحزم، وعمد إلى العزم. ودلته الفراسة على أن محاولتها تصعب، ومزاولتها تتعب. وليس بالساحل بلد منها أحصن، فعطف الأعنة إلى ما هو منها أهون.
وكان قد استحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية، وشرط معهما واستوثق منهما أنه يطلقهما من الأسر والبلية، متى تمكن بإعانتهما من البلاد البقية. وعبر والعيون صور إلى صور، والمركيس ما شك أنه بها محسور محصور. فلما
1 / 64