وصارت عش غشهم، ووكر مكرهم، وملجأ طريدهم، ومنجى شريدهم، ومأمن خاشيهم، ومكمن عاشيهم. وهي التي فر القومص إليها يوم كسرتهم، بل يوم حسرتهم.
ذكر هلاك القومص ودخول المركيس إلى صور
ولما عرف القومص قرب السلطان منها أخلاها وخلاها، وآوى إلى طرابلس وثواها. فما متع بما ملك. وكان مما قيل:
راح يبغي نجوة ... من هلاك فهلك
فما أنجاه الفرار من القضاء، وفر من البلاء إلى بلاده فوقع في البلاء. وظن أن صور خلت، وأن مجانيها حلت. وأن جماحها أذعن، وأن كفاحها أمكن. وأن فرصتها انتهزت، وأن حصتها أحرزت. وأن قيادها أطاع، وأن مرتادها استطاع. لكنها تعوضت عن القومص بالمركيس، كما يتعوض عن الشيطان بابليس. فأدرك ذماء الكفر بعد ما أشفى، وأيقظ روع الروع بعد ما أغفى. وضبط صور بمن فيها، من مهزومي الفرنج ومنفييها.
وكان المركيس من أكبر طواغيت الكفر وأغوى شياطينه، وأضرى سراحينه. وأخبث ذئابه، وأنجس كلابه. وأنهش صلاله، وأفحش ضلاله. وأعوى أعوانه، وأخون إخوانه. وأبغي بغاته، وأجفى جفاته، وأرعى حماته، وأحمى رعاته. وشر شراره، وأنكر نكاره، ولأفجر فجاره. وأروغ ثعاله، وألسب عقاربه. وأحنث معاهديه، وأنكث معاقديه.
وهو الطاغية الداهية، الذي خلقت له ولأمثاله الهاوية. ولم يكن وصل إلى بلاد الساحل قبل هذا العام. ولا خلف مقدمي الكفر غيره في الإقدام على خلاف الإسلام.
واتفق وصوله إلى ميناء عكاء وهو بفتحها جاهل، وعمن فيها من المسلمين ذاهل. فعزم على إرساء الشيني بالمينا. ثم تعجب وقال ما نرى أحدا من أهلها يلتقينا. ورأى زي الناس غير الزي الذي يعرفه، فارتاب وارتاع وحدث عن الدخول توقفه. وبان تندمه، وتأخر تقدمه. وسأل عن الحال فأخبر بها، ففكر في النجاة وكيف يتعلق بسببها. ثم وقف بالقرب، فلبث على الرعب. والهواء راكد، والفضاء عنه راقد، فإنه لو خرج إليه مركب لأخذه، لو وقف له قاصد لوقذه. فاحتال كيف يخرج بسفينته، ولا يدخل مع فقد سكينته.
وانتظر هبوب الريح الموافقة له فلم تهب. . وما تم الإفلات على ما أحب. فسأل عن البلد ومن إليه أمره، ومن بيده نفعه وضره. فقيل: هو الملك الأفضل، والمالك الأكمل. فقال خذوا لي منه أمانا حتى أدخل، وأرفع إليكم ما معي من المتاع وأنقل فجيء إليه بالأمان. وقيل: هذا بعلامة السلطان فقال: ما اتق إلا بخط يده، ولا أنزل إلا بعهده إلى بلده.
1 / 63