أليس عجيبا أن يكون ذلك مصير هرقل ومصير سورية! لقد غزا الفرس الروم في سنة أربع عشرة وستمائة للميلاد واستولوا على الشام ومصر، فلم يلبث هرقل حين جلس على عرش الإمبراطورية أن سار على رأس جيشه وحارب الفرس وهزمهم، وأجلاهم عن مصر والشام، واسترد منهم الصليب الأعظم، ثم رده في حفل حافل إلى بيت المقدس، فما بال جيوشه تنهزم أمام المسلمين كل هذه الهزائم؟! ما باله لا يتولى قيادتها ولا يبعث إليها من قوة روحه مثل ما فعل أول ما جلس على عرشه؟! بل ما باله يبقى بعيدا عنها، فيقيم بحمص ثم بأنطاكية، ثم بالرهاء، ليفر آخر الأمر فرار الجبان إلى بيزنطية فينزلها مذموما مدحورا؟! هذا ولما تكن عشر سنوات قد انقضت بين انتصاره على الفرس وانهزامه أمام المسلمين؛ فقد هزم الفرس في سنة خمس وعشرين وستمائة، وبدأت هزائمه أمام المسلمين سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكان فراره من سورية كلها سنة ست وثلاثين وستمائة، أليس لهذا الانقلاب العجيب من سر يمكن جلاؤه؟ أم أنه القدر دفع المصادفة فأدت إليه، فلا سبيل لتفسيره ومعرفة أسبابه؟!
ليس في حياة العالم أمر لا يخضع لسنن الكون، ولو أنا عرفنا كل هذه السنن وأحطنا علما بكل ما يقع من الحوادث جليلها ودقيقها، لاستطعنا أن نفسر الظواهر الاجتماعية، وأن نعرف ما يترتب عليها، بالدقة التي نعرف بها مدار الأفلاك وسير الكواكب، لكن كثيرا من السنن لا يزال علمه غائبا عنا، ومن حوادث الكون كثير تفوتنا معرفته؛ إما لأنه مضى ولم يدونه من سبقنا تدوينا نطمئن إلى دقته، أو لأن حياتنا أقصر من أن نحيط في أثنائها بكل الدقائق التي تجعل حكمنا على الظواهر الاجتماعية دقيقا دقة رياضية، لكن ذلك لم يمنع الكتاب والمفكرين في كل العصور من أن يلتمسوا الأسباب ويرتبوا عليها النتائج، فإذا جاء بعدهم نظراؤهم محصوا آراءهم لينفوا زيفها وليبلغوا بها غاية الدقة، وهذا التمحيص ابتغاء الدقة سيظل متصلا على الأجيال حتى نبلغ من العلم بالسنن الكونية في شئون الاجتماع ما بلغنا من العلم بالقوانين الرياضية، فتتجلى أمامنا أسرار الوجود الإنساني ويستوي لنا علم ماضيه ومستقبله، وأغلب ظننا أن الأمد لا يزال بعيدا بيننا وبين هذا المبلغ، فليكن دأبنا مداومة التمحيص لمعرفة الحقيقة؛ فهذا التمحيص هو مظهر الحيوية العقلية والنشاط الروحي، فإذا لم يتيسر لنا أن نكشف عن كل الحقائق كاملة استطعنا أن نظفر منها بأكبر حظ مستطاع.
والآن ما سر الانقلاب الذي طرأ على هرقل وجيوشه، فجعلها تنهزم أمام قوات المسلمين ولما تمض عشر سنوات بعد انتصارها على الفرس، وإجلائها إياهم عن مصر والشام، وتهديدها عاصمة ملكهم؟! أتراها أجهدتها تلك الحروب وقد استطالت ست سنوات واستنزفت من الأموال ودماء الرجال ما استنزفت؟ قد يكون لهذا السبب قيمته في بعض الأحيان؛ لكنه لا قيمة له فيما نحن بصدده، وهو لذلك لا يفسر انقلاب الروم من النصر إلى الهزيمة في هذه السنوات القليلة، ذلك لأن قوة العرب لم تكن كقوة الفرس أو كقوة الروم نظاما وعدة، وعشر سنوات كافية لتجنيد جيش جديد من أرجاء الإمبراطورية لا يستطيع العرب تجنيد مثله عددا وعتادا، وقد رأينا في اليرموك ودمشق وفحل والغزوات كلها أن أعداد الروم كانت تزيد على أعداد العرب أضعافا مضاعفة، ثم لم يغن ذلك عنها ولم يؤتها القوة على المسلمين، بل صدقت كلمة خالد بن الوليد في اليرموك: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.» لا مفر إذن من أن نلتمس لهذا الانقلاب أسبابا أخرى تفسره وتجلوه.
وهذه الأسباب شتى، ولكنها تتضافر جميعا فتؤدي إلى نتيجة محتومة هي في رأينا علة ما حدث، وخلاصة هذه النتيجة أن سياسة الدولة انتهت إلى برم الناس بها وسوء رأيهم فيها، وإلى انصرافهم لذلك عن تأييدها، وعدم حماستهم لمؤازرتها، والنصر متعذر في جو نفسي هذا شأنه، ذلك بأن التجنيد الحربي لا يكفي وحده لإحراز النصر، فالتجنيد المدني ليس دونه خطرا، ونحن نشعر اليوم بهذا الأمر شعورا قويا، ويخيل إلينا أن مرجعه أن المدنيين يقاسون من أهوال الحرب ما يقاسي الجنود في الميدان؛ فهم معرضون للحصر البحري، والغزو الجوي، وما إلى ذلك مما لم يكونوا يتعرضون في تلك العصور لمثله، وهذا صحيح، ولكنه لا يصور إلا الناحية العنيفة مما قد يتعرض المدنيون له، ولا يصور ما هم مطالبون به من تضحيات إيجابية متصلة هي أساس قوة الجند، وعلى قدرها يكون رجاؤهم في النصر، فالمدنيون هم الذين يمدون الجيش بعتاده وأقواته، وهم الذين يستحبون الحرمان حين الحرب ويؤثرون الجيش على أنفسهم وذويهم، ليكفل لهم نصره حياة سلم فيها أمن ودعة، وهم إنما يبذلون هذه التضحيات مخلصين يوم يطمئنون إلى سياسة الدولة، وإلى قيام الحكم على أساس العدل بينهم وإصلاح شئونهم، فإذا لم يرضوا هذه السياسة وبرموا بها لم يبذلوا هذه التضحية إلا كارهين، ولم يكن عندهم من الحماسة لانتصار الدولة ما يزيد جيوشها إقداما وبأسا، وهذه الحال النفسية أقوى أثرا في انتصار الجيوش وخذلانها من كل مدد وعتاد.
وهذه الحال النفسية هي التي قوت هرقل ونصرته على الفرس، فقد كانت عوامل الفساد والانحلال تدب في كيان الإمبراطورية الرومية قبل أن يجلس هذا العاهل على عرشها ويتولى أمورها؛ لذلك غلبها الفرس واستولوا على ممتلكاتها، فلما قام هرقل بالثورة على فوكاس لسوء حكمه وتولى الأمر مكانه، آمن الناس بأن عصرا جديدا يوشك أن يبزغ فجره، وأن الإمبراطورية لن تلبث أن تسترد ما كان لها من عزة وسؤدد؛ لذلك أقبلوا على هرقل يؤازرونه مخلصين، يبذلون من التضحيات كل ما يستطيعون بذله، ويرخصون أمنهم بل حياتهم في سبيل نصرته، وما أعظم ما يستطيع من يرخص حياته! لذا ظفر هرقل فاسترد ما أضاع سلفه، وانتظر الناس من بعد أن يتحقق رجاؤهم في العصر الجديد.
لكن هرقل ما لبث حين استتب له الأمر في مصر والشام أن لجأ إلى سياسة أحفظت عليه أهل مصر والشام، لقد خوت خزائنه، ولا بد أن يملأها، فبهظ أهل هاتين الولايتين بالضرائب فنفروا، لكن نفورهم من فداحة الضرائب لم يكن وحده ليغير على العاهل العظيم قلوبهم لو أنهم وجدوا عن التضحية المادية عوضا في حكم يكفل لهم الأمن والحرية، ولا شيء أعز على الناس من حرية العقيدة، إنهم ينفرون إذا حاولت صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم لا يستمعون إليك إلا أن يتبينوا إخلاصك لهم وحرصك على هداهم، فإذا اطمأنوا إلى ذلك قاربوك في حذر أول الأمر، حتى إذا آمنوا بما دعوتهم بذلوا في سبيل إيمانهم دماءهم وأرواحهم، أما وذلك شأنهم مع الذين يدعونهم للحق بالحسنى فأحر بهم أن تثور نفوسهم إذا أراد حاكم أن يصرفهم قسرا عن عقيدتهم ليفرض عليهم عقيدة غيرها، فإذا لم يستطيعوا الثورة الصريحة عليه مكروا به وتمنوا له السوء، وكان هذا شأن هرقل في مصر والشام وسائر بلاد الإمبراطورية؛ لذلك تغيرت عليه النفوس ونفرت منه القلوب، فلم يجد سندا من قوة المدنيين ومن روحهم المعنوية تؤازر جيوشه في حرب المسلمين.
فهو حين تم له النصر على الفرس وجاء بالصليب الأعظم إلى بيت المقدس أعطى اليهود العهد الذي طلبوه بالأمان على أنفسهم ومعابدهم، لكن المسيحيون وقساوستهم جعلوا، بعد حفلة إعلاء الصليب، يذكرون اليهود بالسوء ويغرونه بهم، إذ يتهمونهم بأنهم كانوا أشد من الفرس قسوة على المسيحيين وأفظع منهم جرما في تدمير الكنائس وإحراقها، ولقد تردد هرقل بادئ الرأي في نقض عهده، فلما ألح عليه من حوله وذكروا له من الحجج ما يحله من هذا العهد، زال تردده، فأمر بإجلاء اليهود عن بيت المقدس بل أباح دماءهم «حتى لم يبق منهم في دولة الروم ومصر والشام إلا من هرب أو اختفى.»
5
ولم يكن الذين هربوا من بيت المقدس إلى الصحراء فيما وراء نهر الأردن قليلين، هؤلاء ظل حقدهم على هرقل لهذه الفعلة النكراء متقد الضرام لم يطفئه أنه أذن لهم من بعد بالعود إلى موطنهم، فتربصوا، حتى إذا لاحت أعلام المسلمين ضووا إليهم وصاروا لهم أدلاء يكشفون لهم عن عورات البلاد ويقفونهم على أسرار الدولة.
لم يكن اليهود وحدهم هم الذين أكل قلوبهم الحقد على هرقل، بل كان النصارى يشكون كذلك مر الشكوى، ذلك أن هرقل رأى، حين اطمأن له الأمر، أن يوحد المذاهب المسيحية في الإمبراطورية كلها، إيمانا منه بأن تعدد المذاهب هو الذي فرق كلمتها وخضد شوكتها، وكان أكبر رجائه أن يحقق زعماء الكنيسة هذه الوحدة بحكمتهم لتقوم في أرجاء الإمبراطورية على الرضا والوفاق، دون إجبار أو إكراه، ولو أن ذلك تم لكان قوة للدولة على أعدائها، ولشاد لهرقل مجدا باقيا على التاريخ، لكنه لم يكن ليتم، فبقيت المذاهب على تعددها، واضطر الإمبراطور أن يكره الناس على الإذعان للمذهب الرسمي الذي فرض عليهم، فمن أبى حقت عليه كلمة العذاب، وأبى الناس فاضطهدوا، فشكوا إلى هرقل بطش عماله، فأعارهم أذنا صماء، فانصرفت عنه النفوس ونفرت منه القلوب.
অজানা পৃষ্ঠা