ومن عجب أن تترك فعال خالد بقنسرين كل هذا الأثر في نفس أمير المؤمنين، وأن تكون قنسرين عاصمة الولاية الممتدة حولها؛ ثم لا يقص المؤرخون الثقات من تفاصيل فتحها أكثر مما رأيت،
4
وليس هذا الإيجاز مما خصت به قنسرين، بل جرى عليه الطبري ومن أخذ مأخذه، وجرى عليه البلاذري ومن تابعه، فأجملوا وقائع الفتح بالشام إجمالا لا يتفق وتفصيلهم وقائع العراق وما حدث فيها، وإنما فصلوا من وقائع الشام غزوة اليرموك وفتح بيت المقدس، وأعاروا فتح دمشق بعض العناية، لاعتبارهم اليرموك مفتاح الشام كما اعتبروا القادسية مفتاح العراق، ولأن دمشق عاصمة الشام وبيت المقدس مدينة المسجد الأقصى، وكم وددنا لو أنهم فصلوا ما حدث بقنسرين لنقف منه على السر في كلمة أمير المؤمنين.
ذكرنا أن أهل قنسرين بعثوا إلى خالد يطلبون الأمان على صلح حمص، وأن خالدا رأى أن يجزيهم بمقاومتهم، فأبى إلا تخريب المدينة، ففر أهلها إلى أنطاكية، فلما جاء أبو عبيدة وعرف ما طلبوا رأى فيما أراد خالد أن يجزيهم به عدلا لا غبار عليه، ولذلك هدم حصون المدينة وأسوارها ثم رأى أن يقرن إلى العدل الرحمة، فأجاب أهل المدينة إلى الأمان والصلح الذي طلبوا، قيل: إن كنائس المدينة ومنازلها قسمت فاستولى المسلمون على نصفها، وقيل: بل أقيم مسجد على بقعة من أرضها وترك ما سوى ذلك لأهلها كما كان فعاد الذين فروا إلى أنطاكية وقد رضوا أداء الجزية، وأمر أبو عبيدة فأحسنت معاملتهم كما أحسنت معاملة غيرهم في البلاد التي فتحها المسلمون، وقام العدل بينهم على أساس من المساواة الصحيحة وإنصاف الضعيف من القوي.
مع ذلك بقي في نفوسهم من الحفيظة والحقد ما دفعهم إلى الانتقاض والغدر حين سار المسلمون عنهم يريدون حلب، ووجه أبو عبيدة إليهم قوة حصرتهم وأخذت منهم بقرا وغنما وتركت بينهم حامية تكفل إذعانهم، وتحمي مؤخرة الجيش الفاتح، واطمأن أبو عبيدة فسار حتى نزل حاضر حلب فاجتمع له أصناف من عرب هذا الحاضر، صالحهم على الجزية، وأسلم منهم بعد ذلك من أسلم، وقدم أبو عبيدة عياض بن غنم إلى حلب فحاصرها، فلم يلبث أن طلبوا الصلح مع أن حصونهم منيعة، وما مناعة الحصون إذا تضعضعت القلوب وضعفت الهمم وخارت العزائم! وقد رأى أهل حلب ما حل بمن قبلهم ورأوا المقاومة لا ترد هؤلاء الفاتحين الذين لا يهابون الموت، فألقوا بأيديهم ، قيل : إن عياضا قبل ما طلبوا من الأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم، فصالحهم عليه، وأن يدعوا مكانا يقيم المسلمون فيه مسجدهم، وقيل: بل صولحوا على قسمة منازلهم وكنائسهم، وقيل: إن أبا عبيدة دخل حلب فلم يجد بها أحدا ورأى أهلها انتقلوا إلى أنطاكية، فلما تم الصلح رجعوا إليها.
تردد ذكر أنطاكية في هذا الفصل، وقد رأينا من قبل أن هرقل لجأ إليها حين جلا عن حمص بعد فتح دمشق، وسنرى أبو عبيدة الآن يسير إليها فيفتحها، فلا يلبث هرقل بعد فتحها أن يذر الشام كله وأن يرتد إلى القسطنطينية، ثم لا يلبث جبلة بن الأيهم أن ينضم إلى المسلمين وأن يذهب إلى عمر بالمدينة، وليس في ذلك عجب؛ فقد كانت أنطاكية إلى يومئذ عاصمة الإمبراطورية الرومية في الشرق، والمدينة التي تلي فيها مدينة قسطنطين، وكان أباطرة الروم يؤثرونها على الإسكندرية لقربها منهم، ولشعورهم بأنها أوثق ارتباطا بهم من العاصمة المصرية التي يفصلها البحر عنهم، والتي كانت تثور الحين بعد الحين بهم؛ لذلك كانت أنطاكية موضع عنايتهم، فكانوا يقيمون بها من المعابد والعمائر والملاعب ما جعلها تزهى على دمشق وغير دمشق من سائر مدن الشرق، كان ذلك شأنها أيام الوثنية الإغريقية والرومية، ثم كان ذلك شأنها أيام المسيحية، كانت معابد الأوثان تقوم في أرجائها فخمة ضخمة، وقد دكتها الزلازل غير مرة فأعادها الأباطرة أكثر فخامة، وكانت الكنائس المسيحية التي قامت من بعد لا تقل عن تلك المعابد جلالا ومهابة، ذلك أن لأنطاكية سبقا إلى المسيحية تفاخر به؛ فأهلها أول من أطلق عليهم اسم المسيحيين، وبطارقتها يذكرون أن القديس بطرس هو الذي نصر آباءهم، وقد أقام برنابا بينهم وأذاع تعاليمه فيهم، فكان له بالمدينة من التلاميذ والأتباع ما جعلها في العصور المسيحية الأولى مقر نشاط ديني عظيم، ومقام بطريق آسيا، وقد عقدت بها في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي عشرة مجامع كنسية تركت مقرراتها من الأثر في تكوين الفرق المسيحية ما يفصله تاريخ النصرانية، ونشأ عن ذلك أن انفسحت رقعة المدينة في ذلك العهد فبلغ ساكنوها مائة ألف نسمة، وما كانت لتضيق بمعيشة هذا العدد العظيم وموقعها عند مصب الأرنط على بحر الروم يجيء إليها بكل ما يحتاج إليه أهلها محمولا على السفن من مختلف بلاد الإمبراطورية، كما أن موقعها على طريق القوافل المؤدي إلى حلب، والمتفرع من حلب إلى العراق، وإلى آسيا الصغرى، قد جعلها مستقر تجارة عظيمة متصلة بين الشرق والغرب.
ظلت هذه المكانة لأنطاكية إلى عهد عمر، فكانت عنده عظيمة الذكر والأمر، وكان فتحها يعادل في نظره فتح المدائن وفتح بيت المقدس؛ لذلك كان ينتظر أنباء أبي عبيدة عنها بالتلهف الذي كانت ينتظر به أنباء سعد بن أبي وقاص عن القادسية، ولم يكن أبو عبيدة يجهل مناعة أنطاكية بموقعها وقوة حصونها، كما لم يغب عنه أن الروم الذين نجوا بعد هزائمهم في وقائع الشام كلها قد اجتمعوا وعزموا الدفاع عنها، وكانت أنطاكية منيعة حقا، تحيط بها من كل جوانبها أسوار رفيعة سميكة يدهش ارتفاعها ويدهش سمكها، وكانت هذه الأسوار ترتفع أحيانا من أخاديد الوادي الممتد إلى ناحية حلب، وتعلو الجبال المحيطة ببعض نواحي المدينة أحيانا أخرى، حتى ليخيل إلى الناظر إليها أن الجبال أحاطت بها من كل جانب، فلا سبيل إلى اختراقها أو تخطيها. موقع هذه مناعته، وبه من قوات الروم كل من تراجع بعد حروب الشمال بالشام، جدير أن يصد المسلمين عنه، بل أن يصرفهم عن التفكير في منازلته، وكان جديرا بهرقل أن يتحصن به، وأن يجلب إليه عن طريق البحر كل مدد يدفع به عدوه ويغسل به العار الذي لحقه ولحق إمبراطوريته، لكن هرقل لم يفكر في العود من الرهاء إلى أنطاكية، ولا في إمداد المدينة العظيمة بل تركها يسير أبو عبيدة إليها، فيخرج إليه أهلها فيهزمهم في معركة حامية خارج حصونها، ثم يحاصرها من كل جوانبها، فلا تجد مفرا من التسليم له والنزول على حكمه، وصالحهم أبو عبيدة على الجزية والجلاء، ورحل عنهم.
وكأنما كبر على أنطاكية أن تنزل بها هذه الهزيمة النكراء ، فنقض أهلها عهدهم، فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم، فقضى على انتقاضهم، وصالحهم على الصلح الأول، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بما كان من ذلك كله، فكان أمر الخليفة إليه أن يرتب حامية مرابطة بأنطاكية، وألا يؤخر عن رجالها العطاء حتى لا تنتقض المدينة كرة أخرى.
لم يبق بعد أنطاكية إلا أن يطهر المسلمون ما بقي من شمال الشام، وأن يقضوا على كل انتقاض فيه؛ لذلك سار أبو عبيدة إلى حلب حيث اجتمع جيش من الروم كرة أخرى فهزمه وبدد شمله، ثم فتح قورس ومنبج، وبعث خالد بن الوليد ففتح مرعش، بذلك كله اتصل الفتح في الشام بالفرات، وقربت الشقة بين قوات المسلمين فيه وقواتهم في العراق، هذا إلى أن يزيد بن أبي سفيان خرج من دمشق فغزا بيروت ففتحها وفتح الثغور المجاورة لها، وترامت هذه الأنباء كلها إلى هرقل وهو بالرهاء فأيقن أن سورية لم تبق له، وأنها ضاعت منه وانسلخت عن إمبراطوريته.
ماذا عساه يصنع؟ أفيبقى بالرهاء يؤلب أهل الجزيرة ومن جاورهم ليقاوموا، ولعل القدر يبسم لهم بعد عبوسه؟! كلا بل تولاه اليأس وأيقن أفول نجمه؛ لذلك سار من الرهاء قاصدا القسطنطينية، فلما مر بشمشاط كان خالد بن الوليد يسير في بلاد قلقية من مرعش إلى تل أعزاز إلى الدلوك مهددا بذلك رجعته، وفصل هرقل مسرعا من شمشاط فمر في طريقه بشرف علاه وأشرف منه على أرض سورية الجميلة وقال والهم ملء جوانحه: سلام عليك يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولن يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا! وبلغ بزنطية منهد الركن، فألقى بها عصا تسياره دامي القلب كئيبا محسورا.
অজানা পৃষ্ঠা