والوقوع في مثل تلك الأحوال كان محتملا؛ لأن الأمن العام والتجارة قد اختفى أثرهما، «وبالرغم من أن الطرق كانت محروسة فإن الناس كانوا يترصدون في الأدغال حتى يمر السائح الذي دهمه الليل ويسلبوه ما يحمل ويجردوه مما معه بالعصي ويذبح ذبحا شنيعا.» «وفي الحق أن البلاد كانت تدور على عقبها (أي إن نظام الأشياء مقلوب رأسا على عقب) كما تدور عجلة صانع الفخار، فمن كان لصا صار رب ثروة، والغني صار إذ ذاك إنسانا منهوبا.» وهكذا انقلبت أوضاع كل الأشياء، طبقا لما يدل عليه مفهوم تشبيهها بعجلة صانع الفخار، فانهارت الشئون الاجتماعية انهيارا تاما.
وإننا نجد في أطول مجموعة من فقرات تلك الوثيقة - التي أنشئت على وتيرة واحدة - أن ذلك الحكيم يضع أمامنا صور تغير الأحوال بالنسبة لأفراد معينين وطبقات خاصة من المجتمع، فيضاهي في الفقرة الواحدة بين ما كان عليه الماضي وما هو جار في ذلك الوقت؛ إذ نراه يقول: «انظر، إن الذي لم يكن يملك زوجا من الثيران صار الآن صاحب قطيع منها، وذلك الذي كان لا يجد ثورا لحرثه صار الآن يملك قطيعا. انظر، إن الذي لم يكن يملك غلالا صار الآن صاحب مخازن من القمح، وذلك الذي كان يذهب للبحث عن الغلال لنفسه صار هو الآن يخرجها من مخزنه.»
ولا شك أن للانحطاط الخلقي شأنا في ذلك الخراب الشامل الذي حاق بالبلاد، وإن كان لم ينص صراحة على أنه هو السبب الظاهري لذلك البؤس العام؛ إذ نراه يقول: «إن المتحلي بالفضائل يسير وهو محزون لما حدث في البلاد.» ويقول آخرون: «لو كنت أعلم أين يوجد الإله لقدمت له قربانا، وفي الحق أن [العدالة] موجودة في البلاد باسمها فقط، وما يلقاه الناس حينما يلتجئون إليها هو العسف.»
12
فلا عجب إذن من وجود ذلك اليأس الشامل: «وفي الحق أن السرور قد مات ولم نعد نتذوقه بعد، ولا يوجد في الأرض إلا الأنين الممزوج بالحسرات.» «وفي الحق أن كلا من العظيم والحقير صار يقول: ليتني كنت ميتا. ويقول الأطفال الصغار: ليتنا لم يعلنا أحد ومتنا قبل هذا ...! وفي الحق أن قلوب كل القطعان صارت تبكي، والماشية تئن بسبب حالة البلاد.»
على أنه لم يكن في مقدور ذلك الحكيم أن يشاهد كل ذلك دون أن تثور عواطفه، فكان بدوره متأثرا تأثرا عميقا لتلك الكارثة العامة، ويطلب من الله أن يقضي على كل شيء؛ إذ يقول: «ليت الناس يفنون، فلا يحدث حمل ولا ولادة، وليت البلاد تخلو من الغوغاء حتى يقضى على الشجار.» وكان ذلك الحكيم يقرع نفسه؛ لأنه لم يسع من جهته لإنقاذ ذلك الموقف من قبل؛ إذ يقول أيضا: «ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن، فالويل لي؛ لأن البؤس عم في هذا الزمان.»
تلك هي الصورة القاتمة التي صورها لنا ذلك الحكيم المصري القديم، ويجب أن نعتبر تلك الشكاية، التي سبق أن قلنا إنها تشغل ثلثي الوثيقة كما حفظت لنا، أنها وصفت الحالة عند قدماء المصريين في عهد معين، على أن العلاقة الوثيقة التي بين ذلك المقال والمقالات الأخرى التي من ذلك العهد الإقطاعي، من حيث اللغة والفكر ووجهة النظر، لا تدع للشك مجالا في تحديد تاريخ عهدها بالضبط، ولا شك أن حالة مصر السيئة التي صورها لنا ذلك الحكيم هي ظواهر الحالة التي أعقبت انهيار نظام الحكومة والاعتداء على البلاد الذي جاء إثر سقوط الدولة القديمة؛ أي في نهاية عصر الأهرام، وانحلال الاتحاد الثاني.
ولأن «إبور» كان في شدة التأثر لتلك الحال الموئسة التي صورها، لم يشأ أن يتخلى عن أهل الجيل الذي عاش فيه، بل عمد في النهاية - كما كان منتظرا - إلى تبين السبب الذي يدعو إلى الأمل. ومع أنه تصادفنا عند الوصول إلى هذه النقطة فجوة كبيرة في تلك البردية، فإننا نجد في النهاية أهم فقرة في جميع مقال ذلك الحكيم، وهي تعتبر من أروع ما دون في كل الأدب المصري القديم.
ففي هذه الفقرة العظيمة يتطلع ذلك الحكيم إلى المستقبل، متوقعا إعادة البلاد إلى سيرتها الأولى، وذلك في نظره بلا نزاع نتيجة طبيعية للنصائح الإصلاحية التي كان قد فرغ من غرسها في قلوب مواطنيه، فهو يرى الحاكم الأمثل الذي يتوق إلى قدومه، وهذا الملك المثالي الذي قد حكم مصر في يوم من الأيام باسم إله الشمس «رع».
ولما كان ذلك الحكيم يرى في سلطته المقدسة العصر الذهبي، فإنه يوازن بينه وبين الحكم الغاشم الذي ترزح تحت عبئه البلاد في عصره، فنراه يقول: «فهو يطفئ لهيب (الحريق الاجتماعي)، ويقال عنه إنه راعي كل الناس،
অজানা পৃষ্ঠা