مقدمة المعرب
تمهيد
مقدمة
إيضاح
1 - الأساس والماضي الجديد
2 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
3 - إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
4 - العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
5 - متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
6 - المذهب الشمسي والآخرة السماوية
অজানা পৃষ্ঠা
7 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
8 - نور الشمس والخضرة
9 - السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
10 - انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
11 - الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
12 - أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
13 - إقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر
14 - الحساب في الآخرة والسحر
15 - السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد
16 - سقوط «إخناتون»
অজানা পৃষ্ঠা
17 - مصادر إرثنا الخلقي
الخاتمة
الصور والأشكال
مقدمة المعرب
تمهيد
مقدمة
إيضاح
1 - الأساس والماضي الجديد
2 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
3 - إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
অজানা পৃষ্ঠা
4 - العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
5 - متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
6 - المذهب الشمسي والآخرة السماوية
7 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
8 - نور الشمس والخضرة
9 - السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
10 - انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
11 - الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
12 - أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
13 - إقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر
অজানা পৃষ্ঠা
14 - الحساب في الآخرة والسحر
15 - السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد
16 - سقوط «إخناتون»
17 - مصادر إرثنا الخلقي
الخاتمة
الصور والأشكال
فجر الضمير
فجر الضمير
تأليف
جيمس هنري برستد
অজানা পৃষ্ঠা
ترجمة
سليم حسن
يعترف بفضل الرجل الذي يتخذ العدالة نبراسا له، فينهج نهجها.
من أقوال الوزير الأكبر «بتاح حتب» المنفي الأصل في القرن السابع والعشرين ق.م
إن فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور الرجل الظالم (أي من قربان الرجل الظالم).
من النصيحة الموجهة للأمير «مريكارع» من والده فرعون أهناسي الأصل عاش في القرن الثالث والعشرين ق.م
إن العدالة خالدة الذكرى، فهي تنزل مع من يقيمها إلى القبر ... ولكن اسمه لا يمحى من الأرض، بل يذكر على مر السنين بسبب العدل.
من قصة الفلاح الفصيح الأهناسي الذي عاش في القرن الثالث والعشرين ق.م
إن فضيلة الرجل هي أثره، ولكن الرجل السيئ الذكر منسي.
من شاهد قبر مصري عاش حوالي القرن الثاني والعشرين ق.م
অজানা পৃষ্ঠা
قد يفرح أهل زمان الإنسان وقد يعمل ابن الإنسان على تخليد اسمه أبد الآبدين ... إن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض.
من أقوال «نفرروهو» وهو نبي مصري عاش حوالي عام 2000ق.م
يا آمون أنت أيها الينبوع العذب الذي يروي الظمأ في الصحراء، إنه لينبوع موصد لمن يتكلم ومفتوح لمن يتذرع بالصمت، فإنه حينما يأتي الصامت، تأمل! فإنه هنالك يجد الينبوع.
عن حكيم مصري قديم عاش حوالي 1000ق.م
مقدمة المعرب
مثل الباحث في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، كمثل السائح الذي يجتاز مفازة مترامية الأطراف، يتخللها بعض وديان ذات عيون تتفجر المياه من خلالها، وتلك الوديان تقع على مسافات في أرجاء تلك المفازة الشاسعة، ومن عيونها المتفجرة يطفئ ذلك السائح غلته ويتفيأ في ظلال واديها؛ فهو يقطع الميل تلو الميل عدة أيام، ولا يصادف في طريقه إلا الرمال القاحلة والصحارى المالحة، على أنه قد يعترضه الفينة بعد الفينة بعض الكلأ الذي تخلف عن جود السماء بمائها في فترات متباعدة، وهكذا يسير هذا السائح ولا زاد معه ولا ماء إلا ما حمله من آخر عين غادرها، إلى أن يستقر به المطاف في واد خصيب آخر، وهناك ينعم مرة أخرى بالماء والزاد. وهذه هي نفس حال المؤرخ الذي يؤلف تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فالمصادر الأصلية لديه ضئيلة سقيمة جدا لا تتصل حلقات حوادثها بعضها ببعض، فإذا أتيح له أن يعرف شيئا عن ناحية من عصر معين من مجاهل ذلك التاريخ؛ فإن النواحي الأخرى لنفس ذلك العصر قد تستعصي عليه، وقد تكون أبوابها موصدة في وجهه؛ لأن أخبار تلك النواحي قد اختفت إلى الأبد، أو لأن أسرارها لا تزال دفينة تحت تربة مصر لم يكشف عنها بعد.
فالمؤرخ في مثل هذا الموقف الحرج، لا يجد مندوحة من أن يصول ويجول ويشفي غلته بما لديه من المعلومات عن الناحية المعروفة، ثم يمر مر الكرام بالنواحي المجهولة له، وقد يستعين أحيانا بما لديه من قوة الخيال، وما فطر عليه من تجارب على ملء ذلك الفراغ المقفر الذي يعترضه في طريقه، وهو في ذلك لا يأمن شر العثار، وبخاصة إذا تغالى في إرخاء العنان لخياله الخصب. ثم نرى هذا المؤرخ بعد التقدم في سيره في تلك الفجوة المقفرة، يستقر به المقام كرة أخرى في واد آخر تتفجر عيونه بالمعلومات الممتعة، فيتحفنا بها بقدر ما يجود به ماء ذلك الوادي، وهكذا يتابع المؤرخ السير من واد خصيب إلى واد غير ذي زرع، حتى يصل إلى نهاية المطاف.
على أنه عندما يتصفح مثل هذا المؤلف أحد المؤرخين المحدثين، أو الذين لم يجربوا الكتابة في التاريخ القديم وما فيه من فجوات كبيرة، لا يسعه إلا أن يكيل اللوم جزافا للمؤرخ القديم ويصب عليه جام انتقاداته، ويرميه بالتقصير في بعض المواضيع وفي التطويل في غيرها، وما شابه ذلك من الانتقادات التي يجب أن توجه بحق لمؤرخ التاريخ الحديث الذي لا عذر له في التقصير عن إيفائها حقها.
والواقع أننا لا نبالغ إذا قررنا أن المؤرخ الذي يؤلف في التاريخ القديم، يشبه من كان على سفر ليلا في مركبة بخارية تشق به المسافات الشاسعة في ظلمة حالكة يتخللها بعض أقباس ضئيلة من النور هنا وهناك، إلى أن يصل المسافر إلى محط مضاء بالأنوار الساطعة، فيستيقظ على ضوئه ويرى ما حوله من أناس ومبان وسلع، وبعد أن يقضي لحظة بها يتابع سيره ثانية في ظلمة حالكة إلى أن يصل إلى محط آخر، وهكذا حتى يلقي عصا تطوافه، فهذه الظلمة هي مجاهل التاريخ القديم، وتلك المحاط هي المعلومات التي جاء بها الزمن، وأبقى عليها الدهر.
وخلاصة القول: أن المؤرخ في التاريخ القديم، لا يستطيع أن يكتب كتابا متصلة أفكاره بعضها ببعض تمام الاتصال في تاريخ أية بلدة قديمة قد ضاعت معظم آثارها، أو كانت لا تزال دفينة تحت تربتها لم يكشف عنها بعد. وتنحصر براعة المؤرخ الذي يتصدى لكتابة تاريخ دولة قديمة في سعة اطلاعه وقوة خياله ، وقدرته على استنباط الحوادث العظيمة وربطها بما لديه من المعلومات الضئيلة الهزيلة التي أبقت عليها يد الدهر، فهو بتلك المقدرة يمكنه أن يتغلب على الفجوات التي تعترض سيره.
অজানা পৃষ্ঠা
ولست مبالغا إذا قررت هنا أن خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر من ذلك الطراز هو كتاب «فجر الضمير» الذي وضعه الأستاذ «برستد» في عام 1934، وهو في الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ الأستاذ «برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد. فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ «برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. على أن هذا الرأي لا يزال يعتنقه بعض من لم يقرأ كتاب «برستد» إلى الآن، وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، هي مصرنا العزيزة.
لذلك يخيل إلي أن «مصطفى كامل» حينما قال: «لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا» كان يحس في أعماق قلبه وفي دمه ما سيظهره الأستاذ «برستد» للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقدم السابقة، في تكوين ثقافة العالم، وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي شع على جميع العالم. ولا غرابة في إحساس «مصطفى كامل» بهذا الشعور، وبتلك العزة القومية والعظمة النفسية التي عزز صدقها «برستد» عام 1934، وهو العام الذي ظهر فيه كتابه «فجر الضمير»؛ فإن البلاد العريقة في المجد كالشجرة المباركة الطيبة، تؤتي أكلها كل حين، وتنبت بين آونة وأخرى أفذاذا تجري في دمائهم قوة العزة القومية والمجد التليد؛ فيشعرون بعظمة بلادهم، وما كان لها من تاريخ مجيد ، فتنطلق ألسنتهم معبرة عن ذلك بالإلهام المحض.
والعظيم يقدر العظيم؛ فالأستاذ «برستد» قد شغف في بادئ حياته بدرس تاريخ الشرق القديم عامة، ولكن لما اشتد ساعده مال بكل نفسه وروحه لدرس تاريخ مصر وحضارتها، وأنفق في سبيل الوصول إلى معرفة مكانة مصر بين دول العالم القديم ما يربي على ألف ألف جنيه، جمعها من رجالات أمريكا الذين يشجعون العلم والبحوث القديمة. وقد انتهى به البحث بعد درس حضارات الأمم الشرقية القديمة كلها؛ إلى أن مصر أصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبيئة الأولى التي نمت فيها الأخلاق؛ فهو إذن رجل عظيم كشف عن ماضي أمة عظيمة.
ولعمري لقد قضى الأستاذ «برستد» بكتابه «فجر الضمير» على الخرافات والترهات التي كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر - كما ذكرنا آنفا - هي التي أخذ عنها العالم حضارته عن طريق فلسطين التي ليس لها فضل في ذلك سوى أنها كانت نقطة الاتصال بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية.
على أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلى أوروبا مشوهة بعض الشيء، ثم صقلها الأوروبيون بطورهم حسب أمزجتهم وألبسوها ثوبا جديدا كل نسجه من خيوط المدنية المصرية، فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسج على منواله الكتاب الأوروبيون قديما وحديثا، يرجع في عنصره إلى أصل مصري قديم. كل ذلك قد شرحه الأستاذ «برستد» شرحا فياضا مستفيضا تدعمه الوثائق الأصلية القديمة مما لا يترك مجالا لأي ناقد يفهم الحقائق على وجهها الصحيح ولا يتعصب إلى فريق دون فريق.
إن الذي يتصفح كتاب الأستاذ «برستد»، وبخاصة الفصل الأول منه، يلحظ لأول وهلة أنه يريد أن يلفت نظر العالم إلى أهمية ضرورة البحث والتنقيب عن تاريخ الشرق القديم ووضعه أمام أعين العالم وتدوينه بصورة واضحة، حتى يكون وسيلة لمعرفة أصل الحضارة الحديثة. وفي الحق قد أفلح الأستاذ «برستد» فلاحا منقطع النظير بقدر ما وصلت إليه معلوماته في تجديد الماضي القديم وجعله حيا أمامنا يتكلم ويناقش، وسيجد القارئ أن الأستاذ هو أول من قسم تاريخ الإنسانية عصرين بارزين؛ الأول عصر كفاح الإنسان مع المادة والقوى الطبيعية والتغلب عليها نهائيا، والعصر الثاني هو عصر الكفاح بينه وبين نفسه الباطنة، وذلك حينما أخذ ضميره يبزغ وأخلاقه تتكون، ويقدر «برستد» زمن كفاحه المادي بنحو مليون سنة، أما عصر بزوغ ضميره فقد بدأ يحس به منذ أن عرف كيف يدون أفكاره بالكتابة، ويقدر عمره بنحو 5000 سنة تقريبا. ويعتقد الأستاذ «برستد» أننا لا نزال في مستهل عصر تكوين أخلاقنا، وأننا ما زلنا على أبواب مملكتها الشاسعة المترامية الأطراف، التي لم نرد مجالها بعد، وأنه بيننا وبين الوصول إلى نهاية حدود تلك المملكة أهوال ومصاعب شاقة ربما استغرق التغلب عليها مئات الآلاف من السنين، ويعني بذلك الوقت الذي يصل الإنسان فيه إلى التحلي بالمثل العليا من الأخلاق، ويقلع عن المادة وما يجلبه حب الاستحواذ عليها من المشاحنات والحروب والأحقاد التي يغلي مرجلها في كل نواحي العالم ولا يزال يشتد غليانه الآن.
ولعمري إذا سما الإنسان إلى تلك المرتبة المنشودة، فإن أرضنا تكون الجنة التي وعد بها المتقون، ولكن أنى للإنسان أن يصل إلى تلك المرتبة، ونحن كلما تقدمنا خطوة نحو الأخلاق الفاضلة رجعناها ثانية، بل تقهقرنا إلى ما وراءها! وهل نحلم بأن ننتقل إلى تلك المنزلة العالية التي تلحقنا بالملائكة ونحن لا نزال نتفنن في إجادة آلات القتل والفتك والتدمير؟ والواقع أن العالم الآن في درك خلقي مشين ونشاط مادي قتال، وأن أخلاقنا تنجذب بقوة نحو المادة والوحشية حتى ارتمت في أحضانهما، وسيبقى الحال كذلك إلى أن يتيح الله للعالم من يطفئ تغلغل نار المادة في قلوب الشعوب، ويمطرنا من فيضه سيلا من الأخلاق الفاضلة يسير بالعالم ويتقدم به في مجاهل مملكة الأخلاق والضمير الحي إلى أن يصل به إلى الغاية المنشودة.
ولا إخال القارئ الكريم بعد هذه المقدمة الطويلة إلا قد فهم القصد الذي من أجله ترجمت كتاب الأستاذ «برستد» هذا، وفضلا عما بينت من مناقب هذا الكتاب فإنه لو رزقني الله علم الأستاذ «برستد» وطول خبرته بدراسة أمم الشرق القديمة عامة، ودراسة آثار مصر خاصة، لما كان في وسعي أن أدون خيرا من هذا الكتاب في فصاحته وبيانه وانسجام عباراته وقوة منطقه وأخذه بتلابيب القارئ، حتى ليجعل مجاهل التاريخ المصري القديم المقفر من المعلومات كأنها رياض وحدائق غناء لا تسأم النفس قراءته، ولا يمل النظر تصفح فصوله.
وإذا قدر وكانت لي تلك الهبات العظيمة التي وهبها الله الأستاذ «برستد» في إخراج كتابه بما فيه من فصاحة وبيان وحسن تعبير وعلم فياض، فإني قد أتهم بمحاباة بلادي، ويكون كتابي لذلك موضع ريبة وشك عند جمهرة العلماء عامة ومن لا يميلون للمصرية أو يتنصلون منها خاصة؛ لأنه أتى على لسان من يحب بلاده فينسب إليها ما يرفع قدرها تعصبا منه ومحاباة وإشادة بذكرها وتغاليا في إعلاء شأنها. من أجل ذلك اعتقدت في قرارة نفسي أن أكبر خدمة أقدمها لوطني العزيز أن أترجم كتاب «فجر الضمير» للأستاذ «برستد» إلى لغتنا العربية، وأنا على علم بما سألاقيه من مشقة وجهد في إبرازه في ثوب عربي مقبول لا أخرج فيه عن الأصل الإنجليزي في معناه وثوبه الفلسفي.
وقد ساعدني على حل غوامض بعض فقرات هذا الكتاب وجم غفير من تعبيراته العويصة الملغزة دراساتي المصرية القديمة التي بدونها ما استطعت أن أصل إلى ترجمة هذا الكتاب، ولا يفوتني هنا أن ألفت النظر إلى أن القارئ الكريم إذا أراد أن يقرن بين الأصل الإنجليزي والترجمة العربية فإنه سيجد أحيانا بعض الفوارق الدقيقة قد حتمتها الفروق بين التعبير في اللغتين، أو قد يكون منشؤها أن الأستاذ «برستد» يشير إلى حوادث وأشخاص تاريخية لا يفهم كنهها إلا من له دراية بالآثار المصرية خاصة والآثار الشرقية القديمة عامة، ولقد حرصت دائما على شرح تلك الأشياء الغامضة في هوامش طويلة أو قصيرة حسب المقام.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي ختام هذه المقدمة أحب أن أذكر أن الأستاذ «برستد» قد قال في مقدمة كتابه:
إنه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرءوا هذا الكتاب الذي يبحث في تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير في العالم المصري.
لذلك رأيت أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربي أن يقرءوا هذا الكتاب فإنه يكون من ألزم الواجبات على كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه؛ لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده التي أخذ عنها كل العالم.
وإني أرجو في النهاية أن أكون قد قمت ببعض ما يجب علي نحو بلادي، كما أرجو أن يهتم كل مصري يحترم نفسه ويقدر منزلة بلاده بقراءة هذا الكتاب؛ لعل في ذلك باعثا لإحياء الماضي المجيد الذي لا يزال العالم الغربي يرد مناهله ويسير على هداه منذ أقدم عهده حتى يومنا هذا دون أن يشعر أحد منا بذلك حتى أبرزه لنا الأستاذ «برستد» في «فجر الضمير»، أو كما أسميه «مصر أصل مدنيات العالم».
سليم حسن
يناير سنة 1956
تمهيد
لقد أصبح من الآراء العامة المؤسفة الشائعة بين أبناء الجيل الذي أعقب الحرب العالمية، أن الإنسان لم يتورع يوما ما عن استعمال قوته الآلية المتزايدة من الفتك بأبناء جنسه، وقد برهنت الحرب العالمية على إمكان وصول قدرة الإنسان الميكانيكية الهائلة على القيام بأعمال التخريب إلى حد مروع، فليست هناك إذن إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير: هي الضمير الإنساني. وهو شيء اعتاد نشء الجيل الحديث أن يعده مجموعة محددة من الوساوس البالية؛ إذ كل فرد يعلم أن قوة الإنسان الآلية المدهشة ليست إلا نتاج تطور طويل، ولكن لسنا كلنا ندرك أن هذه الحقيقة نفسها تنطبق كذلك على القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير، مع التسليم بفارق واحد هام بينهما وهو: أن الإنسان بصفته أقدم المخلوقات صنعا للآلات، كان مجدا في صنع أسلحة فتاكة منذ نحو مليون سنة، في حين أن الضمير لم يبرز في شكل قوة اجتماعية إلا منذ مدة لا تزيد على خمسة آلاف سنة؛ أي إن أحد التطورين قد سبق الآخر بشوط بعيد؛ فأحدهما عتيق، والآخر وليد عهد قريب لا يزال أمامه ممكنات لا حصر لها. أليس في مقدورنا أن نعمل بجد لإنماء هذا الضمير الحديث الميلاد حتى يصير مظهرا من مظاهر حسن النية، ويصبح من القوة بحيث يخمد أنفاس القوة الوحشية الباقية في نفوسنا؟ إن القيام بهذا الواجب يكون بالطبع أقل صعوبة بكثير مما عاناه أجدادنا المتوحشون في هذا المضمار؛ لأنهم خلقوا ضميرا في عالم لم يكن فيه أول الأمر أي شعور بالضمير.
إن أعظم ظاهرة أساسية في تقدم حياة الإنسان هو نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر «الأخلاق»، وهو تحول في حياة الإنسان، يدلنا التاريخ على أنه وليد الأمس فقط، وقد يكون من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في زوايا الإهمال لاستخفافنا بها، وبخاصة في هذا الوقت الذي أصبح فيه الجيل الحديث ينبذ الأخلاق الموروثة ظهريا. ولكي نتمثل صورة حقة لقيمة الأخلاق الفاضلة وتأثيرها في الحياة الإنسانية يجب أن نجتهد في الكشف عن الطريقة التي وصل بها الإنسان للمرة الأولى إلى إدراك الأخلاق وتقدير قيمتها.
فحينما نلقي بنظرنا إلى الوراء في بداية وجود بني البشر ينكشف لنا في الحال أن الإنسان قد بدأ حياته متوحشا مجردا من الأخلاق، فكيف أصبح في وقت ما صاحب وازع خلقي؟ وكيف خضع في النهاية للوازع الخلقي عندما أحس به وتلقى وحيه؟ وكيف ينهض عالم خال من أي تصور للأخلاق إلى التمسك بالمثل الاجتماعية، ويتعلم أن يستمع باحترام إلى الأصوات الباطنة المنبعثة من قرارة نفسه؟ وكيف أنه رغم الفوائد الظاهرة الملموسة التي تفيدها الفتوح المادية ظهر الجيل الأول من الناس مدركين القيم الباطنة التي لا ترى؟ ولماذا لا يكون من واجب شباب اليوم رجالا ونساء أن ينبذوا المبادئ الأخلاقية الموروثة عن الماضي باعتبارها مبادئ؛ تلك المبادئ التي لا نعرف أي شيء عن أصلها؟
অজানা পৃষ্ঠা
فالوثائق القديمة التي تمدنا بالجواب على هذه الأسئلة، وتكشف لنا عن أصول مثلنا الوراثية، قد عرضناها في هذا الكتاب مترجمة ومصحوبة بتعليقات وشروح تجعلها سهلة الفهم، إلى حد لا بأس به . والواقع أن هذه الوثائق تكشف لنا عن فجر الضمير ونشوء أقدم مثل للسلوك، وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق، وهو تطور لا تنحصر أهميته في كونه خلابا لمن يتتبعه خطوة فخطوة، بل لأنه يعد فضلا عن ذلك رؤيا جديدة للأمل في مثل زماننا هذا. وبعض هذه المصادر القديمة عبارة عن قصص شرقية مشوقة قد تجعل القارئ يتنقل في أرجائها براحة وبهجة وغبطة، وبعضها الآخر مصادر لا يمكن تناولها ولا هضمها بسهولة، فإذا كان القارئ الناشئ الذي وضع هذا الكتاب من أجله خاصة يجد نفسه متعثرا في سيره في تفهم هذه الأصول الأخيرة، ويجنح إلى التخلي عن متابعتها، فإني أقترح عليه أن يقرأ على الأقل الخاتمة التي قصد بها أن تضع التقدم الإنساني المدهش من حالة الوحشية إلى عصر الأخلاق - كما يظهر في هذا الكتاب - في موضعه الصحيح، وعلى أساسه التاريخي المناسب.
لقد حفظت في طفولتي مثل إخواني من الصبية «الوصايا العشر»، وعلمت أن أحترمها؛ لأنه أكد لي أنها أنزلت من السماوات على «موسى»، وأن اتباعها كان من أجل ذلك لزاما علي، وإني أذكر أنني كلما كذبت كنت أجد لنفسي سلوة في أنه لا توجد وصية تقول: «يجب عليك ألا تكذب»، وإن الوصايا العشر لا تحرم الكذب إلا في شهادة الزور فقط؛ أي عندما يؤدي الإنسان شهادة أمام المحاكم يمكن أن تضر بجاره. ولما اشتد ساعدي بدأت أشعر في نفسي بشيء من القلق، وأخذت أحس بأن قانون الأخلاق الذي لا يحرم الكذب هو قانون ناقص، وبقيت هذه الفكرة تجول بخلدي زمنا طويلا قبل أن أضع لنفسي السؤال الهام التالي: كيف ظهر في نفسي الشعور بهذا النقص؟ ومن أين حصلت بنفسي على المقياس الخلقي الذي كشفت به عن هذا النقص في الوصايا العشر؟ ولقد كان يوما أسود على احترامي الموروث للعقيدة الدينية القائلة «بنزول الوحي» حينما بدأت عندي تلك التجربة النفسية، بل قد ظهرت أمامي تجارب أشد إقلاقا لنفسي؛ وذلك عندما كشفت وأنا مستشرق مبتدئ أن المصريين كان لهم مقياس خلقي أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب تلك الوصايا بألف سنة.
على أن أمثال هذه التجارب الشخصية قد أصبحت الآن في مخيلتي من الذكريات الضعيفة كلما التفت إلى الوراء ناظرا إليها بعد أن قضيت أكثر من أربعين عاما في البحث محاولا تحديد الأدلة التي وصلت إلينا بين الآثار القديمة الشرقية عن هذه المسألة الأساسية الخاصة بأصل الأخلاق. وعندما تقدمت في هذه البحوث، ازداد اقتناعي بأن نتائج تلك البحوث ستصبح سهلة التناول لأي قارئ عادي، وأن الجيل الحالي من الشباب الذين قد يشغل بالهم بمثل تلك المسائل الأساسية كما حدث لي، يجب أن يكون في متناولهم وسيلة للتثبت من هذه الحقائق.
ولقد وضعت من وقت لآخر موجزات تاريخية عن ارتقاء حياة الإنسان المبكرة قبل ظهور أوروبا المتحضرة، وبخاصة عن الحقائق التي استقيتها من الآثار المصرية، ففي عام 1912 وضعت بعض هذه النتائج في صورة كتاب تاريخ للمدارس الأمريكية، ثم قدمت في نفس العام بحثا أنضج من سابقه عن التطور الأخلاقي والديني عند الإنسان القديم، إلى طلاب اتحاد المعهد الديني في محاضرات «مورس»
Morse Lectures
ثم إلى طلبة جامعة كورنل
Cornell university
في أبحاث تحضيرية عرفت بمحاضرات «مسنجر»
Messenger Lectures
تحت رعاية مؤسسة جديدة خصصت للبحث في «التطور» أسسها الدكتور «مسنجر». من هاتين السلسلتين من المحاضرات طبعت «محاضرات مورس» في ذلك الوقت.
অজানা পৃষ্ঠা
وأخيرا أخذ المؤلف على عاتقه في كلية برين نور
Bryn Nawr College
في سلسلة دروس تمهيدية تحت رعاية مؤسسة محاضرات ماري فلكستر الجديدة بأن يقدم صورة أوسع من الصور السابقة عن الموضوع كله، غير أنها لم تطبع قط مثلها في ذلك مثل محاضرات «مسنجر» في «كورنل». ويجد القارئ في هذا الكتاب بعض النتائج الأساسية المستخلصة من تلك المحاضرات وبعض متون محاضرات «مورس» نفسها بدون نص على الاقتباس. وإني مدين هنا بالشكر دينا عظيما للدكتور إديث ويليمز وير
Edith Williams Ware
لما قام به من المساعدة في ترتيب تلك المواد القديمة، وفي وضع التصميم الإيضاحي، وفي تحضير الفهرس وقراءة تجارب الطبع وغير ذلك.
وقد سجل المؤلف اعتقاده من زمن يرجع إلى عام 1912 في محاضرات «مورس» أن مجموعة من ورق البردي المصري ألفت في العهد الإقطاعي حوالي 2000ق.م، تدل محتوياتها على أنها أكثر من إنتاج أدبي مزخرف الألفاظ، مخالفا في ذلك الفكرة التي كانت سائدة عن تلك الأوراق عند جمهرة علماء الآثار حتى ذلك الوقت. ويرى المؤلف أن هذه المقالات تحوي في ثناياها آراء اجتماعية تعتبر أقدم بحوث معروفة في الاجتماع كتبها مؤلفوها الأقدمون لتكون حملة دعاية لأول جهاد مقدس في سبيل العدالة الاجتماعية؛ ولذلك يعد مؤلفوها أول المصلحين الاجتماعيين. وقد قضى المؤلف أكثر من عشرين عاما في تأمل هذه الوثائق، فلم يزده ذلك إلا تثبتا من صدق رأيه، وأن قبول هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المذكورة إنما هو بالنسبة لنظرية تطور المدنية المصرية مثل العمل الذي قام به منذ عهد بعيد النقاد المؤرخون المستنيرون الذين يطلق عليهم نقاد دار الكتاب المقدس في سبيل تطور الحضارة العبرانية، مع فارق واحد هو أنه في خدمة قضية تطور الحضارة العبرانية كان النقد التاريخي يسير ببطء نحو فهم وقبول هذه التصوير والتفسير الاجتماعيين.
ولقد كان الحال كذلك في تصوير المؤلف للتطور الاجتماعي في الديانة والمبادئ الأخلاقية بمصر القديمة، وبخاصة ما كان أساسه أوراق بردي العهد الإقطاعي السالفة الذكر. وعلى كل حال فإن تفسير المؤلف لما تقدم قد وجد صدرا رحبا في فرنسا؛ إذ قبل هذا التفسير واستعمله صديقه المأسوف عليه «جورج بنديت» أمين متحف اللوفر وعضو معهد فرنسا، وكذلك سار على نهجه وأتقن التعقيب عليه «إسكندر موريه» خلف «مسبرو» في كلية فرنسا وخلف «بنديت» في معهد فرنسا. ومما لا يتطرق إليه الشك أن هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المصرية وتصوير الديانة المصرية تصويرا اجتماعيا بجعلها أقدم مصدر عرف حتى الآن عن تطور الأخلاق والمثل الاجتماعية، سينال ذلك القبول العام الذي ناله نظيره في تفسير التاريخ العبري.
ومنذ إلقاء المحاضرات التي نوهنا عنها فيما سلف كشف عن وثائق أثرية جديدة (وخاصة في مصر) لم تزد فقط في معلوماتنا زيادة ملموسة، بل إنها أثبتت لنا كذلك أهمية أوراق البردي الاجتماعية التي ترجع إلى العهد الإقطاعي. وقد كان أعظم كشف جاوز حد المألوف في هذه الناحية هو أننا عرفنا أن حكمة «أمينموبي» التي حفظت لنا في ورقة مصرية بالمتحف البريطاني، قد ترجمت إلى العبرية في الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها في فلسطين صارت مصدرا استقى منه جزء بأكمله من كتاب الأمثال في التوراة.
فكم من قس حديث طلب إليه أن يعظ جماعة من رجال الأعمال قد قوى موعظته باقتباسه العبارة التالية من كتاب الأمثال: «هل ترى رجلا جادا في التجارة، إنه سيحظى بالمثول أمام الملوك؟» على أنه ليس من المحتمل أن أي قس من هؤلاء قد مهد لعظته بملاحظة تدل على أن ما اقتبسه قد نقله ناشر الأمثال العبرية عن كتاب مصري في الحكمة الخلقية أقدم من التوراة بكثير. لقد أضاف هذا الكشف أهمية بعيدة المدى إلى الحقيقة القائلة بأن التقدم الحضاري في الممالك التي تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبري، ولقد أصبح الآن من الواضح الجلي أن التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري الذي نسميه نحن «التوارة». وعلى ذلك فإن إرثنا الخلقي مشتق من ماض إنساني واسع المدى أقدم بدرجة عظيمة من ماضي العبرانيين، وأن هذا الإرث لم ينحدر إلينا من العبرانيين، بل جاء عن طريقهم. والواقع أن نهوض الإنسان إلى المثل الاجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما يسميه رجال اللاهوت بعصر الوحي بزمن طويل، وأن هذا النهوض نتيجة للخبرة الاجتماعية التي مارسها الإنسان نفسه، ولم يزج إلى هذا العالم من الخارج.
إن الحقيقة القائلة بأن أفكار الإنسان الأول الخلقية أتت نتيجة لخبرته الاجتماعية الشخصية تعد من أعمق المعاني لرجال الفكر في عصرنا؛ فالإنسان قد نهض إلى مرئيات الأخلاق من وحشية عصر ما قبل التاريخ على أساس تجاربه الشخصية، فإن ذلك العمل العظيم الذي أوجد على كرتنا الأرضية تلك الحياة المستمرة الرقي، سواء أكان ذلك في حياة الإنسان أم في حياة الحيوان، كان عمل انتقال من عالم يجهل الأخلاق إلى دنيا ذات قيم باطنة تسمو على المادة؛ أي إلى دنيا تشعر لأول مرة بمثل تلك القيم، ولأول مرة تحس بالأخلاق وتسعى للوصول إليها. وبهذا العمل العظيم وصل الإنسان إلى الكشف عن مملكة جديدة لم يرد مجاهلها بعد. على أن الكشف عنها في حد ذاته كان أصعب منالا بالنسبة إلى ارتياد مجاهلها المقبل، ويعد هذا الكشف حادثا قريب العهد، أما ارتياد تلك المملكة فإن الإنسان لا يزال في بدايته. فهو إذن منهاج لم يتم قطع مراحله بعد، ويجب أن تستمر فيه على يد كل جيل مقبل.
অজানা পৃষ্ঠা
وعلى ذلك فإن ما نحتاج إليه نحن أبناء الجيل الحاضر أكثر من أي شيء آخر هو الثقة في الإنسان، وإني أعتقد أن قصة نهوضه تعتبر قاعدة لا مثيل لها للثقة التامة به. ويعد الكشف عن الأخلاق أسمى عمل تم على يد الإنسان من بين كل الفتوح التي جعلت نهوضه في حيز الإمكان. وقد انبثق عصر فجر الضمير والأخلاق على العالم دون أن يزج به من العالم الخارجي عن طريق منهاج خفي يسمى الإلهام أو الوحي، بل كان منشؤه حياة الإنسان نفسه، ويرجع ذلك الانبثاق إلى مدة ألفي سنة قبل بداية عصر وحي رجال اللاهوت، فأضاء ظلمة الحيرة الاجتماعية، والكفاح الباطني في نفس الإنسان، فكان بذلك دليلا قاطعا على قيمة الإنسان. ومهما قيل إن نورا سماويا ساقته القدرة الإلهية على فلسطين خاصة فإن ذلك لم يحرم الإنسان من التحلي بتاج فخار حياته الذي ناله على الأرض؛ وأعني بذلك التاج كشفه للأخلاق، فإنه يعد على ما نعلم أعظم كشف حدث في مجال حياة التطور البشري.
وقد حددت الآن مكانة العبرانيين في هذا التطور من الوجهة التاريخية، وسيحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يجعل تلك المكانة أكثر وضوحا وجلاء.
ولهذه المناسبة يهم المؤلف أن يسترعي الأنظار إلى أمر واقع؛ وهو اهتمامه طول حياته بالدراسات العبرية ؛ فقد درس اللغة العبرية سنين عدة لفصول جامعية، ويوجد الآن من بين تلاميذه كثيرون ممن أصبحوا ربانيين (حاخامات)، وله من يهود الجيل الحاضر أصدقاء كثيرون من ذوي المكانة العالمية في المجتمع. لقد اعتمدنا في تدوين الآراء الخاصة بمكانة الحضارة العبرانية في التاريخ على استنباطات سليمة استنبطت من الوثائق القديمة؛ ولذلك نرى من الحكمة أن نشير هنا، وبخاصة في عصر لا يزال يوجد فيه بكل أسف شيء من التعصب ضد الجنس السامي، إلى أن هذا الكتاب قد ألف بروح خالية من كل شعور مضاد للساميين، بل على العكس من ذلك، قد كان إعجاب المؤلف بالأدب اليهودي الذي أخذ في دراسته منذ صغره عاملا مؤثرا في نفسه لدرجة أن حكمه عليه كان دائما تحت تأثير عامل المحبة دون أي عامل آخر.
إن في تاريخ الحضارة العبرانية القديمة دليلا ساطعا على تقدم الحياة البشرية، وعلى رقي الإنسان نحو مرئيات جديدة من الأخلاق والمثل العليا الاجتماعية، وعلينا الآن أن نتعرف منهاج التطور البشري في مداه الواسع الذي يسمو على الفواصل الجنسية - ذلك المنهاج الذي احتل فيه اليهود مكانة وسطى - وأن ندرك الأهمية العظمى للحقيقة التاريخية الثابتة؛ وهي أن الإنسان قد سما إلى تصور خلقي عال قبل أن تظهر الأمة العبرانية في عالم الوجود بألفي سنة.
جيمس هنري برستد
جبل يورو همستد نيومكسيكو
27 يونيو سنة 1933
مقدمة
أعتقد أن «ديدرو» هو الذي حاول أن يوضح لابنته الأصول الفلسفية للأخلاق الفاضلة حينما كانت تنتقل في مجال حياتها من مرحلة الطفولة إلى سن الشباب، فلما أخفق في كشف مثل هذه الأسس وجد نفسه في ورطة محيرة، ومع ذلك فإن «ديدرو» في ممارسته لشئون الحياة الواقعية لم يتنح عن اعتقاده الجريء في قيمة السلوك الفاضل.
ففي عصر كالذي نعيش فيه - وهو العصر الذي نجد فيه خلقا كثيرا لا ينكرون عقيدة «ديدرو» كل الإنكار، وإنما يتمسكون بمقاييسهم الشخصية للفضيلة - يشعر الإنسان بحاجته إلى وسيلة تمكنه من النظر إلى الوراء في الأجيال الغابرة من حياة البشر، ليتدبر بعين بصيرته بعض الأسس التاريخية التي بنيت عليها آراؤنا في السلوك الفاضل.
অজানা পৃষ্ঠা
ولقد مرت على الإنسان فترة من الزمن كان لا يحس فيها مطلقا بعنصر السلوك، وذلك حينما كان كل ما يأتيه من الأعمال يأتي عن طريق الغريزة؛ لذلك يعد شعوره لأول مرة بالسلوك أو الأخلاق تقدما هائلا في حياة البشر، وقد صار هذا التقدم أعظم خطرا عندما سما الإنسان إلى درجة أدرك فيها أن من السلوك ما يستحسن وما يستهجن، فكان ظهور هذا الإدراك خطوة نحو انبثاق الضمير. فلما أخذ الضمير في النمو أصبح في النهاية قوة اجتماعية عظيمة، وصار له بدوره أثر في ذلك المجتمع الذي أخرجه من قبل إلى عالم الوجود.
ففي حياة الصياد في عصر ما قبل التاريخ الذي كان يكافح بين ذوات الثدي المتوحشة الهائلة التي كانت تحيط به، بدأ يسمع همسا من عالم جديد كان ينبثق فجره في باطنه، وكان هذا الهمس بمثابة بوق جديد يختلف عن همس ألم الجوع أو الخوف الذي يشعر به الإنسان للمحافظة على كيانه؛ إذ لم يكن يقتصر هذا البوق على تحريك إحساس واحد فحسب تاركا كل المشاعر الأخرى هادئة مطمئنة، بل حرك لأول مرة كل العوامل النفسية معا. فما هو المنبع الذي خرجت منه كل هذه الأصوات الباطنة؟ وكيف اكتسبت تلك القوة الآمرة في حياة الإنسان الفردية؟ وكيف أنها نهضت حتى أصبحت قوة راسخة مسيطرة في المجتمع الإنساني؟ لا شك أن ذلك كان تقدما عظيما وتغييرا أساسيا. ونحن نكرر هنا أن كل هذا التقدم كان رحلة اجتماعية تقع مراحلها الأخيرة في متناول مدى ملاحظاتنا؛ لأنها حدثت في العصر التاريخي؛ أي في العصر الذي ظهرت فيه الوثائق المدونة. وقد ساعدنا حل رموز اللغات الشرقية القديمة على قراءة ما وصل إلينا من السجلات المكتوبة، فكشفت لنا عن فجر الضمير، وعن الأطوار التي صار بها قوة اجتماعية، وتمخضت لنا عن عصر الأخلاق؛ ذلك العصر الذي ما زلنا نقف عند أول مرفأة فيه. والأرجح أن هذا التطور استغرق أمدا طويلا لا يقل عن مليون سنة، استطاع الإنسان في نهايته أن يبني تلك الحياة الراقية التي بدأ يبرز منها عصر الأخلاق. ولم يبلغ هذا الانتقال البطيء ذروته إلا بالأمس، وإن كان الإنسان في يومنا لا يشعر حتى الآن بأنه دخل حديثا جدا في مملكة جديدة لم يتعلم حتى الآن كيفية الاستيلاء عليها.
على أن إخفاق الإنسان في إدراك أنه يتجول في مملكة مجهولة له لم يدخلها إلا حديثا، يرجع بعض الشيء إلى مؤرخيه، فإنهم يعلمونه أن التاريخ البشري ينقسم إلى عصور عظيمة مثل عهد الملكية وعهد الإمبراطوريات وعهد الديموقراطيات إلخ. إن التقسيم على هذا النمط مفيد مهذب للأذهان، غير أنه مع ذلك لا يتعمق بعيدا في طبيعة حياة الإنسان السائرة نحو الرقي. ويوجد طراز آخر من المؤرخين يعترفون بأهمية «عصر الآلات وما يتبعه من الانقلاب الصناعي» في حين أن المهندسين المتحمسين ينشدون للحكم (الآلي) الميكانيكي؛ يلخصون رقي الإنسان بتعبيرات كلها تتعلق باستخدام القوة. ومن جهة أخرى يجد علماء الآثار أنه من السهل عليهم أن يقسموا تاريخ حياة الإنسان إلى عصور عدة: العصر الحجري، وعصر استعمال النحاس، وعصر استعمال الشبه (البرنز)، وعصر استعمال الحديد.
في حين أن مؤرخ علم الأحافير النباتية والحيوانية
بعد أن يعدد سلسلة عظيمة تشمل الأطوار المتتالية لحياة الحيوان الناهضة، ويقص علينا أننا نقترب الآن من ختام عصر ذوات الثدي، ومع أن هذه التقسيمات ملائمة أو ضرورية فإنها من غير شك لا تزال من بعض الوجوه سطحية، بل إن الاصطلاحين: «عصر الديموقراطية» و«عصر الميكانيكا» على حسنهما لا يدلان إلا على القليل من التحرر الفكري الذي كان سببا في وجودهما. أما التقسيمات التي تكون أكثر فائدة وأعظم أهمية، وتدل في آن واحد على أطوار التقدم الإنساني، فهي التي تكون على نحو «عصر الضمير والأخلاق» (الذي بدأ منذ نحو خمسة آلاف سنة)، وعصر العلوم الذي جاء به «جليليو» منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
والواقع أن كتابة التاريخ حتى الآن لم تعط سوى القليل من العناية لهذه التطورات الإنسانية الأساسية.
لقد صار الإنسان أول صانع للأشياء بين مخلوقات الكون كله قبل حلول عصر الجليد، والأرجح أن ذلك كان منذ مليون سنة، بل ربما قبل ذلك الأمد. وقد صار في نفس الوقت أول مخترع للأسلحة، وعلى ذلك بقي نحو مليون سنة يحسن هذه الآلات، ولكنه من جهة أخرى لم يمض عليه إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير إلى درجة جعلته قوة اجتماعية فعاله. أي إن القوة الجسمانية تشد أزرها قوة العلم السامية مدة الثلاثة القرون الأخيرة بقيت تعمل في صنع الآلات الحربية الدقيقة الصنع فيزداد تحسنها باستمرار، حوالي مليون سنة؛ في حين أن قوة الإنسان الباطنة التي تفوق تلك القوة المادية في رفعتها؛ وأعني بها القوة التي نهضت من التجارب الاجتماعية، لم تعمل في المجتمع إلا منذ حوالي خمسة آلاف سنة فقط. فلا شك إذن في أن عصر السلاح يبلغ عمره مليون سنة مع أن عصر الأخلاق قد شق طريق بدايته البطيئة تدريجا منذ نحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة. وقد حان الوقت الذي يجب فيه على العالم الحديث أن يدرك شيئا من أهمية هذه الحقيقة البالغة، بل يجب أن تصبح دراسة ذلك جزءا من التربية الحديثة. لذلك كان الغرض من هذا الكتاب هو إبراز الحقائق التاريخية، واستعراض المصادر القديمة الهامة التي استقيت منها أمام القارئ، فيظهر لنا بذلك أننا ما زلنا واقفين في غبش فجر عصر الأخلاق. لا بأس أن يكون ذلك قاعدة لأحلام ضحى لا يزال في الواقع بعيدا جدا عنا، ولكنه لا محالة آت وراء ذلك الفجر.
وبعد الفراغ من وضع هذا المؤلف فطنت إلى ملاحظة «إمرسون» في مقاله السياسي؛ تلك الملاحظة المتنبئة التي وضعتها على صفحة عنوان هذا الكتاب، وهي ملاحظة غابت عن ذاكرتي منذ عدة سنين مضت. ولقد أصاب «إمرسون» (قس مقاطعة نيو إنجلند) كبد الحقيقة بما أوتيه من قوة التصور الإلهامية بهذه الكلمة التي قالها، والتي تعد أبرز حقيقة في مدى الحياة العصرية قاطبة؛ وذلك أنه في عصر «إمرسون» كانت تلك الحقيقة التي فاه بها لا يمكن أن يدلل على صحتها بأكثر من كونها مجرد اعتقاد أو إحساس شخصي، ولكن منذ أن تواري ذلك الحكيم كشفت لنا بحوث تاريخ الشرق القديم أنها حقيقة تاريخية. ولذلك كان الغرض من هذا الكتاب أن يجعل في متناول القارئ المتوسط الاطلاع الأدلة التاريخية التي كانت أساسا لمعرفتنا الجديدة لهذه الحقيقة العظيمة الشأن.
إيضاح
عن ترجمة النبذ المقتبسة في هذا الكتاب
অজানা পৃষ্ঠা
لقد كان هم المؤلف أن يضع في هذا المجلد الترجمة الإنجليزية لكل المصادر الهامة التي أخذ عنها، أو ترجمة النبذ التي وجدت ضرورية لتدعيم التدرج التاريخي اللازم. على أن القارئ لم يثقل كاهله في معظم الكتاب بذكر أسماء المصادر، وفيما يختص بمتون الأهرام العظيمة فإن القارئ الذي يريد أن يرجع إلى تحقيق مصادرها فإنه يجدها في «محاضرات مورس» المطبوعة للمؤلف. وقد أخذ عنها المؤلف بكثرة دون أن يضع علامات اقتباس، ويجب على القارئ أن يلاحظ في الترجمة الإنجليزية ما يأتي:
الكلمات التي وضعت بين نصفي قوسين [هكذا] تدل على أن معناها ليس محققا في الأصل.
الكلمات التي وضعت بين قوسين تعتبر تصحيحا مفروضا فيه، إما أنه قد كان موجودا في الأصل ثم فقد الآن، وإما أن يكون هو المعنى الذي يفهم من الأصل بالتغليب.
الكلمات التي توضع بين شرطتين هي تفسيرات من عند المؤلف ولا وجود لها في الأصل.
الفصل الأول
الأساس والماضي الجديد
تطالعنا الصدف أحيانا في بعض بقاع أوروبا بوجود أثرين متجاورين - بصورة تدعو إلى الغرابة - أحدهما ينتسب إلى أقدم عصور متوحشي ما قبل التاريخ، والثاني ينتسب إلى ما يسمى المدنية الحديثة، وكلا الأثرين يمثل تاريخ الجنس البشري في عصره. فأولهما يمثل التاريخ القديم وثانيهما يتحدث عن التاريخ الجديد؛ أي أقدم عصر وأحدث عصر يمكن اقتفاؤهما في مجال حياة بني البشر. ففي شمال فرنسا وعلى أديم تلك التلال المشرفة على «نهر السوم» والتي كانت مسرحا لكثير من المواقع الحربية، انغرست الألوف من شظايا قذائف الفولاذ على عمق كبير في المنحدرات والمستويات التي مهدها النهر لنفسه منذ أزمان خلت، واليوم بعد أن سكتت المدافع الضخمة التي كانت ترمي تلك القذائف، يستطيع المرء بعد أن يعمل بفأسه بضع دقائق في حافة الوادي، أن يرى «البرت» (البلطة) المصنوعة من الظران، وهي من أقدم ما خلفه الإنسان من الأسلحة تجاور نثارا من شظايا مسننة، لقذائف الفولاذ المفرقعة، فبالآلة الأولى كان يستطيع أول أجدادنا المتوحشين أن يهشم جمجمة خصمه فيودي بحياته، وبالمهلكات الثانية اعتاد نسله المتحضر أن ينسف عدوه ويمزقه إربا.
وفيما بين الجارتين (البرت والشظايا) يقع تاريخ حياة بني الإنسان، وهو قصة لا يقل عمرها عن عدة مئات من آلاف السنين، بل ربما بلغ مليون سنة. وقد كان المجهود البشري خلال هذه السنين يسير بالإنسان من طور إلى طور حتى انتقل من الطرق الفطرية للهلاك إلى تلك الطرق البالغة حد التفنن في السحق والتدمير.
إن تاريخ حياة الإنسان هو في الغالب قصة التغلب على القوى المادية بتدابير منوعة لا حصر لها من الآلات والعدد، ولكن لا ننسى بجانب ذلك النتائج الصناعية والاجتماعية والسياسية والفنية والعقلية التي نجمت عن اختراعها؛ فأسطوانة الآلة البخارية أو آلة الغاذولين هي رمز العصر الحاضر، كما أن «البرت» المصنوعة من الحجر هي العلامة الدالة على حياة العصر الحجري الذي يرجع عهده إلى ألف ألف سنة على الأرجح،
1
অজানা পৃষ্ঠা
على أن العثور على تاريخ الماضي بهذا المعنى الواسع يحتاج إلى بحاثة من طراز جديد، بحاثة عالمي يجمع إلمامة بين علم الإنسان وعلم الآثار وعلم الأجناس وعلم الديانة المقارن، ويكون مع ذلك متضلعا في الفن والأدب متفقها في كل من اللغات القديمة من أوروبية وشرقية.
وعلى الرغم مما يقتضيه تكوين عالم من هذا الطراز من جهود مضنية وسنين كثيرة في الدرس والتعليم، فإنه يوجد الآن بعض علماء من هذا النوع يقومون بهذه البحوث فعلا، فتطلع علينا جهودهم المخلصة بقصة ذلك المنهاج الطويل العمر الذي أفضى في النهاية إلى حلول مداخن المعامل الحديثة، وكل ما نتج عنها من أمراض اجتماعية واقتصادية، محل تلك الأحراج الفطرية التي كان يجول فيها صياد العصر الحجري. ومع ذلك فإن المجهود الجدي في البحث عن تاريخ ماضي الإنسان لم يكد يتعدى مراحله الأولى، فإنه لم يمض قرن على عثور «بوشيه دي برت»
Boucher des perthes
2 - الذي يعد طليعة الباحثين في علم الآثار ما قبل التاريخ - في حصباء نهر «السوم» على «البرت» الذي يرجع تاريخها إلى أقدم إنسان أولي متوحش، وبجانبها عظام بعض الحيوانات الهائلة من ذوات الثدي التي انقرضت منذ زمن سحيق، فأعلن «دي برت» إذ ذاك أنها معاصرة لتلك البرت المصنوعة من الظران. ومنذ جيلين تقريبا زار العلماء الإنجليز «هكسلي»
Huxley ،
3
و«برستويتش»
و«السير شارلس ليل»
Sir Charles Lyell
4
অজানা পৃষ্ঠা
وغيرهم وادي «السوم»، وتأكدوا من الحقائق التي لاحظها «بوشيه دي برت»، وكانت نتيجة هذه الزيارة أن نشر «ليل» مجلده الذي يعد بداية عصر جديد وسماه «قدم الإنسان»
The antiquity of Man ، وقد ظهر أثناء حروب أمريكا الأهلية
American Civil war . وكلنا يعرف الهزيمة التي ألحقها «هكسلي» بأساقفة الإنجليز على أثر الاعتراف بعظم قدم عمر الإنسان؛ لأن بعضنا قد قرأ المناقشة في أيامنا الأولى في المجلات السائرة.
ومن الأشياء الحديثة كذلك إماطة اللثام عن التاريخ الشرقي لعدة آلاف السنين الخوالي مما لم يكن معروفا من قبل عن الشرق القديم.
فلا يزال كتاب التاريخ القديم الذي ألفه رلن
5
Rollin Ancient History
معروضا للبيع في المكتبات مترجما إلى الإنجليزية مع أنه لم يكن بين يدي مؤلفه كثير من المصادر فوق تاريخ «هردوت» والتوراة، وفي حداثة سني كان هذا الكتاب لا يزال يقرأ بكثرة. ونسخة والدي من كتاب «ليرد»
6
نينوه وبابل
অজানা পৃষ্ঠা
Leyard, Nineveh and Babylon
التي أدهشني منها في طفولتي ما رسم على غلافها من الثيران الرمزية المجنحة ذات الرأس الآدمي - أخذت مكانها في مكتبته سنة 1869 كما ينبئ بذلك التاريخ المكتوب على ورقة الغلاف، على حين كانت صفحة عنوان الكتاب تحمل تاريخ سنة 1859م.
وكان حل رموز الخط المسماري للبابلية والآشورية قد تم قبل ذلك التاريخ ببضع سنين فقط، أما أول نقش مصري فقد حل عام 1822؛ أي قبل حل الخط المسماري بنحو ربع قرن. والحقيقة أن معرفتنا بهذه اللغات ونظم كتابتها لا تزال بعيدة عن حد الكمال، وإن كانت تسير في سبيل التقدم المطرد كما يبرهن على ذلك حل رموز الخط المسماري الحيثي حديثا، والتقدم المحسوس كذلك في فك هيروغليفي الحيثيين. وبذلك أصبح فحص الوثائق القديمة الكثيرة العدد والتي بدأ العالم يفهمها بسهولة، والحفائر التي أحيت فصولا بأكملها من حياة الإنسان، مصدرين يكشفان الآن بوضوح متزايد عن رواية تمثيلية خطيرة في تاريخ التقدم البشري. وهكذا قد أزيح الستار في أيامنا تقريبا وبسرعة مدهشة فتيسر لنا النظر إلى الوراء في أعماق ماض متغلغل في القدم لم يتسن للفكر ولا للتعليم حتى الآن أن ينسجم معه. ولندع الآن أبصارنا تسبح في هذا المدى الرهيب من التقدم البشري الذي كشف لنا عنه البحث في إنسان ما قبل التاريخ، وفي مدنيات الشرق التي كنا قد فقدناها.
ويكاد كل امرئ يعرف قدرتنا الآن على تعقب الخطوات التي خطاها أقدم إنسان في أوروبا إلى الأمام خلال آلاف من السنين قضاها في نضال مع دنيا المادة، فالغطاء الجليدي القطبي الذي انحدر أربع مرات على الجانب الشمالي للبحر الأبيض المتوسط فأجلى متوحشي أوروبا أهل العصر الحجري القديم إلى الجنوب، ثم تقهقر بعد ذلك ببطء نحو الشمال ثانية، وهكذا في كل من الدفعات الأربع جعل هذه الظاهرة في نظرنا بمثابة ساعة جيولوجية هائلة يدل تذبذب (رقاصها) الضخم أربع مرات متتالية منتظمة على مرور فترة عظيمة من الزمن ظهر فيها ذلك التحسن المتدرج في أسلحة الإنسان الحجرية وآلاته وتقدمه البطيء في قطع الطريق الطويل من الوحشية إلى المدنية.
على أن الخيال يقف حائرا أمام هذه الكشوف التي تنبئنا عن المعركة الطويلة الأمد التي خاض غمارها جدنا المتوحش، وذلك حينما نرى في تغلبه البطيء على القوى التي تحيط به مشهدا دنيويا يملؤنا بنفس العاطفة الدنيوية التي نشعر بها أمام حدوث ظاهرة عظيمة من ظواهر الطبيعة.
وإذا فرضنا أن كثيرا من المتعلمين في عصرنا يعرفون الحقائق البارزة الآنفة الذكر فإنه من غير المعلوم لدى الجميع أن كشوف السنين القلائل الأخيرة قد أماطت اللثام عن تفاصيل حياة العصر الحجري التي وجدت حول جميع البحر الأبيض وانتشرت على شواطئه كما انتشرت حكومة الدولة الرومانية حوله بعد ذلك بآلاف من السنين، فكانت على ذلك تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا.
7
وعلى ذلك كانت هناك «دنيا شرق أدنى» شاسعة لإنسان العصر الحجري القديم، تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا مكونة بذلك مسرحا شاسعا تمتد جبهته من البحر الأسود شمالا مخترقة سوريا وفلسطين إلى الشلالات النائية في أعالي النيل جنوبا، وأما الجزء الخلفي لهذا المسرح فتحده الجبال الفارسية.
وهذه الصورة عميقة في القدم عمقها في المساحة؛ إذ لا يقل عمرها عن مئات الآلاف من السنين، وقد يصل إلى ألف ألف سنة، منذ بدأ الغطاء الجليدي القطبي يزحف جنوبا على أوروبا، وكان الناس قد بدءوا فعلا يعيشون عيشة الصيد على مسرح الشرق الأدنى هذا. وإذا جاز لنا أن نحكم من شكل إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يعيش في شرق آسيا قريبا من «بكين» الحالية؛ فإن مخ صيادنا الغربي كان أقل حجما بمقدار الثلث من مخ سلفه الذي عاش في العصر التاريخي في نفس الإقليم، وقد ترك أسلحته الحجرية منتشرة على سطح الأرض في الشمال الشرقي من أفريقيا، وعلى تلال آسيا المجاورة ووراء جبال فارس.
وحري بفترات الزمن التي تضمها هذه العهود أن تقاس بمراحل جيولوجية لا بالسنين، فأولى مراحل هذه العصور الجيولوجية كان عصر تكوين أودية الأنهر العظمى للإقليم، ولا شك أن أناس الشرق الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ كانوا بطبيعة الحال يجهلون أنهم يرقبون تكوين وادي النيل ووادي الدجلة والفرات في وقت كانت فيه دلتا النيل الحالية لا تزال خليجا للبحر الأبيض المتوسط، كما كان الخليج الفارسي يمتد شمالا فوق ما هو معروف الآن بسهل «بابلون» إلى خط عرض الركن الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
অজানা পৃষ্ঠা
أما ثاني تلك المراحل الزمنية فقد تحدد لنا الآن (وقد كان يسير جنبا لجنب مع تقدم حياة الإنسان) ونعني به عصر «نضوب الماء»؛ ذلك النضوب الذي كان ينتشر تدريجا، فالصحارى المعروفة لنا تمام المعرفة في هذه الأقطار لم تكن قد ظهرت بعد؛ إذ كان كل شمال أفريقيا إقليما ذا أمطار غزيرة ونباتات وفيرة مكونا ميدان صيد أنموذجيا، وقد عثرت على ثلاثة قوارب نيلية لصيادي الهضبة محفورة على الصخور الواقعة في مجاهل صحراء النوبة فيما وراء «أبو سنبل»، وقد كشف حديثا الدكتور «سندفورد» مدير مساحة المعهد الشرقي أسلحة الظران التي كان يستعملها هؤلاء الصيادون مبعثرة في أقاصي الصحراء الجنوبية على مسافة ألف ميل أو أكثر من النيل، ولا تزال هذه الآلات والأسلحة الحجرية الملقاة حيث فقدها أصحابها منذ مئات الآلاف من السنين شاهدا صامتا على المجال الفسيح الذي كان يرتع فيه الصيادون والحيوانات التي كانوا يقتفون أثرها في وقت كان فيه جميع شمال أفريقيا ممرعا خصب الجناب. ولا يغرب عن ذهننا أن الأماكن التي توجد فيها تلك الأدلة الصامتة عن حياة الإنسان الغابر، هي الآن مناطق منعزلة قاحلة موحشة لا يجسر أي صياد حديث أن يدلف إليها في الصحراء؛ لأنه لا يأمل أن يعود على قيد الحياة بعد أن يخترق تلك المجاهل الماحلة.
وقد كان منتصف زمن العصر الحجري القديم مبدأ انحسار المطر، وفي أثره حل الجفاف العظيم الذي حول هضبة شمالي أفريقيا الخصبة إلى تلك البيداء الشاسعة التي نسميها الآن «الصحراء العظمى».
8
ولقد كانت العوامل الجيولوجية في ذلك الوقت آخذة منذ زمن بعيد تعد موطنا جديدا أكثر ملاءمة وأحسن موقعا لصيادي العصر الحجري في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا، فهنا كانت أفريقيا الحارة تمتد عبر الصحراء إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، وهو ممر خصب منبطح زاخر بالأعشاب النضرة وبحيوان أفريقيا الداخلية مما أعطى صيادي العصر الحجري مأوى لا تنفد موارده في موقع لا مثيل له من الأمن والحماية من الدخلاء المغيرين.
ولا بد أن حيوانات أفريقيا الشمالية الشرقية بعد أن طردها من الهضبة تناقص الطعام المستمر عندما أصبحت النباتات قليلة جدا لا تكفي دفع غائلة الجوع وحفظ الحياة، قد لجأت إلى شواطئ النهر العظيم عند الجزء السفلي من وادي النيل، فجعلت منه مرتعا للصيد منقطع النظير، وجنة الخلد هذه الواقعة في الجزء السفلي من وادي النيل، والتي نسميها الآن مصر، كانت تجذب إليها أحيانا منذ البداية صيادي العصر الحجري الذين كانوا يسكنون هضبة شمال أفريقيا، ولكن لما اضطرهم الجفاف في النهاية إلى اقتفاء حيوان الصيد في هذا الاتجاه بدءوا يتخذون وادي النيل الضيق موطنا مختارا لهم. وقد أقام الجفاف في النهاية حول جنة الصياد هذه حاجزا منيعا من الصحراء لا يمكن اختراقه من ثلاثة جوانب من حدود مصر - الشرق والغرب والجنوب - وحول وادي النيل الأسفل إلى معمل اجتماعي منعزل لا مثيل له في سائر بقاع العالم؛ لأن النيل هو النهر الوحيد على كرتنا الأرضية الذي ينبع من المناطق الحارة وينساب نحو الشمال مخترقا نحو 700 ميل في «المنطقة الإقليمية» التي ظهرت فيها أول النظم القومية العظيمة، وهي المنطقة المعتدلة للدول القديمة بين خطي عرض 25، 45 شمالا، وفيها نمت،
9
كل العاهليات القديمة، هذا فضلا عن أن وادي النيل في عصور ما قبل التاريخ كان يتمتع بمزية فريدة؛ إذ لم يكن معرضا لشدائد عصر الجليد، بل كان منفصلا عنها ومحتميا منها بمياه البحر الأبيض المتوسط الملطفة الواسعة الأرجاء، على حين أن حياة صيادي العصر الحجري الأوروبي في شماله قد عاقها عن التقدم الرياح القطبية واندفاع الثلوج التي لا تقاوم.
ولقد كان غربي آسيا على تمام النقيض من مصر، تحوط دائرته الشمالية تلك الهضبة الجبلية الممتدة من البوسفور حتى بلاد إيران، فكان معرضا بدرجة عظيمة لأخطار ذوبان الجليد المخربة وزمهرير برده القارس، وقد ترجع قصة الطوفان العام التي ورد ذكرها في «بابل» ثم في التوراة إلى فيضان جليدي من هذا النوع. ولقد كانت هذه القوة الطبيعية المزعجة المغيرة من المرتفعات الشمالية الواقعة في غرب آسيا نذيرا لغارات بشرية متتابعة كانت كذلك تنزح من هذه المرتفعات وتغمر الإقليم في دورات معلومة؛ فتقلب النظام الاجتماعي والحكومي القائم. ولذلك كان التقدم البشري في الإقليم إذا خطا خطوته الأولى نحو التطور الاجتماعي لا يلبث أن يعثر وتزل به قدمه، فيرجع إلى سيرته الأولى فيحاول النهوض مرة أخرى ويعاني نفس العملية المرة بعد المرة. بمثل هذا تناوبت القوى المغيرة من طبيعية وإنسانية على وقف التطور الاجتماعي في بابل، وقد كان لزاما علينا أن نعتبر دوافع الغزو الأجنبي قوة مجددة لولا ما ظهر لنا من أن تلك الفكرة قد غالى في تقديرها بعض المؤرخين؛ فالشجرة الضخمة تقف في وجه الرياح بفضل قوة تلك الحلقات الصلبة التي تنمو في جذعها سنويا، والتي ربما كانت تنمو فيها منذ قرون وتبقى متأصلة في داخل تركيب جذعها العظيم، فالقوة في مثل هذه الشجرة يمكن أن تتخذ مثالا لتوضيح نمو النظام القومي الذي اكتسب زيادة قوته بالبناء المستمر، ولكن الشجرة التي تعصف بها الريح مرارا وتزعزعها من الأرض أحيانا تبقى دائما قصيرة عارية. ولم يكن من باب الصدفة أن سقوط المدنية البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وغزوها على يد الدولة الكاسيلية بعد أن بلغت قوتها في عهد أسرة «حمورابي» أعقبه نضوب ثقافي استمر مدة ألف سنة أو يزيد.
وعلى العكس من ذلك نرى - كما أسلفنا - أن الجفاف الذي حدث في شمال أفريقيا قد جعل وادي النيل في معزل، وكون منه ذلك الممر الضيق المحمي الذي لا مثيل له على سطح عالمنا، وهو يمتد شمالا وجنوبا، فأحد طرفيه في المناطق الحارة، والطرف الآخر يشرف على بحر داخلي عظيم في المنطقة المعتدلة، وكان يتمتع بميزات طبيعية فريدة في نوعها، فقد كان منعزلا ومحميا بشكل جعل التطور البشري فيه سهلا؛ ذلك التطور الذي رغم بعض الغزوات الأجنبية ظل مستمرا آلافا من السنين دون أي عائق جدي. وفي أيامنا هذه تتكشف التربة المصرية على حدود الصحراء عن قبور أقدم الجبانات المعروفة في العالم كله، ونجد في هذه القبور خلف صيادي العصر الحجري في وادي النيل عندما كانوا في بداية الانتقال إلى عصر المعادن، وذلك قبل 4000 سنة ق.م بزمن يذكر، ومن الجائز أن يكون قبل هذا العهد بكثير، وكانوا قد استأنسوا أهم الحيوانات المنزلية، وانتقلوا إلى دور حياة الفلاح.
والدلائل تؤيد رأي من قال إن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات، هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتا باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلبهم على المعادن فيما بعد وتقدمهم في اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل في أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة.
অজানা পৃষ্ঠা
فيتضح مما تقدم أن وادي النيل المعشب الواقع شرقي أرض الصحراء لم يجذب إلى داخل جدرانه الصخرية المنكمشة صيادي ما قبل التاريخ المشتتين على ساحل أفريقيا الشمالي فحسب، بل هيأ لهم مجتمعين التسلط على كل الموارد اللازمة للتقدم الإنساني في أحوال حسنة جدا، لدرجة جعلت الجماعات المحلية التي كانت تتألف منها البلاد تتوحد تدريجيا، حتى أصبحت أول مجتمع عظيم مؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد وفي أيديهم كل الأسس الرئيسية اللازمة للحضارة. ففي القرون التي تقع بين 5000، 3500ق.م قامت أول دولة متحضرة كبيرة في وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربي آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادي العصر الحجري.
والأرجح أن أول اندماج تألفت به أمة واحدة حدث في وقت لا يتجاوز سنة 4000ق.م، وقد كان من نتائجه أن بقيت البلاد متحدة مدة بضعة قرون أطلق أنا عليها الآن اسم «الاتحاد الأول». وكان من نتيجته تأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنساني معروف يضم عدة ملايين من الأنفس.
10
ولما تألف «الاتحاد الثاني» فيما بعد بدأ تطور قومي في شكل هائل في نظام الحكم ونواحي الاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب، أخذ يسير بخطى ثابتة مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق.م. وهذا العصر البالغ ألف سنة هو مرحلة فريدة في حياة الإنسان على الأرض؛ لأنه يوضح لنا أن أول فصل في تقدم الحياة البشرية إنما هو عملية اجتماعية، تكشف لنا عن مبدأ ظهور العوامل الاجتماعية وتأثيرها في المجتمع الإنساني. ومن المهم أن نؤكد كلمة «فريدة» التي استعملناها في العبارة السابقة؛ لأنه لم يكن في هذا العصر البعيد نمو مطرد متعاقب في أية بقعة أخرى من بقاع العالم القديم، وإن مدة الألف السنة هذه هي التي وضعت مصر من الوجهة الخلقية والثقافية في مرتبة تفوق بكثير ما كان في بابل، حيث كانت الشحناء قائمة بين بعض المدن وبعضها الآخر؛ تلك المدن التي كانت تؤلف ممالك صغيرة تناضل عن شئون محلية ضئيلة، واستغرق نضالها مدة الألف السنة السابقة بعينها، بل بقي بعضها على هذا النحو بعد ذلك مدة طويلة. ولقد كان الاتجاه الرئيسي في معترك الحياة فيما قبل السنين الألف المذكورة التي تعد أساسية وهامة في التقدم الاجتماعي، هو العمل على تقدم الإنسان في التغلب على عالم المادة، وعلى ذلك يكون وادي النيل في نظرنا هو أول مسرح اجتماعي يمكننا أن نلاحظ فيه الإنسان خارجا منتصرا من كفاح طويل مع الطبيعة، وداخلا مسرح العوامل الاجتماعية الجديدة ليبدأ كفاحه الشاق بينه وبين نفسه، وهو كفاح لم يكد يتخطى بدايته حتى يومنا هذا.
وإنا معشر الأمريكيين على استعداد خاص لندرك ونقدر الانقلاب العجيب الذي جعل من الأرض القاحلة أرضا ذات مدن زاهرة ... فإن آباءنا الذين قامت مجهوداتهم بإنشاء مدن عظيمة ثرية على طول أراضينا الشاسعة، إنما تسلموا الفن والعمارة والصناعات والتجارة والتقاليد الحكومية والاجتماعية بطريق الوراثة عن أجدادنا الأوروبيين، ولكن في ذلك العصر السحيق الذي نحن بصدده بدأ الانتقال من الوحشية إلى المدنية بكل مظاهره الخارجية في الفن والعمارة من لا شيء. وليست أهمية ظهور المدنية في وادي النيل منحصرة في بهاء مبانيها فحسب، بل لأنه كان أيضا تطورا اجتماعيا مستمرا دون أي عائق أكثر من ألف سنة، أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدما لنا أول برهان على أن الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات الفقرية التي ظهرت على وجه البسيطة أمكنه أن يخرج من الوحشية إلى المثل الاجتماعي الأعلى، ويظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم ير الكون كله - على ما نعلم - أرقى منه.
وفي أيامنا يدخل السائح وادي النيل وكأنه دخل أرض العجائب، على أبوابها تلك الأهرام الضخمة التي طالما تخيل منظرها منذ نعومة أظفاره. وعندما يصعد في الوادي مع النهر يرى فيها وراء الشواطئ الي تحفها النخيل أسوار معابد واسعة توصل إليها من الشاطئ طرق مزينة بتماثيل أبي الهول، ويشرف عليها مسلات ضخمة شاهقة الارتفاع وقاعات وعمد فخمة، ولكن قلما يخطر ببال ذلك السائح أنه في أمريكا ووادي النيل سواء بسواء يسبق القفر كل ما يرى من فن وعمارة. فحيث تقوم الآن هذه الآثار الحجرية العظيمة كانت تمتد يوما ما تلك الغابات الكثيفة التي كانت تمتد في أودية النيل الضيقة، وكانت خالية من السبل آلافا من السنين، اللهم إلا مسالك الصيادين الضيقة التي كانت ترى ملتوية بين الأعشاب ومؤدية إلى حافة الماء. ولم يكن لسكان وادي النيل في عصر ما قبل التاريخ أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، ولا بد أن تجد أن في خبرة هؤلاء القوم التي كانت آخذة في التعمق، وفي أفقهم الذي كان آخذا في الاتساع؛ ذلك السحر الذي حول هؤلاء الصيادين السذج ومساكنهم الصغيرة المصنوعة من الطين وأخصاص من الخوص إلى مجتمع عظيم يسيطر عليه رجال ذوو سلطان وخيال واسع وأصحاب آمال ضخمة، أحرار لم تغل أيديهم التقاليد فعمرت تلك البقاع التي كانت يوما غابة، ولم يكتفوا بنشر هذه الآثار فيها على طول النهر وعرضه، بل أدركوا كذلك المعنى السامي لقيم الأشياء الاجتماعية والأخلاق البعيدة عن الأنانية، مما لم ينبثق فجره على العالم من قبل. وإن الذي يعرف قصة تحول صيادي عصر ما قبل التاريخ في غابات النيل إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء وأنبياء اجتماعيين في جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل في وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش في همجية العصر الحجري، ولم يكن فيها من يعلمها مدنية الماضي؛ من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدينة على وجه الكرة تحمل في ثناياها صورا خلقية ذات بال.
فالمدنية في أعلى معانيها قد ولدت إذن في الركن الجنوبي الشرقي في البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك قد كان هناك منذ البداية تقدم هام نحو المدنية في غرب آسيا المجاورة؛ وبخاصة في بابل، حيث ظهرت في نهاية الأمر ثقافة ما تمتاز بتقدمها المطرد في الشئون العملية والتجارية والقضائية، وفي الوقت نفسه كان من عناصرها البارزة الاعتقاد بأن مصير الإنسان يمكن قراءته في النجوم، حتى إن حذقها المدهش لدرس الأجرام السماوية وضع مقدمة أصبحت في يد الإغريق أساسا لعلم الفلك، غير أن الحضارة البابلية كانت تسودها في جميع أدوارها روح الاقتصاد التجاري والكد في الحاجيات الآلية؛ مما حرم التطور الاجتماعي البابلي حتى من الأسس الأولية للتدرج نحو مراعاة الغير، والعمل على نفعهم، فكان الأساس الخلقي اللازم للعدالة بين الجميع معدوما كلية، حتى إن دستور قوانين «حمورابي» يقضي في العدالة حسب المركز الاجتماعي للمدعي أو المذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذي هو من أرقى مظاهر الحضارة المصرية فلم يكن معروفا في بابل، وكان نتيجة ذلك أن المبادئ الأخلاقية في بابل لم تساهم إلا بالنزر اليسير - إن لم تكن لم تساهم بشيء مطلقا - في الإرث الأخلاقي الذي ورثه العالم الغربي.
وقد أدى اندماج المدنيات القديمة في الشرق الأدنى إلى نشوء ما يمكن تسميته الثقافة المصرية البابلية، أو نواة ثقافة الشرق الأدنى، وظلت أمم الغرب لا تكاد تحس حتى جيلنا الحاضر بالحقيقة البالغة الأهمية، وهي أن كلا الحضارة المصرية والحضارة البابلية قد بلغت قمتها ثم أخذت في التدهور قبل قيام الحضارة العبرانية. كلنا نعلم أن الثقافة المصرية البابلية قد دفعت الحضارة الأوروبية نحو السير، ولكن ليس من بين أهل العصر الحديث إلا القليلون ممن يعرفون تلك الحقيقة البالغة الخطورة في تاريخ الأخلاق والدين، وهي أن كلا من الثقافة المصرية والبابلية قد غذت ودفعت الحضارة العبرانية إلى السير. ونجد فيما بعد تيارا من المؤثرات الشرقية القديمة التي تعد المسيحية من أظهرها مستمرا في المسير نحو أوروبا، وانتهى به الأمر أن قلب الدولة الرومانية في القسطنطينية إلى حكومة استبدادية شرقية بقي أثرها ظاهرا إلى ما بعد الحروب الصليبية بزمن بعيد .
ومثل هذه التأملات تميط لنا اللثام في الحال عن الوحدة العجيبة في تاريخ حياة الإنسان، فإن تاريخ الشرق الأدنى يقع وراء تاريخ أوروبا، كما أن تاريخ أوروبا يقع وراء تاريخ أمريكا. وبالرجوع إلى الوراء بالشرق الأدنى القديم خلف الأزمان التاريخية نصل إلى عصور تطور إنسان ما قبل التاريخ، فيطول بذلك مدى المراحل المكونة لحياة الإنسان المتصلة هكذا بأمريكا فأوروبا فالشرق الأدنى فإنسان ما قبل التاريخ فالأزمان الجيولوجية. وهذا التقسيم الحديث جدا الذي هو من وضع أحدث المؤرخين يكشف لنا لأول مرة أن حياة الإنسان وحدة لا تتجزأ ظلت تتطور تطورا متعاقبا من «البرت» (البلطة) الحجرية إلى شظايا قنبلة سنة 1914، وكلاهما مدفونتان جنبا لجنب في ميدان قتال السوم. لذلك فإن بحثا شاملا للشرق الأدنى القديم نقوم به بأعين مفتوحة وبأغراض أرقى من حذق الأرقام التاريخية التي كانت محببة منذ زمن طويل إلى قلوب زملائنا المؤرخين القدامى، تظهر لنا لأول مرة العصور التاريخية المعروفة في حياة الإنسان الأوروبي كمنظر مرتكز إلى لوحة عظيمة تتناول مئات الآلاف من السنين. وفي هذا المنظر الضخم الذي لا يمكن تصوره إلا بدرس تاريخ الشرق، تنكشف أمامنا صورة شاملة بهيجة كمجال حياة البشر في عصورها المتعاقبة مما لم يستطع أن يتصور مثله أي جيل سبق، هذا هو «الماضي الجديد».
ومهما يكن من أمر العلوم والفلسفة فإن التاريخ والأخلاق وعلم اللاهوت لم يكن لها شأن يذكر في هذا البحث الضخم؛ ففي تاريخ علم الأخلاق يكشف لنا «الماضي الجديد» فجأة تلك الحقيقة التي ظلت مجهولة منذ زمن بعيد؛ وهي أن المدنية العبرانية بكل ما اشتملت عليه من وثائق ذات تأثير عميق في المبادئ الدينية والخلقية، ليست إلا مرحلة من المراحل النهائية للرقي البشري القديم، ذلك الرقي الذي سبقته عصور تجريبية منتجة ومبدعة في الناحيتين الاجتماعية والخلقية على ضفاف النيل والفرات. ويجب علينا إذن أن نمهد أذهاننا إلى قبول الحقيقة القائلة بأن الإرث الخلقي الذي ورثه المجتمع المتمدين الحديث يرجع أصله إلى زمن أقدم بكثير جدا من زمن استيطان العبرانيين فلسطين، وإن ذلك الإرث قد وصل إلينا من عهد لم يكن فيه الأدب العبراني المدون في التوراة قد وجد بعد.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي خطبة وعظ ألقاها حديثا واعظ من أقدر الوعاظ الأمريكان، أجد أن اللمحة الآتية تتطلع إلى وقت إذا تصفح فيه مؤرخو المستقبل أخبار عصرنا رحبوا به «كعصر خطير» أشرقت فيه شمس العدالة بالشفاء من جناحيها.
11
وهذه الاستعارة المتداولة مأخوذة بلا شك من الأدب العبراني، ولكن كما سنرى قد استعارها العبرانيون من مصر حيث أشرقت «شمس العدالة» قبل أن تشرق على فلسطين بأكثر من ألفي سنة. وإذا قدر لهذه الشمس أن تشرق ثانية على جيلنا الحالي فإنها ستكون القمة لنهج الرقي البشري الذي ظل يرقى بحياة الإنسان منذ آلاف السنين قبل عصر «الأنبياء» المعترف به من زمن بعيد عند رجال اللاهوت.
وسنرى الآن ماذا يكشف لنا «الماضي الجديد» كما أظهرته لنا أحدث البحوث الجديدة عما يختص بالخبرة الإنسانية القديمة التي وصلت بالإنسان لأول مرة إلى الشعور بأعلى القيم، حتى انتهت مغامرته بانبثاق فجر الضمير وفتح عصر الأخلاق.
الفصل الثاني
آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
إله الشمس
مما هو جدير بالاهتمام أن نلاحظ ما صار إليه الجنس البشري في مصر التي كانت تعتبر «جزيرة المنعمين» في مدة خمسة آلاف سنة، وأن نقتفي - كما هو في صدورنا الآن - آثاره وهو متطور خلال بضعة أجيال كان يستعمل فيها الآلات والأسلحة الحجرية العتيقة إلى استعمال الأزميل النحاسي، وبلوغه تلك الدقة البنائية العجيبة التي تتجلى لنا في بناء الأهرام مع ضخامتها المدهشة، وارتقائه من سكنى الكوخ المصنوع من غصون الشجر إلى إقامة القصور الفاخرة الزاهية المجملة بالقيشاني والمؤثثة بالرياش الفاخر والذهب المرصع، ثم بعد ذلك نأخذ في تفصيل تلك الخيوط الذهبية التي حيكت منها حياته المتعددة النواحي التي صارت في النهاية تؤلف نسيجا متينا فخما من المدنية. وإننا نحاول هنا اقتفاء أثر خيط واحد فقط من تلك الخيوط التي حيك منها هذا النسيج؛ وذلك لأنه يتعرج هنا وهناك بالتواءاته الدقيقة المعقدة في كل جهاته.
والواقع أنه لا توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم مثل قوة «الدين»؛ لأن تأثيرها يشاهد واضحا في كل نواحي نشاطه، ولم يكن أثر هذه القوة في أقدم مراحلها الأولى إلا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الإنسان ما حوله في العالم، ويخضعه بما فيه الآلهة لسيطرته، فصار وازع الدين هو المسيطر الأول عليه في كل حين، فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل، وما يوحي به من آمال هي ناصحه الدائم، وما أوجده من أعياد هي تقويمه السنوي، وشعائره - برمتها - هي المربية له والدافعة له على تنميته الفنون والآداب والعلوم.
على أن الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب، بل الواقع أن الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجا لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الإنسانية الباطنة. ولذلك كان طبعيا ألا يقف الدين جامدا من غير أن يتمشى مع هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة إلى مرحلة. هكذا كان الحال منذ أقدم العصور التي وصل إليها علمنا، وكل الأسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء. وسنرى الآن شيئا من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائما بين العالم الظاهري المحيط بالإنسان، والعالم الباطني الكامن في نفسه، حتى تكون الدين وتحدد وأفضى بالتدريج في نهاية الأمر إلى ظهور المبادئ الأخلاقية عند أقدم مجتمع بشري عظيم في خلال مدة تربو على ثلاثة آلاف سنة.
অজানা পৃষ্ঠা