12
غير أن تجاريب البشر لغاية عصر الإقطاع المذكور (أي منذ 4000 سنة مضت إلى الآن) لم تكن قد أنتجت لنا حتى ذلك الوقت شبيها لرجل من هؤلاء، فكان ظهور أشباههم في وادي النيل في ذلك الوقت يعد حادثا هاما من الحوادث التاريخية الخطيرة الشأن، كما يعد دليلا قاطعا على ظهور ميدان جديد للفكر الإنساني، والمسئولية الإنسانية، ولنستعرض الآن ذلك بشيء من التفصيل.
فبالرغم من أن قصة ذلك التعس هي قصة تجربة شخصية لفرد واحد؛ فإنها مع ذلك تحمل في ثناياها ما يصح أن يكون تحليلا لأحوال ذلك المجتمع، الذي ترجع إلى نقائصه بوجه عام تلك التجربة الفردية التي مرت بها حياة ذلك التعس.
وفي نصائح «بتاح حتب»، وفي خلال عصر الدولة القديمة كله، وحتى إلى عصر النصيحة الموجهة إلى «مريكارع»، كان المفكرون المصريون الاجتماعيون يجدون سرورا عظيما في البحث في المثل العليا للخلق العظيم برزانة وتدبر، وقد أدى بهم ذلك إلى تصورات سامية ونبيلة حقا، غير أنهم لم يوجهوا فكرهم إلى موازنة تلك التصورات السامية بالمستوى الخلقي المنحط الذي كان يعيش به المجتمع البشري بالفعل.
وفي النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» نجد ذم «ثور الذي يقترف الظلم»، كما نجد بعض الشعور بأن خطايا الإنسان تكدست بجانبه يوم الحساب مثل الجبال، ولكننا بجانب ذلك لا نجد شعورا بانحطاط المجتمع الخلقي. وها نحن الآن نقترب من الدخول في عصر صار فيه الحكماء المصريون على علم بالفرق الشاسع بين المثل العليا الموروثة للأخلاق العظيمة وبين الانحطاط الخلقي المخيف الظاهر في المجتمع الذي يحيط بهم. وليس هناك من جديد في تجاربنا المشابهة لذلك في العصر الحاضر، ولكن في تجربة التعس المنكود دار البحث أو كاد يقصر على شخص الكاتب، ومن ناحية أخرى نجد اهتماما عظيما بأمر الانحطاط الخلقي قد أخذ يبدو، مضافا إليه قدرة الباحث على تأمل وإدراك ما كان عليه الناس من حقارة ومهانة، يتضح ذلك من موضوع تناول الأفكار المحزنة المشبعة بروح التشاؤم عن ذلك العصر العظيم، عصر الوعي النفسي النامي، وأول عصر كشفت فيه الأوهام من المجتمع.
وقد عبر لنا عن تأملاته المحزنة عن المجتمع كاهن من كهنة عين شمس يدعى «خع خبر رع سنب» كان يعيش في ذلك العصر، وذلك في مؤلف كان لا يزال متداولا بعد تأليفه بقرون طويلة حينما نقله كاتب من عصر الأسرة الثامنة عشرة على لوحة من الخشب محفوظة الآن بالمتحف بالبريطاني. وهذا المؤلف له أهمية خاصة؛ إذ يدلنا بمجرد الشروع في تلاوته على أن أمثال أولئك الرجال الذين عاشوا في العهد الإقطاعي كانوا يشعرون شعورا تاما بأنهم يفكرون على نمط جديد، وأنهم قد أقلعوا عن التلطف التقليدي الذي كانت تتميز به حكمة آبائهم. ويفتتح كاهن عين شمس هذا مقاله القصير بما يأتي:
ليتني كنت أعرف صيغا للكلام لا يعلمها أحد وأمثالا غير معروفة أو حتى أحاديث جديدة لم تذكر (يعني من قبل) خالية من التكرار، لا ذلك الكلام الذي جرت به الألسن من زمن بعيد مضى، وهو ما تكلم به الأجداد ...
إني أقول ذلك بحسب ما قد رأيت، مبتدئا بأقدم الناس حتى وصلت إلى أولئك الذين سيأتون بعد ...
إن العدالة قد نبذت وأخذ الظلم مكانه في وسط قاعة المجلس، وخطط الآلهة قد انتهكت حريتها وأهملت نظمها، والبلاد صارت في هم، والحزن عم كل مكان، وصارت المدن والأقاليم في عويل، وكل الناس صاروا على السواء يرزحون تحت عبء الظلم. أما الاحترام فإن أجله قد انتهى ...
وعندما أريد أن أتحدث عن كل ذلك تنوء أعضاء جسمي بحمله، وإني في بؤس من أجل قلبي المحزون، وإنه لألم أن أهدئ روعي من جهته. ولو كان قلب آخر لانثنى، (ولكن) القلب الشجاع في الملمات يكون رفيقا لسيده. ليت لي قلبا يتحمل الألم، فعندئذ كنت أركن إليه ... فتعال إذن يا قلبي لأتكلم إليك، ولتجيبني عن كلامي ولتفسر لي ما هو كائن في الأرض ... إني أفكر فيما قد حدث. إن المصائب تقع اليوم، ومصائب الغد لم تأت بعد، وكل الناس لاهون عن ذلك، مع أن كل البلاد في اضطراب عظيم، وليس إنسان خاليا من الشر، فإن جميع الناس على السواء يأتونه، والقلوب بالحزن مفعمة، فالآمر والمأمور صارا سواسية، وقلب كل منهما راض بما حصل، والناس عليه (يعني الشر) يستيقظون في صباح كل يوم، ولكن القلوب لا تنبذه، ولا تزال اليوم على ما فعلته في ذلك بالأمس؛ فلا يوجد إنسان عاقل يدرك، ولا إنسان يدفعه الغضب إلى الكلام، والناس تستيقظ في الصباح كل يوم لتتألم. إن مرضي ثقيل وطويل، والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة لينجو ممن هو أشد منه بأسا. وإنه لمؤلم أن يستمر الإنسان ساكتا على الأشياء التي يسمعها، ولكنه مؤلم أن يجيب الإنسان الرجل الجاهل.
অজানা পৃষ্ঠা