على أن هذه الظاهرة لذلك النوع من النحت قد بالغ في تأكيدها النقاد الأحداث، يدل على ذلك أن أعظم ما أخرجه نحاتو عصر الدولة القديمة يظهر لنا أنهم كانوا قد بدءوا يبرزون قوة الشخصية الممتازة واستقلالها حينما أخذت تبرز لنا لأول مرة في شخص الفرعون المهيب، يظهر لنا ذلك بوضوح مؤثر في صور ذلك العصر المعبرة التي في مقدمتها تمثال «خفرع» باني الهرم الثاني بالجيزة، مما كان له بلا شك تأثير عميق في التصورات الخاصة بالإلهية، ويضاف إلى ذلك مجموعة كبيرة من الصور تنقل إلى مخيلتنا تأثيرات هامة عن شخصيات تلك الطائفة من عظماء الرجال الذين كانوا يحيطون بالفرعون في عصر الأهرامات، من رجال السياسة والحكماء والفنانين ورجال العمارة والمهندسين، وهم الذين جعلوا من مصر منذ خمسة آلاف سنة مضت بلدا يضم عجائب المباني التي لا تزال إلى يومنا هذا تعد من عجائب الدنيا ، في حين أن مباني غرب آسيا أقيم معظمها من الطوب طوال العصر الذي سبق بناء القصور الإمبراطورية في فارس، وقد محيت الآن عن آخرها، وهذه الموازنة لا تخلو من الأهمية وتؤيد الاعتقاد بأن مصر كانت البلد الذي ولد فيه أول عصور الشخصيات العظيمة.
على أن ظهور أولئك الرجال ذوي الشخصيات العظيمة لم يكن وليد الساعة، بل كان ثمرة التجاريب والحياة النظامية مدى ألف سنة من تاريخ البشر، فكانوا أول رجال أمكنهم الرجوع بالبصر ليجيلوا أنظارهم في ذلك الماضي حيث يشرفون على مشهد عميق من حياة الإنسان الأولى. ولا بد أنهم كانوا أثناء قيامهم بذلك يتلمسون في الظلام أحسن تعبير يعبرون به عن آرائهم نحو نظام بني البشر، على أن يكون ذلك التعبير متضمنا سر تلك الأعمال العظيمة التي ورثوها عن أسلافهم السابقين.
وقد انتهى بهم الأمر فعثروا على بغيتهم التي نشدوها في التعبير عن ذلك بكلمة واحدة جامعة حوت في ثناياها كل معاني السمو والرفعة في الحياة البشرية، تلك الكلمة هي «ماعت»، التي تعد من أقدم التعابير المعنوية ذات المعاني المتعددة التي وصلت إلينا من كلام بني الإنسان منذ الأزمان الغابرة، وهي التي سبق لنا التعبير عنها هنا بالكلمات الآتية: «الحق» و«العدل» و«الصدق»؛ وذلك لأن تلك المعاني كلها قد انتهى الأمر بأن مثلت في لغة المصريين الأقدمين بهذه الكلمة الواحدة «ماعت»، وتلك الكلمة كانت تستعمل عند أجدادهم في أول الأمر لأداء معنى واحد فقط هو «الحق» بمعنى «الصواب»، كما نستعمل نحن كلمة «صواب» هذه في العلوم الرياضية والأخلاقية معا.
ثم إنه في بداية عصر الدولة القديمة أخذ معنى كلمة «ماعت» هذه يتسع تدريجا حتى صار يشمل معنى واسعا عظيما، فلم تكن تعني نقيض الباطل فقط، بل تعني نقيض الأخطاء الخلقية على وجه عام أيضا، على أننا لا نعلم متى بدأ هذا التطور في معنى تلك الكلمة، غير أن الذي يجدر بنا ملاحظته هنا أن كلمة «ماعت» هذه لم ترد في الجزء الذي عثرنا عليه من المسرحية المنفية، وإن كان من الجائز أن عدم ذكرها في هذا الجزء راجع إلى مجرد المصادفة المحضة.
وبعد سنة 3000ق.م بدأ عظماء رجال الدولة القديمة يجدون في معاني كلمة «ماعت» ما يعبر عن الأمور التي جاءت وليدة التجارب القومية، والتي كان لها أثرها في الحياة العامة للأمة، فمع أن تلك الكلمة العظيمة لم تفقد شيئا من دلالتها على صفات الإنسان الخلقية الشخصية، فإنها صارت تعبر أيضا في نظر عقول رجال الفكر في الدولة القديمة عن معنى النظام القومي؛ أي النظام الخلقي للأمة والكينونة القومية التي تسير تحت سلطان إله الشمس.
ولنعد بذاكرتنا الآن قليلا إلى ذلك الماضي الذي أمكن حكماء الدولة القديمة أن يرجعوا البصر للتأمل فيه، ذلك الماضي المتسع الذي كان في أنظارهم سببا لاتساع معنى كلمة «ماعت» أيضا حتى ألبسها كل تلك المعاني الآنفة، فقد كان لدى أولئك الحكماء قوائم بأعمال الملوك الأوائل الذين حكموا البلاد المصرية قديما قبل العهد الذي تأسس فيه الاتحاد الأول، فكانوا على علم بأن ذلك الاتحاد قد مهد له حكم الدويلات المحلية الصغيرة، وأنه بما تم فيه من توطيد أركان النظام في مصر قد أفضى مرة ثانية إلى قيام الاتحاد الثاني الذي دام عهده ألف سنة؛ أي من حوالي القرن الخامس والثلاثين إلى حوالي القرن الخامس والعشرين ق.م.
ومن المهم جدا أن نلاحظ أن هذه هي أول مرة في تاريخ البشر نجد فيها ألفا كاملا من السنين المتصلة الحلقات دون أن يمس فيها اتصال الخبرة القومية، أو بعبارة أخرى اتصال التطور البشري في هيئة قومية موحدة، فقد كان تطورا ثابتا قامت فيه أمة يبلغ تعدادها بضعة ملايين من النسمات البشرية لأول مرة فوق الكرة الأرضية بتأسيس بناء ضخم من الحياة البشرية المنظمة دام مدة ألف سنة متوالية لا انفصام لها.
وقد كان التأثير البالغ الذي استولى على نفوس أولئك الحكماء من تأملهم في حالة تلك الحكومة الراسخة الأركان ونظامها الدقيق الذي كان يسير بدون انقطاع طوال مدة ذلك العصر هي التي جعلت كلمة «ماعت» المصرية القديمة تتسع وتزيد زيادة محسوسة فتحمل من المعاني أكثر مما كانت تحمل من قبل، حتى صارت في نهاية الأمر لا تدل فقط على معنى «العدل» أو «الصدق» أو «الحق»، مما كان يتصور رجال عصر الأهرام أنه شيء يترسمه ويسير بمقتضاه الفرد الإنساني، بل صارت أيضا تدل على معنى الحقيقة الواقعة التي تسود الناحية الاجتماعية والحكومية، بل أصبحت تلك الكلمة تعبر عن النظام الخلقي للعالم، وصار هذا النظام وحكومة الفرعون يدلان على معنى واحد. وقد كان كبير القضاة في المحاكم المصرية القديمة يحلي صدره بصورة من اللازورد رمزا للإلهة «ماعت»، وكان من عادة القاضي أن يشير إلى المحق من المتخاصمين الواقفين أمامه بتوجيه ذلك الرمز إليه.
وكان الحكيم «بتاح حتب» يفخر بسيادة «ماعت» وخلودها فيقول: «إن ماعت عظيمة، وتصرفها باق، فلم تخذل منذ زمن بارئها.»
وكثيرا ما نجد على الآثار القديمة أن ماعت هي الشيء الذي يعتبره الفرعون شخصا يشد أزره أمام الفوضى والظلم والخداع الذي كان يقع ضده من مناهضيه للاستيلاء على العرش، ممن كانوا يبتلون الشعب بما يحدثونه من سوء النظام. ولقد كانت ألف السنة التي قضتها الحكومة المنظمة بتلك الكيفية هي التي وضعت أمام أعين حكماء الدولة القديمة تلك الصورة الجليلة التي تمثل الأثر الفعال والإحسان البالغ اللذين أسدتهما «ماعت»، مما أسبغ عليها معنى تاريخيا لم يكن من الممكن اكتسابه بطريقة أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা