وكان ذلك الوقف يبلغ أحيانا مقدارا عظيما من المال بحالة مدهشة؛ ففي القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد أوقف على قبر الأمير «نكاورع» ابن الملك «خفرع» ما لا يقل عن اثنتي عشرة بلدة من أملاكه الخاصة، وربط كل دخلها على الصرف على صيانة قبره. وفي عهد الملك «وسركاف» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م، عين مدير قصره ثمانية من الكهنة الجنازيين لخدمة قبره، وبعد ذلك بقرنين نجد أن أميرا من الوجه القبلي وقف على قبره محاصيل إحدى عشرة قرية وضيعة. وفي قبر من تلك القبور نجد أن دخل كاهن جنازي كان وحده يكفي للصرف على قبر ابنته على النمط الذي سنه صاحب القبر لنفسه، يضاف إلى هذه المخصصات التي هي من موارد الشريف الخاصة ما كان يهبه الملك في كثير من الأحوال من هبات جديدة لأي شريف بعد وفاته، وبذلك كان يزيد في المخصصات التي ربطها الشريف بنفسه على قبره أثناء حياته، أو كان الملك يقوم بصرف كل المخصصات اللازمة للقبر من الدخل الملكي.
والظاهر أن هذه المخصصات فضلا عن كونها تقي المتوفى شر مخاوف الجوع والعطش والبرد في الحياة الآخرة كان يقصد بها أكثر من أي شيء مساعدته على الاشتراك في إقامة أهم أعياد السنة، واحتفالاتها الدينية، فإن شأن المصري في ذلك كشأن أي شرقي آخر يجد السرور العظيم في الاحتفالات الدينية، فلم يرض أن يتخلى بعدما فارق الحياة الدنيا عن الملاذ الجميلة التي كانت تتاح له كثيرا في مثل هذه الفرص. لذلك كان تقويم الأعياد عنده بمكان عظيم من الأهمية، فكان مستعدا لتخصيص دخل وفير يساعده على إقامة تلك الاحتفالات الخاصة بكل أيام التقويم الهامة في عالم الآخرة، كما كان ينفق عليها بسخاء بين أصدقائه في حياته الدنيا، بل إنه كان في الواقع ينتظر أن يشترك في الاحتفال بهذه الفرص المرحة بين أصدقائه في المعبد كما كان معتادا فعل ذلك في حياته الدنيا، فكان يأمر تنفيذا لذلك أن يشاد له تمثال في ردهة المعبد، وكان الملك أحيانا يأمر حفاريه بنحت هذا التمثال وإقامته داخل المعبد؛ ليكون منه بمثابة عطف سام يميز به من يشاء من أشراف رجاله العظماء.
وكذلك كان شريف عصر الأهرام ينصب في قبره أيضا تمثالا من الحجر أو الخشب يمثل صورته الحقيقية تمثيلا تاما في حجمه الطبيعي وملونا بالألوان الطبيعية، وكان هذا التمثال يخفى في حجرة سرية مخبوءة في أصل بناء المزار. وكثيرا ما كان الملك يهدي أمثال هذه التماثيل لزعماء الأشراف الممتازين من رجال حكومته وبلاطه. ومن البدهي أن ذلك التمثال الذي يمثل المتوفى [وهو أقدم شيء عرف من نوعه في الفن] كان الغرض منه أن يقوم مقام المتوفى الذي ضاع جسمه، وبذلك يكون في مقدوره أن يعود إلى المعبد ليتمتع على الأقل بشبه حضور جثماني [بتقمصه هذا التمثال]، ثم يعود بنفس تلك الطريقة إلى مزار قبره حيث يحتمل أن يجد صورا أخرى لجسمه في الحجرة السرية الملاصقة للمزار فيتقمصها.
من مثل هذه الطقوس نرى ظهور الحياة الآخرة في شكل أكثر تقدما وأحب إلى الناس من ذي قبل، وقت أن كانوا يتصورونها في شكل ساذج بسيط. وتدل هذه الآراء الجديدة على ظهور أو ميل نحو الاعتراف بشخصية الفرد كما يلاحظ ذلك في تلك التماثيل التي تصور هيئة صاحبها بالضبط، والتي تعد أقدم ما عرف من نوعها. وهي تمثل لنا علية القوم المتعاظمين فقط [أي تمثل طبقة الأشراف رجالا ونساء]، أما عامة الشعب فكانوا وقتئذ لا يزالون من غير شك يعتقدون أن موتاهم يسكنون القبر أو يعيشون في عالم الغرب المظلم؛ أي في تلك المملكة السفلية التي يحكمها الآلهة الجنازيون القدامى الذين صار زعيمهم في النهاية «أوزير». أما عظماء البلاد؛ أي الملك وبطانته على الأقل، فقد انبثق أمامهم الآن فجر مصير أسعد حالا من مصير عامة الشعب؛ إذ كان في مقدورهم أن يسكنوا حسب رغبتهم مع إله الشمس في مملكته السماوية الفاخرة، ومن ذلك الوقت فصاعدا نجد في القبور الملكية ما يدل على هذه الآخرة الشمسية.
وقد كان من المعقول أن الملك نفسه ينتظر أن قبره العظيم يتغلب على عوامل الدمار والفناء التي قد تصيب مقابر أشراف رجاله التي هي أقل متانة من قبره، وكذلك كان يعنى بتنظيم أوقافه لتبقى ثابتة أكثر من أوقاف معاصريه الذين هم أقل منه قوة. والواقع أن الهرم اعتبر في كل الأزمان أثبت شكل هندسي في البناء؛ فقد كان الفرعون الراقد تحت هذا الجبل الضخم من الأحجار المنيعة يتطلع إلى خلود جسمه وشخصيته التي كانت مرتبطة به ارتباطا وثيقا لا انفصام له. وقد يمتد بنا البحث إذا فحصنا أصل الهرم من جهة هندسة بنائه، ولكن من المهم أن نلاحظ في هذا المقام أن القبر الهرمي الشكل كان رمزا شمسيا بالغا حد الغاية في التقديس قد أقيم فوق جثمان الملك ليحيي مطلع الشمس التي كان الفرعون من سلالتها.
والواقع أن الملك كان يدفن قديما تحت نفس رمز إله الشمس الذي كان منصوبا في حجرة قدس الأقداس بمعبد «عين شمس»، وهذا الرمز الهرمي الشكل كان إله الشمس قد اعتاد أن يظهر جاثما فوقه في هيئة الطائر مالك الحزين (فنكس) منذ اليوم الذي خلق فيه الآلهة. لذلك لما ظهر الهرم الملكي بشكل جبل شاهق فوق ضريح الملك، وقد أشرف على المدينة الملكية التي كانت مبنية في أسفله، وعلى الوادي الممتد إلى ما بعده بعدة أميال، كان من غير شك يعد أسمى شيء يرحب بإله الشمس في كل البلاد عندما يرسل أشعته الصباحية الساطعة على قمة الهرم الوهاجة قبل أن ينشر ظلاله على مساكن الفقراء المنتشرة بأسفله ببرهة طويلة. وقد عثرنا فعلا على قمة هرم، وهي قطعة من الجرانيت المصقول البديع هرمية الشكل ملقاة عند قاعدة هرم الملك «أمنمحات» الثالث بدهشور، وقد نقش على أحد جوانب هذا الحجر - وهو من غير شك الجانب الذي كان يواجه الشرق - رسم شمس مجنحة فوق صورة عينين نقش تحتهما هاتان الكلمتان: «جمال الشمس». فالعينان تشيران هنا بطبيعة الحال إلى فكرة المشاهدة التي تفهم من تينك الكلمتين «جمال الشمس»، ونجد أسفل ذلك نقشا آخر يتألف من سطرين يبتدئ بقوله: «لقد فتح وجه الملك «أمنمحات الثالث» ليتمكن من رؤية رب الأفق عندما يقلع في عرض السماء.» [انظر شكل
6 ].
ويجب أن نرى في اختيار الشكل الهرمي - الذي يعد أعظم رمز شمسي - لقبر الملك برهانا آخر على سيادة المذهب الشمسي في البلاط الفرعوني. ومما يجدر بنا ملاحظته في هذا المقام أن من أهم دواعي المحافظة على الشكل الهرمي عند إهداء قبر ملكي، الاحتماء من «أوزير» بوجه خاص وطائفة آلهته.
ولم يكن الهرم مبنى منعزلا قائما بذاته، بل كان جزءا من مجموعة، وبعبارة أدق: الجزء الأعظم من مجموعة رائعة من البناء تشغل موقعا بارزا على حافة هضبة الصحراء المشرفة على وادي النيل؛ إذ كان قائما على الجانب الشرقي للهرم معبد منخفض ملاصق لمبنى الهرم نفسه، له رواق ذو عمد جميلة قائم بمقدمته، يؤدي إلى ردهة ذات عمد خلابة تحيط بها حجرات المعبد على كلا الجانبين، وكان يقوم في مؤخرة المعبد مكان مقدس، وكان الجدار الذي خلف «قدس الأقداس» هذا، هو واجهة الهرم نفسه الشرقية، وقد أقيم أمام هذا الجدار باب وهمي ملاصق له يمكن للملك المتوفى الخروج منه من ضريحه ليتسلم القرابين المقدمة له، ويتمتع بها في ذلك المكان.
ويلي ذلك طريق مؤدية من وادي النيل إلى حيث مستوى الهضبة المقام فوقها الهرم أو المعبد، وكانت تلك الطريق مسقوفة ذات طول عظيم، وكانت مقامة من أحجار صلبة ضخمة وممتدة إلى نفس باب المعبد، وكان يقوم عند الطرف الأسفل من ذلك الطريق معبد آخر فخم ذو عمد، يعتبر بمثابة باب هائل للطريق، وقد سمى الأستاذ «ريزنر» هذا المعبد بحق «معبد الوادي». ومن المحتمل أن ذلك المعبد كان يوجد بداخل جدران مدينة المقر الملكي التي كانت في أسفل الوادي. وبهذين المعبدين كانت بطبيعة الحال تقام الشعائر الدينية الجنازية التي كانت تجرى بنظام على روح الملك، فهما شبيهان في أصلهما بمزار قبر الشريف الذي تكلمنا عنه فيما سبق.
অজানা পৃষ্ঠা