مكوث النبي ﷺ لحاجة الناس
عاتب الله ﷾ الذين نادوا رسول الله ﷺ من وراء الحجرات، وهناك عاتب الله داود ﵇ الذي كان معتكفًا وراء الأسوار، وفرق بين هذا وبين ذاك؛ لأن النبي ﷺ مكوثه بين الناس واعتكافه في المسجد وأبوابه مفتحة، وما امتنع في لحظة من الحظات عن الناس بخلاف صلاة الليل أو موضع النوم فهذا أمر يشترك فيه الجميع، وإلا فقد كان من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهو في مصالح الناس، كما جاء عن جميلة بنت فلان أنه ﷺ خرج لصلاة الفجر فإذا سواد عند البيت، فقال: (من هذه؟ قالت: جميلة بنت فلان، قال: ما شأنكِ؟ قالت: زوجي فلان لا أنا ولا هو، فاستمهلها حتى صلى واستدعى زوجها وقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم أردها وزيادة، قال: أما الزيادة فلا، فقال له: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) .
فهذا رسول الله في مصالح المسلمين من طلوع الفجر.
وأبعد من هذا: رجل جاء إلى النبي ﷺ وهو مع أصحابه وقال: (يا رسول الله! لي بعير قد ندّ عليَّ، عنده جمل هاج عليه، فما دخل الرسول في هذا؟ ولكن ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧] فقال: قوموا بنا إلى بعيره، فلما أقبلوا على البستان والبعير، قال أبو بكر: على رسلك يا رسول الله الجمل هايج، قال له: (بل على رسلك أنت يا أبا بكر)، وتقدم ودخل البستان على الجمل الهايج، فلما رأى الجمل أن رسول الله قد دخل البستان أقبل عليه ووضع عنقه على كتفه، وصبر وأصغى إليه رسول الله.
سليمان يقول: ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل:١٦]، وهذا يستمع لمن؟ للجمل، ولذا يقول السيوطي ﵀: ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي نبينا نظيرها.
ثم رفع البعير رأسه والتفت النبي ﷺ إلى صاحبه وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي -يعني: حصلت بينكما خصومة- قلة العلف وكثرة الكُلف)، هذه العبارة كما يقولون: تعطي قانون توازن الحياة بكاملها عند الإنسان والحيوان وكل الكائنات.
قانون المبادلة بين البعير وصاحبه؛ يعطيه العلف فيعطيه العمل، فإذا قلل في العلف قلت قوة البعير بقدر ما أعطاه، وإذا زاد في العلف زادت قوة البعير، وزاد في عمله الذي يعطيه، فبقدر البدل يكون المبدل، وأنت تذهب للسوق وتدفع وتأخذ، تدفع عشرة ريال تأخذ كذا، تدفع ألف ريال تأخذ أكثر، تدفع مليون ريال تأخذ عمارة، وقانون المبادلة هو الذي يسير العالم بين الإنسان والإنسان في المعاوضات، وبين الإنسان والحيوان في التكليف، حتى قالوا: هناك قانون للمعاوضة والمبادلة قائم بين الحيوانات نفسها.
وذكروا أن التمساح حينما يأكل فريسته في الماء؛ فإنه لا يستطيع أن ينظف أسنانه كما تفعل الهرة وبقية الحيوانات، فالهرة إذا أكلت بلسانها نظفت نفسها كأحسن ما يستاك المسلم، لكن التمساح لا يستطيع؛ لأن طواحينه فيها شوك في الأركان الأربعة مثل الإبر، فلا يستطيع أن يمرر لسانه عليها وينظفها، فيخرج إلى البر ثم يأتي طائر خاص من أنواع الطيور ويقع في وسط فم التمساح، ويأخذ يلتقط تلك الفضلات الموجودة على طواحينه، فمن جهة يشبع الطائر، ومن جهة يتنظف فم التمساح.
وقد سألت طبيبًا بيطريًا عن السبب في أن هذا الطائر بالذات هو من يفعل هذه المهمة؟ فوصفه لي بأن حجمه بقدر الحمامة الصغيرة.
قال: هذه قدرة الله، وهذا ما اختص الله به هذا الطائر؛ لأن الله جعل لهذا الطائر شوكة فوق رأسه، فلا يستطيع التمساح أن يطبق فمه عليه، فهو يخاف من تلك الشوكة.
سبحان الله العظيم! إذًا: قانون المعاوضة هو الذي يحكم تصرفات العالم من إنسان وحيوان وحيوان.
حتى الأرض والتربة؛ إذا أعطيت التربة سمادًا وماءً وخدمة أعطتك إنتاجًا أحسن، وإذا أهملتها ما أعطتك أي شيء، وهكذا.
وعودًا على ذي بدئ فإن النبي ﷺ ما كان يحتجب عن الأمة، وما كان يمنع أحدًا من الوصول إليه، وكما قالت المرأة التي مر عليها في المقبرة ووجدها تبكي عند قبر لها فقال: (يا أمة الله اتقي الله واصبري، فلم ترفع رأسها، وقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فأتاها إنسان، وقال: أتدرين من كان يكلمك؟ قالت: لا، قال لها: هذا رسول الله)، فأسفت المرأة على هذه المواجهة وتبعته، فكان قد وصل البيت فأتته وقالت: والله ما وجدت على بابه حارسًا ولا بابًا مقفلًا.
يعني: ما كان عنده حراس يمنعون الناس من الدخول عليه حتى بالليل، وكان ﷺ يتخذ حراسًا، ولكن لما نزلت المعوذتان قال: (انصرفوا عني، لا حاجة لي بكم)، فهنا ما كان يمتنع عن أحد، فما كان هناك موجب ولا داعي لأن يأتي إنسان أو وفد وقت القيلولة أو الراحة وينادي: يا محمد اخرج إلينا، فهذا منافٍ للآداب، ومنافٍ للحقوق النبوية، والرسول ﷺ ما تأخر عنهم.
والذي يهمنا مما سبق: هو المقارنة بين دفاع الله عن رسول الله فيمن ناداه من وراء الحجرات، وبين عتاب الله لنبي الله داود في اعتكافه وراء المحراب من أجل مصالح الناس، والله تعالى أعلم.
2 / 13