كنت أتمنى ألا يعاديني أحد في القسم غيرة أو حسدا يتحولان إلى كراهية مستمرة وعداوة ظاهرة. لم أفعل شيئا يضر أو يؤذي أحدا، بل كنت طيبا وكريما مع الكل، إلا أن الأهواء البشرية كثيرا ما تطغى على طيبة القلب وصفائه، والأخطر من ذلك تكوين محور ضدي في مجلس القسم حتى لا يكتمل النصاب، فتبطل قراراته. وكانت العداوة تظهر في اللجان المشتركة لترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين من أجل تكوين محور معاد للمتقدم أو في صفه بغض النظر عن الأعمال العلمية وتقييمها. وفي إحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة عندما قررت مناقشة كتابي عن «فشته فيلسوف المقاومة» ووزع الكتاب على أعضاء اللجنة، أخذ أحد الأعضاء الحاسدين النسخة ورماها أمامه، وكان يبيع كتبه المقررة على معظم الجامعات التي ينتدب إليها، ويوزع الدرجات العلمية، الماجستير والدكتوراه، على الأصدقاء بتسجيلها في الجامعات الإقليمية التي يدور عليها، ولما نلت جائزة الدولة التقديرية عام 2007م سعى بالواسطة إلى أن ينالها هو الآخر. ونجح في ذلك، وقضى نحبه وهو خارج من أحد معاهد التدريس.
أتمنى أن أعيش لكي أرى الجامعة وقد عادت إلى مركز البحث العلمي، بعد أن تحولت إلى معهد لإعطاء الدرجات بالمصروفات بعد أن طبقت النظام الأمريكي، الساعات المعتمدة وإعطاء
A B C D E ، فأصبح هم الطالب الحصول على الدرجات، وكتابة رسالة صغيرة مادتها من الإنترنت، ووضع مئات المراجع في آخرها وهو لم يقرأها. وأصبح هم الأستاذ يبيع الكتب المقررة ليس فقط في مرحلة الليسانس بل أيضا في مرحلة الدراسات العليا. وشاركت الجامعة كوسيط تجاري بين الأستاذ والطالب، تشتري المقرر من الأستاذ، وتطبعه وتبيعه للطالب فيما يسمى بنظام «التعليم المفتوح» الذي لا يتعلم فيه شيئا منه، لا منهجا ولا موضوعا، بل يحفظ الكتب التي اشتراها بآلاف الجنيهات، ويدفع فيه الطالب العربي عشرات الآلاف؛ كل ذلك من أجل الحصول على الدرجة العلمية التي لا تؤهل لأية وظيفة أو مهنة بل تزيد أعداد العاطلين. كنت أريدها جامعة أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق وأمين الخولي، أساتذة لمدارس علمية، يجمعون بين العلم والفكر، بين هموم الفكر وهموم الوطن.
كنت أتمنى أن أكون أكثر نشاطا في العمل العام، وأكثر فاعلية في تضحياته، ولا أكتفي بالعمل العلمي في «التراث والتجديد» أو العمل الثقافي: في «قضايا معاصرة»، «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن»، «حوار الأجيال»، «دراسات فلسفية»، «دراسات إسلامية»، ولا بالثقافة السياسية الشعبية مثل «الدين والثورة»، «من منهاتن إلى بغداد»، «جذور التسلط آفاق الحرية»، «الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى»، «الواقع العربي المعاصر»، «نظرية الدوائر الثلاث»، ولا أكتفي بانضمامي إلى الإخوان المسلمين في الخمسينيات أو بحزب يساري «التجمع» في السبعينيات، ولا اكتفائي بالتنظير السياسي في «اليسار الإسلامي» في الثمانينيات. وتأتيني الآن خطابات عديدة من تيارات مجهولة كي أكون عضوا مؤسسا فيها مثل الحزب الشيوعي المصري، وحركة شباب الإخوان، فأرد بالاعتذار لكبر السن، واكتفائي بالعمل النظري. و«اليسار الإسلامي» ما زال ضعيفا على مستوى الممارسة العملية، وإن كان موجودا في حزب النهضة في تونس وحزب الاستقلال والتنمية في المغرب وفي تركيا، وهو موجود أيضا في رؤية ماليزيا وإندونيسيا. والأهم من ذلك أنه موجود في قلوب الناس وتمنياتهم بدلا من صراع التيارين الإسلامي واليساري على السلطة التي يستولي عليها العسكريون.
كنت أتمنى أن تحكم مصر حكما ائتلافيا بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد؛ الإسلامية (الإخوان)، والقومية (الناصريون)، والليبرالية (الوفد)، واليسارية (الماركسيون) من أجل خلق برنامج سياسي وطني موحد للقضاء على المشاكل الاجتماعية التي لا يختلف عليها اثنان مثل: التحرر الوطني، والحرية الفردية، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والهوية، وحشد الجماهير؛ فما زالت مصر تحكم في عصرها الحديث بطرف واحد قبل الثورات العسكرية أو بعدها، إما الوفديون أو العسكريون، إما العسكريون أو الإسلاميون، إما قريش وإما الجيش. أحدهما وطني، والآخر خائن. أحدهما ناج، والآخر هالك. فهل الحقيقة واحدة يمتلكها فرد واحد أم هي وجهات نظر لأفراد متعددين، والحقيقة افتراض نظري يعمل عليه الجميع؟
كنت أتمنى أن تكون مصر كما كانت في الستينيات زعيمة للأمة العربية وقائدة لنهضتها القومية والاشتراكية، قادرة على تجميعها، وتكون العالم حولها، كما فعلت في تكوين دول عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودول العالم الثالث، والشعوب الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، تكون لها الأغلبية في الأمم المتحدة، ولا يجرؤ أحد على المساس بها أو غزوها أو تكوين قواعد عسكرية فيها أو إدخالها في أحلاف مثل حلف بغداد أو حلف القاهرة والرياض وتل أبيب أو صفقة أو صفعة القرن التي يتم تنفيذها الآن بعد تغيير اسم الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير تكون إسرائيل مركزه بديلا عن مصر. وكما كنا في الستينيات بؤرة للعالم الثالث مركزه مصر والهند ويوغسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، نكون الآن بؤرة لتحالف جديد بين مصر وتركيا وإيران ، نملأ الفراغ في الشرق الأوسط بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي تملؤه أمريكا وإسرائيل، فلا نخسر دولتين لنا معهما إرث ثقافي وسياسي مشترك بسبب وجود الإخوان في تركيا والثورة الإسلامية في إيران، فيعود الخيال السياسي ليتحرك في مصر بدلا من أن تظل يدها ممدودة غربا وشرقا كي تعيش. تركت العراق مجزأة، وسوريا مدمرة، وليبيا متقاتلة، واليمن مشتتة الصف. وقد توفي عبد الناصر وهو يصالح الأردن مع المقاومة الفلسطينية من كثرة الإجهاد للذهاب للمطار لاستقبال الرؤساء وتوديعهم، بدلا من أن يذهب رئيس أكبر دولة عربية لاستقبال ولي عهد دولة عربية أخرى مخالفا قواعد البروتوكول السياسي. تخلت مصر عن دورها المركزي في قلب الوطن العربي، فانهالت عليها الضربات من الشرق، روسيا، ومن الغرب، أمريكا، ومن الشرق، إيران، ومن الجنوب، الحبشة.
أتمنى أن أعيش عاما أو عامين لأكمل «هيجل والهيجليون الشبان» (اليسار الهيجلي)؛ وبالتالي أكون قد أديت مهمتي للفكر وللوطن، للجامعة والمجتمع. لا أغضب من أحد، وأسامح الجميع، وأشعر بالسيد المسيح في قلبي يدفعني إلى التسامح والمحبة، عفا الله عما سلف، وأحاول أن تنتشر هذه الروح في القسم؛ المصالحة.
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . وضعت وديعة باسمي في الكلية للصرف من ريعها السنوي على النشاط العلمي للكلية والأقسام في إقامة ندوات ومؤتمرات حتى لا يعيش كل قسم في عزلة عن الآخر، وكلها تدرس نفس الموضوع «اللغة»: اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية والصينية، أو العلوم الإنسانية، علوم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، كما جعلت للأقسام ودائع أخرى، قسم اللغة العربية ذكرى لأخي سيد، وقسم الدراسات اليونانية واللاتينية الذي رشحني لجائزة الدولة التقديرية، وربما قسم الفلسفة الذي عشت فيه أستاذا خمسين عاما منذ 1966-2018م، وقبلها أربع سنوات أخرى طالبا (1952-1956م)؛ لأنه لم يرشحني لأي شيء، ومن رشحه القسم لم ينل إلا صوتا واحدا أو صوتين في مجلس الكلية. ووزعت الربع الأخير على عمال الكلية بالتساوي. واكتشفت بعد أن قررت الدولة التعامل بالفيزا أن الفرق بين المرتب والمعاش لم يصلني منذ هذا النظام؛ أي منذ أكثر من سنتين. وحولتني الشئون المالية بالكلية إلى إدارة المعاشات في أول شارع الهرم لأن ذلك ليس من اختصاصهم. وذهبت مع سائق تاكسي حدثني عن صدقه وأمانته ونسيان أحد أثرياء العرب لفة بها الملايين من الجنيهات أو الدولارات لا أذكر، ووجد فيها بطاقته، وذهب إليه ليعطيه إياها، وعرض عليه المكافأة الكبرى التي رفضها وطلب فقط نسبته الشرعية وهي 10٪، وهو سائق لواء بالجيش، ولا يعمل سائقا، وقادر على تصليح كل شيء؛ نجارة وحدادة وسباكة وكهرباء. ومكثت في إدارة المعاشات دقائق معدودة لأن إدارتي في كوبري القبة، ورأيت سائق التاكسي في انتظاري مع أني لم أطلب منه ذلك، وأوصلني إلى مدينة نصر، وأعطيته ضعف الأجر لأنه بلا عداد، وطلب المزيد فأعطيته ما أراد. وطلب بيته، وكان يتكلم في المحمول ولم يشعر أن العربة التي أمامه قد توقف صاحبها فجأة لوجود مطب على الكوبري، فاصطدمت عربته بالعربة الخلفية. وإلى الآن ما زالت الإدارة المالية تحيل من يذهب إليها بخصوصي إلى المعاشات مع أن المعاش يحول إلي عن طريق البنك بانتظام. وأخشى أن يكون في الأمر فساد بعد أن أصبح هو المصدر الأول للرزق للفقراء والأغنياء على حد سواء، فساد بالمئات أو فساد بالآلاف أو فساد بالملايين أو فساد وتهريب إلى الخارج بالمليارات كما حدث من المخلوع وأنجاله وصحبه، وأقاربه. ثم عرفت أنهم كانوا يحولون الفرق بين المرتب والمعاش إلى البنك عندما تكاثرت عليه الأسئلة من الزملاء.
كنت أتمنى أن أعيش أطول ولو أني راض من أني تجاوزت الثمانين، كي أعطي أكثر مما أعطيت، وأن أقوم بواجبي تجاه حقوق الشعب وواجبات الدولة وأمانة الوطن. وكنت أسر في رحلاتي إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي عندما أرى أجيالا جديدة قرأتني وهي في الثانوية حتى قبل الجامعة وأسعدتها رؤيتي، تريد أن تتصور معي وكأني أحد النجوم، وكأنني أحد المشايخ، ورئيس طريقة صوفية. وأنا وزوجتي كذلك؛ فزوجة مولانا مثل مولانا في الاحترام والتقديس، وتقارن بين فكري الثوري وشخصيتي الهادئة، كيف يعاديني المحافظون وأنا أرد عليهم في هدوء شديد وبمحبة لهم وعذرهم، وتمنياتي أن يفتح الله عليهم، وأن ينير عقولهم، يحيون أوطانهم، ويعبرون عن عصرهم؛ فكل إنسان هو ابن وقته كما يقول الصوفية. ومع ذلك إني راض تمام الرضى في هذه الثمانين عاما. والحمد لله أنني أعطيت وأخذت، ولي أسرة وأحفاد وأصدقاء ومحبون. والأهم، أثري على الناس وفي التاريخ والذكرى الطيبة.
أتمنى أن أدفن بجوار من أحببت طيلة حياتي، توفيق في الاختيار وسعادة في طول البقاء. ولن يحزن من في مقبرة أبي وأمي وأخي وزوجته وشقيقتي وخالتي وحماتي وزوج أختي وعلي النجار من أقربائي؛ فالروح لا مكان لها، تتزاور بين البساتين وطريق السويس. أتمنى أن تكون ضغطة الموت خفيفة؛ فقد تعبت في حياتي، وأرجو ألا أتعب في وفاتي. وأتمنى أن ألقى من كتبت عنهم، فشته وبرجسون، والأفغاني وإقبال. وأتمنى أن ألقى أساتذتي عثمان أمين وجان جيتون وطلابي، نصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وأتمنى أن أرى أولادي حازم وحاتم وزوجته وحبيبة الأسرة مروة وحنين وأحفادي، أنس وعلي وخديجة ولارا. أتمنى أن يغفر الله الذنوب، ويعفو عني، وأن آتيه بنية صافية
অজানা পৃষ্ঠা