في نهايته أو ما أسماه هوسرل الكوجيتاتوم
Cogitatum ؛ فالأنا ذات وموضوع، وبينهما إحالة متبادلة. ولو امتد بي العمر لنقلت إلى العربية «جوهر المسيحية» لفيورباخ حيث يحول فيه الثيولوجيا إلى أنثربولوجيا، وذلك لمساندة محاولات المعاصرين بمشروع مشابه داخل الحضارة الإسلامية، وكتابي الأخيرين عن «برجسون، فيلسوف الحياة»، «فشته، فيلسوف المقاومة». وكان بودي الكتابة عن فلاسفة الحياة، ليس بالضرورة كتبا، ولكن يكفي المقالات العلمية كما كنت أفعل في بداية حياتي العلمية الفلسفية في «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» و«الكاتب» و«المجلة». وقد جمعت فيما بعد في «قضايا معاصرة» (جزءان)؛ الأول «في الفكر العربي المعاصر»، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر»، وأيضا في «هموم الفكر والوطن» (جزءان). كنت أود أن أكتب عن فلاسفة الحياة الذين أتوا ليملئوا الفراغ بين العقليين والحسيين مثل دريش
Driesch ، دلتاي
Dilthey ، جويو
Guyau ، فوييه
Fouillée ، ثم فلاسفة الشخصانية مثل مونييه بعد أن قدمها محمد عزيز لحبابي في المغرب باسم الشخصانية، وهو مؤسس مجلة «روح»
Espirit
مع بول ريكير، ويمثل اليسار المسيحي. كما كنت أود الكتابة عن فلاسفة الوجود مثل هيدجر، وياسبرز، ومارسيل، وميرلوبونتي. وكنت أود الكتابة عن أورتيجا إي جاسيه بعد أن كتبت عن «ثورة الجماهير»، ونيتشه فيلسوف القوة والعدم بعد أن قدمه فؤاد زكريا.
كنت أود أن أنشط اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية، كما فعلت مع الجمعية الفلسفية المصرية، وبعد الاجتماع الأول، بدأت الصعوبات؛ أولها عدم وجود جمعيات فلسفية إلا في تونس والمغرب والأردن ولبنان، وعدم وجود التمويل اللازم لنفقات سفر الأعضاء أو الإقامة، وعدم وجود النية الصادقة والحماس اللازم للعمل الجماعي. وكنت أود أن أحول قسم الفلسفة عندنا إلى مركز للتفلسف، وخلق مدارس فلسفية يحاور بعضها بعضا، بدلا من الخصام والتوتر والمقاطعة بين الأساتذة. كما كنت أود أن أجمع أقسام الفلسفة في مصر في مؤتمر سنوي من خلال الجمعية الفلسفية المصرية أو بدونها بدلا من هذا التشتت الذي جعل بعضنا لا يعرف البعض الآخر. كنت أود أن أضع لكل قسم خطة بحث علمي للماجستير والدكتوراه بدلا من الاختيار العشوائي والمكرر. وكنت أود أن يظهر أثر هذه الرسائل في الواقع المعاش حتى لا يكون مكانها مجرد وضعها على الرفوف؛ فالفلسفة ليست بأقل أثرا من الأدب، بل إن استمرار غالبية المؤتمرات السنوية في جامعة القاهرة بدأ يشق على النفس، وتظن باقي أقسام الفلسفة أنها استكبار بالقاهرة على باقي المدن. ولم تتردد الجمعية الفلسفية المصرية ولا كلية الآداب في أن تستضيفها إحدى الجامعات المؤتمر السنوي تدعيما لنشاطها كما فعلت جامعة الإسكندرية، وجامعة بني سويف، وجامعة المنيا، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وما زال الباب مفتوحا للجميع، وإلا فإن قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة يشرفه أن يكون بؤرة النشاط الفلسفي في مصر والوطن العربي والجامعات العربية.
كنت أود أن أقرأ أكثر وأكتب أقل خاصة من مكتبتي الزاخرة بكل فروع الفلسفة، تاريخها اليوناني والروماني والوسيط والحديث والمعاصر، والفكر الشرقي القديم وفلسفة الدين، والفلسفة العامة وفلسفة الفن، وباقي العلوم الإنسانية، المنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع. كنت أود إكمال ثقافتي في الفلسفة السياسية وأن أقرأ العلوم السياسية والاقتصادية. وكنت أود أن أكمل ثقافتي في تاريخ مصر وتاريخ العرب الثقافي. وكنت أود إكمال ثقافتي للعالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكنت أود الكتابة عن «أمريكا، الأسطورة والحقيقة» بعد أن أعددت مراجعها ولم ينقصني إلا الوقت والناشر الجيد. كنت أود أن تجمع مؤلفاتي في دار نشر واحدة، أعمالا كاملة أم مجزأة حتى يسهل الحصول عليها كما هو الحال مع أعمال الجابري الموجودة في مركز دراسات الوحدة العربية؛ فقد تناثرت دراساتي بين دار الفكر العربي، دار الكتب الجامعية، الهيئة العامة للكتاب، دار عين، مركز الكتاب للنشر، مدبولي، الأنجلو المصرية، مركز الكتاب المصري الحديث، وغريب، وقد طبعت على نفقتي الخاصة منعا لهذا التشتت ظانا أن ذلك يجمع المؤلفات في مكان واحد مثل: «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس»، «اليسار الإسلامي»، «من النقل إلى العقل»، الجزءان الرابع: «علوم التفسير»، والخامس: «علوم الفقه»، و«محمد إقبال»، «من النص إلى الواقع»، «وطن بلا صاحب». وما زلت أنوي طباعة «هيجل واليسار الهيجلي»، «ذكريات» على نفقتي الخاصة؛ فأنا لم أعد قادرا نفسيا على التسول أمام أبواب الناشرين، بل هم الذين يأتون إلي سائلين. وكيف لي أن أستمر في التعامل مع رجال أو نساء لا هم لهم سوى الربح، ولا شأن لهم بالثقافة الجادة ونشرها؟ لقد انتهى العصر الذي تم فيه تكوين اللجنة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر التي أسسها زكي نجيب محمود وأحمد أمين وثالث لا أذكره، ولم تستطع الهيئة العامة للكتاب أن ترثها؛ فقد تغير عصر الثقافة إلى عصر التجارة.
অজানা পৃষ্ঠা