لأنه لا يبصر الأشياء حاضرا وكل هذا ما كان نافعا له لو لم يكن له حس الذوق إذا يصل الغذاء إليه فلا يدرك أنه موافق له، أو محالف فيأكله فيهلك كالشجرة تصيب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه وربما يكون ذلك سبب هلاكها ويبسها وكل هذا لا يكفيه لو لم يحلف في مقدمة دماغه إدراك آخر يسمى حسا مشتركا تتأذى إليه هذه المحسوسات وتجتمع فيه فإنه إذا أكل شيئا أصفر مثلا فوجده مرا غير موافق له فتركه فإذا رآه مرة أخرى لا يعرف أنه مضر مر ما لم يذقه ثانيا لولا الحس المشترك لأن العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا حتى إذا رأى الصفرة حكم بأنه مر فيمتنع عن تناوله ثانيا وهذا كله تشاركه فيه الحيوانات إذ للشاة هذه الحواس فلو لم يكن له إلا هذا لكان ناقصا لأن هذه الحواس إنما هي للحاضر فأما الغائب وإدراك العواقب فلا ولما كان المقصود الأعظم من خلق الإنسان هو معرفة خالقه وعبادته والعبادة لا تكون لمن لا يعرف أكرم الله الإنسان وميزه بصفة أخرى أشرف من الكل وهي العقل فبه يفرق الإنسان خالقه ويدرك المنافع والمضار في الحال والمآل إذ أنفع الحواس وأبعدها مدركا العين الباصرة والعقل أشرف منها لأن البصر لا يدرك نفسه ولا يدرك إدراكه ولا يدرك آلته أما أنه لا يدرك نفسه ولا إدراكه فلأن القوة الباصرة وإدراكها ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة وأما أنه لا يدرك آلته فلأنها هي العين والقوة الباصرة في العين لا تدرك العين وأما العقل فإنه يدرك نفسه ويدرك إدراكه ويدرك آلته في الإدراك وهي القلب والدماغ وأيضا البصر لا يدرك الكليات والعقل يدركها ومدرك الكليات أشرف من مدرك الجزئيات أما أن البصر لا يدرك الكليات فلأن التبصر لو أدرك كل ما في الوجود ما فهو أدرك الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحال والاستقبال وأما أن العقل يدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها وما به المشاركة غير ما به الممايزة فالإنسانية من حيث هي إنسانية مغايرة لهذا المشخصات وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير وإدراك الجزئيات واجب التغير ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات، الوقعة تحته لأن ما ثبت للماهية يثبت لجميع أفرادها. وأيضا الإدراك الحسي غير منتج لأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس أخر بل لو استعمل آله الحس مرة لأحس به مرة أخرى وذلك لا يكون إنتاج إحساس لإحساس آخر. وأما أن الإدراك العقلي، ينتج فلأنا إذا عقلنا أمورا، ثم ركبناها في عقلنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخر وأيضا الإدراك الحسي، لا يسع الأمور الكثيرة، والعقل يتسع لها. أما أن الحس لا يتسع لها فلأن البصر ، إذا توالى عليه ألوان كثيرة التبست عليه،فأدرك لونا كأنه حاصل من اختلاط هذه الألوان والسمع إذا توالت عليه أصوات كثيرة التبست عليه ولم يحصل التمييز والعقل يتسع لها. ولأن كل من كان تحصيله للعلوم، أكثر، كانت قدرته على كسب الجديد أسهل لأن مهما حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتائج آخر وهكذا يتمادى الإنتاج وتتمادى العلوم لكن هذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدي إلى طريق التفكير وإنما منع أكثر الناس من زيادة العلوم لفقدهم رأس المال وهي المعارف التي تستثمر العلوم كالذي لا رأس مال معه فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك رأس المال ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا فكذلك قد يكون مع الإنسان ما هو رأس العلوم ولكن لا يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضي إلى النتاج وأيضا البصر لا يدرك الشيء المرئي مع غاية القرب مع غاية البعد، والعقل عنده القرب والبعد سواء فإنه يدرك ما فوق السموات، وما تحت الأرض، ويدرك ذات الله تعالى مع كونه مقدسا عن القرب والبعد والجهة وأيضا الحس قد يقع في إدراكه الغلط كثيرا فإنه يدرك الصغير كبيرا كالنار البعيدة في الظلمة وكالعنبة في الماء ترى كالإجاصة وكالنقطة من النار إذا كانت على رأس عود وحركته باستقامة فإنه يرى خطا ممدودا، من نار وإذا حركته على دائرة بسرعة يرى دائرة من نار ولا وجود لهما أصلا ويرى المعدوم موجودا كالسراب في الصحراء فإنه يري ماء ويرى المتحرك ساكنا كالظل يراه ساكنا وهو متحرك ويرى الثلج أبيض ولا بياض فيه أصلا فإنه مركب من أجزاء شفافة لا لون لها وهي الأجزاء المائية الرشية فلو لا العقل لكان معتقد صحة ما أدركه حسه مخطئا خطأ فاحشا ولهذا قال أفلاطون وأرسطو وبطليموس وجالينوس: الحسيات غير يقينية بمعنى أن جزم العقل بالحسيات ليس بمجرد الحس، بل لا بد مع الإحساس من أمور تنضم إلى الحس لا تعمل ما هي وحينئذ يجزم العقل بما جزم به من المحسوسات. وهذه القوة العقلية، باعتبار إدراكها للكليات، والحكم بينهما بالنسبة السلبية والإيجابية تسمى العقل النظري وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية، مما ينبغي أن يفعل أو يترك تسمى العقل العملي، وقد اعتنى علماء فرنسا ومن حذا حذوهم باستعمال العقل العملي وتصريفه فاستخرجوا الصنائع العجيبة والفوائد الغريبة فاقوا بها المتقدمين وأعجزوا المتأخرين رقوا بها أعلى المراقي وحصل لهم بها الذكر الباقي فلو استعملوا مع هذا العقل النظري في معرفة الله، وصفاته وفي معرفة حكمته في خلق السموات والأرض وما يلزم للإله من الكمال وما يتقدس عنه من النقص وما يمكن في حقه أن يفعله وأن لا يفعله لكانوا حازوا المرتبة، التي لا تدرك والمزية التي لا تشرك ولكنهم أهملوا استعمال هذه القوة النظرية حتى إنهم لا يسمع منهم لها ذاكرا ولا يعثر عليها في كتبهم ناظر حتى لقد حكى عن بعض علماء الوقت الآن أنه قال إن الضوء يمشي من الجسم المضيء إلى ما يقابله من الأجسام كذا وكذا مترا في كذا وكذا ثانية، أو دقيقة، وتلقى العامة منه هذا القول بالقول فلو استعمل هذا العالم قوته النظرية في حقيقته هذا الضوء لم يحكم بانتقاله لأن الضوء لا يحلو إما أن يكون جسما أو عرضا ولا ثالث لهما. فلو كان الضوء عرضا يمشي من الجسم المضيء إلى ما يقابله من الأجسام كان لا ينتقل إلا بانتقال الجسم الذي قام به ذلك العرض باتفاق العقلاء إذ حقيقة العرض هو مالا يقوم بنفسه ولو كان الضوء جسما كان لا يداخل الأجسام ولو دخل الضوء إلى بيت من طاق فسد إنسان الطاق دفعة واحدة كان يلزم أن تبقى الأجسام المضيئة في البيت على تقدير أن الضوء جسم وهو غير واقع بالمشاهدة وإنما هي حقيقة الضوء عرض يحدث في ظاهر الجسم الكثيف من مقابلة الجسم المضيء له، إذ كان بينهما جسم شفاف وإنما يحدث ذلك الضوء من السبب الذي يحدث منه ضوء الجسم المضيء كالشمس والسراج فالذي يخلق الضوء في الجس المضيء يخلق الضوء في الجسم المقابل له فالضوء عرض يجل في الجسم الكثيف ولا يحل في الهواء كما توهمه قوم بدليل أن القاعدة في غار طويل في الجبل لا يدري بالليل ولا بالنهار خارج الغار والهواء يدخل الغار بلا شك.
خاتمة الباب الأول
পৃষ্ঠা ১০