تنبيه العقل المدرك من الظاهر البين عند أصحاب العقول السليمة أن النفس إنما دخلت هذا العالم الجسماني لتكتسب العلم النافع والعمل الصالح وأشرف العلوم النافقة معرفة الله تعالى ومعرفة حكمته في أفعاله وفي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وهذه المعرفة لا تدرك بحاسة من الحواس وإنما تدرك بالعقل فكان العقل لهذا أشرف ومدركاته أشرف ولما كان البدن مركبا للنفس وآلة لتحصيل الأعمال الصالحة خلق الله للإنسان الحواس الظاهرة والباطنة وأكرمه بالعقل الذي هو أشرف من الكل فخلق له حاسة اللمس حتى إذا مسته نار محرقة أو سيف جارح أحس بذلك وهرب وهذا أول حس يخلق للحيوان فلو لم يحس أصلا لم يكن حيوانا وأقل درجات الإحساس أن يحس بما يلاصقه ويماسه فإن الإحساس بما يبعد منه، إحساس أتم. وهذا موجود في كل حيوان ولو لم يحلق للإنسان إلا هذا الحس لكان ناقصا لا يقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنه بل ما يماس بدنه يحس به فيجتذبه إلى نفسه فقط فافتقر إلى حس يدرك ما بعد عنه فخلق له الشم إلا أنه يدرك به الرائحة ولا يدري من أي جهة جاءت فيحتاج إلى أن يطوف كثيرا من الجوانب وقد يعثر على الغذاء الذي شم رائحته وقد لا يعثر فيكون ناقصا لو لم يحلق له إلا ذاك فخلق له البصر ليدرك به ما بعد عنه ويدرك جهته، فيقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يحلق له إلا هذا لكان ناقصا إذ لا يدرك ما وراء الجدران والحجب فحلق له السمع حتى يدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات.
পৃষ্ঠা ৮