وأما الفتاة الأخرى فهي نحيفة أيضا، وهي أيضا ذات أثداء عربيدة لها رقبة طويلة بعض الشيء، لكنها لا تغض من جمالها، ولها وجه أسمر يميل إلى الطول، وعينان حالمتان تبدوان ضيقتين، فإن أنعمت فيهما النظر أحسست أن صاحبتهما هي التي تضيق منهما، كأنها تحقق النظر في شيء تحبه؛ فنظرتها دائما كأنما تقول لمن تلقى إليه لكم أحبك. وهي ذات شعر أسود غير ثائر ولا هادئ أيضا، وإنما هو شعر قوي صقيل متكاثر تمسك بأطرافه ضفيرتان تأخذان سبيلهما على ظهر ناهد في غيظ أن تقيدهما الأشرطة وإن كانت من حرير.
وأتمت آمال وناهد تجميع الكتب في حقيبتيهما، وخرجتا لا تلتفت واحدة منهما إلى التلميذات الأخريات، فقد كانتا تحسان عند انتهاء اليوم الدراسي أنهما ردتا إلى العالم الخليق بهما بعيدا عن الدراسة والتلميذات والمدرسات. وكان هذا الشعور ينبت في صدر كل منهما دون اتفاق بينهما عليه، أو على الأقل دون أن يتفقا عليه بلغة الكلام، وراحتا تجتازان الردهة الطويلة التي تفصل حجرة الدراسة عن الفناء. ولم تأبه ناهد حتى أن تنظر إلى الفتاة التي اصطدمت بها فأوقعت منها حقيبتها، وإنما مالت في كبر فالتقطت الحقيبة، بينما كانت آمال قد سبقتها بخطوتين. ولم تتعمد ناهد أن تسرع من خطاها، ولا اهتمت آمال أن تتمهل، ولكن سرعان ما سارتا جنبا إلى جنب مرة أخرى. ومرت أمامهما مدرسة فوقفت الخادم الجالسة في الردهة، وفي عظمة رفعت لها آمال يدها، وكأنها ترد تحيتها. وكانت ثلة من الفتيات تسير أمامهما، وجرت قطة خلف آمال وناهد ودلفت من بين رجلي ناهد وقفزت إلى أرجل الفتيات، ونظرت ناهد إلى أسفل، ثم أرادت أن تواصل سيرها، بينما راحت الفتيات يصرخن بين خائفة ومتظاهرة بالخوف. وفي إهمال حالم عبرت ناهد وآمال ثلة الفتيات وواصلتا سيرهما إلى السلم وراحتا تنزلانه درجة درجة. وأخيرا التفتت آمال إلى ناهد: أتظنين أنهم يأتون اليوم؟ - طبعا. - وهل ... - سنرى.
واصلتا سيرهما حتى خرجتا من الباب دون أن تنظر واحدة منهما إلى البواب الكهل الذي حياهما في ابتسامة ساذجة، وسارت الفتاتان في الطريق، حتى إذا بلغتا شارعا جانبيا انحرفتا إليه، ولم يطل بهما المسير، حتى انحرفتا مرة أخرى إلى طريق آخر. وقالت آمال وكأنها فوجئت: جاءوا!
وقالت ناهد في عظمة مطمئنة: طبعا. - وماذا سنعمل؟ - سنرى.
وسارتا وعبرتا السيارة المكشوفة التي كانت واقفة على جانب الطريق وبها شابان؛ فأما السيارة فأنيقة غاية الأناقة ذات خراطيم كبيرة من المعدن تخرج من مقدمتها وتتجه إلى أسفل فتكسبها عظمة وتفردا، وقد كانت مقدمة السيارة طويلة والخراطيم كثيرة. وأما الشابان فقد كان أحدهما أسمر اللون نحيفا، والآخر يميل إلى البياض قدر ميله إلى السمن، وكان هو الذي يمسك بمقود السيارة. وقد دأب الشابان أن ينتظرا آمال وناهد منذ ثلاثة أيام في هذا الموعد كما دأبا أن يسيرا خلفهما بالسيارة حتى تلتفت إليهما ناهد في صوت هامس مثير: بيتنا هنا.
فيعود الشابان أدراجهما لينتظرا في اليوم التالي، ويسيرا ويسمعا النغمة الهامسة المثيرة ويعودا.
وسارت السيارة خلف آمال وناهد، ولكن الشاب السمين سبق الفتاتين وأوقف السيارة ونزل منها، واعترض الطريق. وهمست آمال لناهد: ماذا سنعمل؟
ولم تجب ناهد، وإنما واصلت سيرها، وأرادت أن تعبر الشاب، وأرادت آمال أن تفعل مثلها، ولكن الفتى مد ذراعيه ونظرت إليه ناهد نظرتها الساجية وقد أضافت إليها بعض عتاب وقالت في همستها المثيرة: الناس!
وقال الشاب: نحن وحدنا.
وقالت ناهد: ماذا تريد؟ - ماذا تريدين أنت؟ - أروح. - أما يكفي هذا؟ - ما هو؟ - كفى. - ماذا؟ - أتمانعين في فسحة صغيرة بهذه السيارة؟ - وماذا نقول في البيت؟ - تقولين كان عليكما واجب في المدرسة.
অজানা পৃষ্ঠা