وفي حفل عشاء صغير أقامه الكاتب السويسري أدولف موشك وزوجته الكاتبة لزوجتي ولي، وحضره عدد آخر من الكتاب، أسرني ذلك الجو الأسري البسيط الذي يحيا فيه الكاتبان: زوجة وزوج، ولم يخل الأمر من مداعبات أطلقتها عن التناقض الكامن بطبيعته بين الحياة زوجا وزوجة وبين الزمالة في العمل، فكلاهما كاتب ناجح، وحين انتهينا من العشاء ورحنا نتحدث جاءت سيرة «دورنمات»، وهنا وجدت حناجر الكتاب والكاتبات المجلجلة بدا وكأنها ازدردت لقمة كبيرة أوقفت الكلمات في الحلوق، وحين استؤنف الحديث استؤنف على هيئة كلمات متناثرة عن دورنمات، فمن قائل: لقد ماتت زوجته التي كان يعبدها وتزوج بأخرى وهو عجوز هكذا! ومن قائل: إن وزنه قد زاد كثيرا وإنه قليل الحركة جدا. ومن قائل: إنه يعاني من السكر ... أخبار محزنة على طول الخط، خاصة وقد كنت أتمنى أن ألقاه في هذه الرحلة إلى سويسرا، ولم أجد بدا من أن أبوح بأمنيتي تلك لهم، وجاءت الكلمات تترى تقول: إن دورنمات لا يقابل أحدا، إنه «سوبر ستار» الآن، ولا يقابل أحدا، كثيرون من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء يحاولون لقاءه، ولكنه باستمرار يرفض، لقد أصبح مغرورا تماما، ويوشك غروره أن يقتله في بيته المنعزل في نيوشاتل وابتسمت في سري، لكأننا في القاهرة أو في أية عاصمة عربية أخرى؛ لا رحنا ولا جينا! إن آراء الكتاب في بعضهم البعض، وإن اتخذت طابع «الموضوعية» حين تقال علنا، إلا أنه حين يصبح الأمر مسألة نميمة وآراء تقال في دائرة مغلقة، فإن كل مستور من الآراء يظهر أو بالأصح كل مستور من الغيرة أو الحقد يطفو على السطح وينطق به اللسان، ودورنمات كاتب موهوب جدا بالنسبة لبلد أوروبي صغير كسويسرا لم يعرف عنه إنتاج عباقرة الكتابة أو الموسيقى أو التصوير، وقد أخذ دورنمات طريقه إلى العالمية بسرعة شديدة، فهو يكتب بالألمانية، ومن السهل ترجمته، فقد كتب أول مسرحية له اسمها: «الأعمى والشهاب» عام 1948، وبعد عشر سنوات بالضبط كانت مسرحيته الثانية «زواج مستر مسيسبي» تقدم في برودواي في نيويورك عام 58، ناهيك عن مسرحيته المشهورة جدا «زيارة السيد العجوز» التي كتبها عام 56 (وعمره وقتها 35 عاما)، وقدمت أيضا في نيويورك، وفي كل عواصم الدنيا تقريبا، وترجمت إلى العربية، وقدمت هنا عدة مرات، كان آخرها الصيف الماضي، وإنتاج دورنمات في المسرح 18 مسرحية، فقد كتب أيضا «علماء الطبيعة»، وقدمت في مصر من ترجمة الصديق الكبير أنيس منصور، الذي زاره، وكتب عنه في الستينيات، و«روميلوس العظيم» عن آخر أباطرة الدولة الرومانية، و«هرقل ينظف إصطبل أوجياس»، و«فرانك الخامس»، و«آخر حرب الشتاء في التبت»، و«هكذا كتبت»، وأيضا اقتبس مسرحيات لشكسبير وجوته وغيرهما؛ تسع مسرحيات للآن، كتبها دورنمات، ولكنه أصبح بها أستاذ مسرح النصف الثاني من القرن العشرين؛ ذلك أن هذا الرجل يتمتع بموهبة القدرة على خلق الأسطورة الحديثة التي يحرك بها الواقع الآسن ويجعل منه فنا عظيما (وسنأتي إلى هذه النقطة في الحوار معه).
ودورنمات كروائي يأتي من الدرجة الثانية من موهبته ككاتب مسرح، وقد كتب عدة روايات؛ منها: «القاضي والمحكوم عليه» عام 55، و«الشك» 53، و«الإغريقي يبحث عن الإغريقية» 55، و«اللعبة الخطرة» 56، و «الالتماس» 58.
أجل ما بهرني في دورنمات ككاتب مسرح هو قدرته على اختراع حدوتة مسرحية معاصرة، بينما العادة جرت في معظم كتاب المسرح أن يلجئوا إلى الميتولوجيا الإغريقية مثل «أوديب» و«بيجماليون» و«إلكترا» و«الذباب»، يعيدون كتابتها برؤية حديثة ومبتكرة، أما أن «تخترع» أسطورة حديثة تماما، منتزعة من صميم عصرها ومتناقضاته، فتلك لا بد موهبة من نوع فذ تماما.
ومن هنا يختلف دورنمات عن معاصريه من كتاب المسرح العالميين مثل آرثر ميللر وتينيسي ويليامز وبيكيت ويونسكو وموروجيك وغيرهم.
إن لكل شيخ طريقته، هذا صحيح، ولكن هذا الشيخ نسيج وحده. •••
لم يفعل الحديث الذي دار بعد العشاء، إلا أن ثبط همتي تماما في لقاء دورنمات، مع أني لم أكن مشغوفا جدا بلقائه، فقد علمتني التجربة أن «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»، ثم إن خجلي الريفي الذي لم يزاولني أبدا فعل فعله فخفت أن أطلب من السيدة «زايفل» المسئولة عن زياراتنا موعدا مع دورنمات فتعتذر، ولو بلباقة، كدأبها مع كل من يطلب من الكتاب الذين يزورون سويسرا - هكذا قال لي الكتاب والكاتبات في حفلة العشاء.
صرفت النظر كما قلت، ولكن أثناء زيارتنا - زوجتي وأنا - لمنطقة سان مورتيز ولقائنا بممثل البروهيلفسيا هناك الذي اتضح أنه من الشعب الرومانشي الذي يقطن في منطقة جبال الألب، والذي له لغة خاصة وأدب خاص وحركة فنية ثقافية خاصة، والذي لا يتجاوز عدده المليون، وبعد جولة في قمم جبال الألب اصطحبنا المسئول لزيارة صديقة له وصديق يعيشان في واد صغير يقع بين جبلين بالقرب من سان مورتيز، والوادي صغير جدا والأرض والبيوت فيه غالية الثمن تماما، فلا يقل ثمن البيت فيه عن مليون فرنك سويسري، مع أنه لا يتعدى أي بيت من بيوت الفلاحين الذين كانوا يقطنون ذلك الوادي من زمن غير بعيد.
دخلنا المنزل، فهو بيت مثل بيوت الفلاحين في قرانا مصنوع من الخشب ومزود بفرن للتدفئة ولإعداد الطعام، كل ما في الأمر أن الأسرة لا تنام فوق سطح الفرن كعادتنا في الأرياف، ولكنها تنام في الحجرة التي تقع أعلى الفرن مباشرة، والتي تتكفل حرارة الفرن بتدفئتها طوال الليل والنهار، وعلى كوب الشاي الذي أعدته ربة البيت ورحنا نرتشفه بنهم بعد الجولة الحافلة في المناطق الجبلية الوعرة ذات الهواء البارد تماما، عرفها المسئول بنا، وعرفنا بها، وذكر لنا أن أخاها يعتبر من أهم الناشرين في اللغة الألمانية بسويسرا، وهنا، وفي التو، قرنت بين الناشر وبين الكاتب، وسألتها إن كان قد نشر شيئا لدورنمات؟ فقالت: أجل. قلت: إذن، تعرفين دورنمات؟! - بالتأكيد. - أأستطيع أن أعرف منك رقم تليفونه؟ - ها هو ذا، ولكن، لماذا؟
وهنا ذكرت لها رغبتي في لقائه والحديث الذي ثبط همتي، إلى آخر القصة.
ولمحت التردد على وجهها مخافة أن أطلب منها أن تحدد لي موعدا معه، فقلت لها على الفور: لا عليك، يا سيدتي، أنا لن أكلفك بالاتصال به، سأقوم أنا بهذا، وأجرب حظي.
অজানা পৃষ্ঠা