ما دمنا قد تحدثنا عن «البشر» بصفة عامة في مفهومين مختلفين، فما قولك في سؤال عن «الإنسان العربي» وحده؟ - أي سؤال؟ - في كتابك القيم «اكتشاف قارة» حللت الشخصية الألمانية والشخصية اليابانية؛ قلت إن الأولى تتحكم فيها عقدة التفوق بينما مركب النقص هو الذي يتحكم في الثانية، ترى، ما أهم مزايا وعيوب الشخصية العربية في رأيك؟
وقف ودار حول المائدة واقترب من جهاز تليفون الكازينو، رفع السماعة وأدار القرص لمرة واحدة، ثم أعاد السماعة إلى مكانها وجاء ليجلس بجواري، أشعل لنفسه سيجارة، وقال بصوت هادئ: سأغادر الإسكندرية إلى الزقازيق غدا، إن كنت ستسافر إلى القاهرة غدا، تعال معي. - شكرا، سأقضي بضعة أيام بالإسكندرية، لكنك قلت لي إنك ستقضي هنا عشرة أيام. - مللت، لا بد من السفر إلى الزقازيق، ومنها إلى الريف.
هذا هو السر إذن؛ كثرة الأسفار هي التي مكنته من التحرك في عالم متسع، من يراجع أعماله الفنية يدهش لتنوع هذا العالم وثرائه، إنه يكتب عن القرية بنفس القوة التي يكتب بها عن المدينة، أحيانا تجد أحداثه تدور في «العزبة» الصغيرة، وكأنه ولد فيها، وأحيانا تجده يتحرك في مدينة أوروبية، وكأنه من أهلها، وقطع علي أفكاري بقوله: الشخصية العربية تختلف عن الشخصيتين الألمانية واليابانية؛ هي شخصية - كما يسمونها في علم النفس - الاكتئابية المرحة؛ تتردد باستمرار بين المرح والاكتئاب، نحن لا نحتمل الحزن طويلا، ولا نحتمل المرح طويلا، في حالة حزن إذا مرحنا، وفي حالة مرح إذا حزنا.
أهم عيوب الشخصية العربية هو التعقل، نادرا ما تصاب بالجنون، تكتئب حقا حين تسوء الظروف، لكنها لا تجن، لا تجد عندنا أحدا ينتحر مثلا.
هذا العيب نفسه هو الميزة؛ نحن شعب عاقل جدا؛ لأنه متوازن، وهذا هو السبب الذي جعلنا نعيش كل هذه الآلاف من السنين - وتحت أسوأ الظروف - دون أن نفقد شخصيتنا، دون أن ننتحر. - ما رأيك في أن نعود إلى الأدب؛ كي يكون ختامها مسكا؟ - موافق. - ما الذي ينقص أدبنا ليصبح أدبا عالميا؟ - هذا السؤال أجاب عليه زميلي وصديقي الأستاذ الطيب صالح إجابة جميلة أوافقه عليها تماما؛ العالم ليس هو العالم الكبير الذي يشمل البشرية كلها، بل هو الذي يبدأ صغيرا ثم يتسع، والمفروض في الأديب أن يخاطب العالم الصغير، عالمه، فإذا نجح في مخاطبة عالمه فإنه يكون بمثابة من نجح في مخاطبة العالم كله.
وأقول لك شيئا: إن أهم ما في الأمر هو الصدق؛ هل نحن صادقون حقا في مخاطبة عالمنا؟! إن صدقنا سنصل إليه، وإذن، علينا أن نحاول الوصول إليه أولا، ثم نفكر بعد ذلك في الوصول إلى العالم الكبير.
لقاء حافل مع دورنمات
حين كنت طالب علم أقرأ المراجع الطبية، وأقرأ أحيانا كتبا لأساتذة الأدب في القرن التاسع عشر كانت صورة أولئك الأساتذة - سواء في العلم أو الأدب - تأخذ عندي طابعا مبالغا فيه تماما؛ كنت أتصور أن ذلك الرجل العظيم الذي باستطاعته أن يكتب هذا المرجع أو يحيط به، بل أحيانا يكتشف ويخترع تلك المعلومات لا يمكن أن يكون مثلنا أبدا، وكنت لا أفعل هذا عن تصور رومانسي لإنسان خرافي أو من عالم آخر كتب أو ألف، ولكن الكاتب أو العالم يعطينا فيما يكتبه خير ما عنده، أو بالأصح، معجزته الخاصة التي وصل إليها وحده، وقياسا على هذا نتصور نحن أن كل شيء فيه - مثل إنتاجه - معجزة هو الآخر ومن مجموع تلك المعجزات التي تكون شخصه يتبدى لنا في صورة أسطورية تماما، بل إني لأذكر أني بعد أن أصبحت كاتبا وصدر كتابي الأول «أرخص ليالي» كنت مدعوا إلى حفل في إحدى السفارات، ووجدت ضمن المدعوين الدكتور طه حسين يصطحبه سكرتيره الأستاذ فريد شحاتة، وكنت أعرف أن الدكتور طه حسين قد قرأ كتابي وأعجب به تماما، وأنه أوصى المرحوم الأستاذ سامي داود أن يخبرني أنه يريد أن يراني، وها هو ذا طه حسين أمامي لا تفصلني عنه إلا بضع خطوات، وما علي إلا أن أذهب إليه وأسلم عليه وأقول له اسمي، فلا حرج إذن ولا إحراج، ولا داعي للوجل، والرجل هو الذي يطلب لقائي، ومع هذا لم أستطع أن أخطو خطوة واحدة تجاه الأستاذ العميد الذي قرأت له «الأيام» و«المعذبون في الأرض» و«أديب»، والذي كنت أضعه هو والأستاذ توفيق الحكيم في برج فني خاص أقول لنفسي إنني أبدا لن أستطيع بلوغه، وهكذا مضت الحفلة وغادرها طه حسين ولم أقابله إلا بعدها بعام حين اصطحبني المرحوم سامي داود بما يشبه الإرغام للقائه في فيلته بالزمالك في ذلك الحين.
تذكرت كل هذا، وأنا في طريقي للقاء فردريك دورنمات أعظم كاتب مسرحي معاصر - في رأيي المتواضع - ذلك أني حين دعتني «البروجيلتسيا» وترجمتها: «من أجل سويسرا»، وهي الهيئة التي تشرف وتشجع وترعى الأدب والفن السويسريين، وكان رفيقي في الرحلة أستاذنا الدكتور لويس عوض، جعلوا لنا برنامجين مختلفين؛ فالدكتور لويس آثر أن يزور المتاحف والمكتبات والأماكن التاريخية، وأن يعتكف بعيدا عن الخلق يتأمل كل ما قرأ عنه في تاريخ سويسرا وأماكنها المشهورة حتى الصخرة التي كتب الشاعر الإنجليزي بايرون قصيدة مشهورة بجوارها، بينما كان اهتمامي الأول أن أتعرف على الناس؛ كتابا وفنانين، ومسرحيين من مختلف أنحاء سويسرا.
وهكذا افترقنا.
অজানা পৃষ্ঠা